لماذا عجزت ديمقراطيتنا الناشئة عن إنتاج حكومة قويّة ..بقلم خالد شوكات

ليس هناك “تنزيل” يصل إلى مستوى “النص”، فالواقع له دائماً ظروفه وشروطه التي لا يتحكّم فيها كتّاب النصوص مهما بلغت عبقريتهم، ولهذا بقدر ما تسمو النصوص إلى درجة القداسة تتدحرج تجارب التنزيل إلى درجة الحضيض، حضيض كالذي نكاد ندركه بعد تسع سنوات من الثورة ونحن نحاول تنزيل شعاراتها في الكرامة والحريّة والعدالة الاجتماعية، ونحن نحاول تنزيل نصوص الدستور الذي قطفنا فيه من كلّ بستان زهرة مما أنتجت قرائح فقهاء القانون الدستوري عبر العالم، وها نحن نفعل بأنفسنا ما لا يفعله بِنَا خصومنا لو تمكّنوا منّا، وها نحن نبتدع “تطبيقات” ما انزل الله بها من سلطان إلا رغبتنا الجماعية المحمومة في مواصلة الانتقام من انفسنا، والتعجيل بانهاء تجربتنا الديمقراطية الواعدة.
كلّ أهل العزم والقرار ممن التقيتهم خلال الأشهر الماضية، سمعتم منهم ما أكّد لي وعيهم بخطورة المرحلة، وبالمخاطر التي تهدد مسار الانتقال الديمقراطي، وبأن الحكومة الجديدة ستكون “اخر فرصة”، وبأن الاصلاحات المستوجبة يجب ان ينطلق في تنفيذها اليوم قبل الغد، وبأن هامش التصرف الذي ستتركه حكومة الشاهد لمن سيخلفها يكاد يكون صفرًا، وبأن الحكومة الجديدة يجب ان تكون قوية وجريئة وفاعلة وقادرة على الدفاع عن توجهاتها وقراراتها لأنها ستواجه من الصعوبات ما لم تواجهه اي حكومة سابقة في مرحلة ما بعد الثورة، ولهذا فعلى رئيسها ان يكون من نوعها، قويا ذو رؤية اصلاحية واضحة وذو خبرة ودراية ب”البلاد والعباد”، وبأن العمل على تشكيل الحكومة يجب ان يركز اولا على برنامج ثم يبتعد ما امكن عن منطق المحاصصة ويقترب ما امكن من منطق الكفاءة والنزاهة، فما الذي جرى يا ترى حتى يضرب التنزيل السيء بكل هذا الوعي عرض الحائط، ويجري ما جرى على نحو حوّل “الحكومة قبل ان تبدأ” الى علامة من علامات الوهن والعياء، وحوّل رئيسها “الغلبان” الى مضغة على كل لسان ؟

يقول المثل الشعبي الشائع “من نفقته بان عشاؤه”، فبدل ان تنطلق الحكومة الجديدة في اجواء من التفاؤل والثقة بالنفس، دفعت الى ان تُستباح حرمتها ويستنقص من قدرها ويقلل من شأنها قبل ان تنطلق في أعمالها، كما دفع رئيسها المسكين الى ارتكاب سلسلة من الأخطاء الاتصالية والسياسية، حيث ظهر في اغلب الأحيان وحيدا بلا ناصح امين او خبير رصين او مستشار ذو شأن وهمّة، مترددا ومتقلبا لا يدري ما يفعل، ولكي يخرج خرجات بلا جدوى او فائدة، مرددا بِدعاً ما سبقه إليها احد، من قبيل “التطبيقة” التي تختار الوزراء، ولست ادري شخصيا كيف لتطبيقة “مهما بلغت عبقريتها” ان تختار وزيرا لم يحصل على البكالوريا مثلاً، او تختار وزيرا اخر لم يمارس السياسة يوما في حياته، وهل كان رئيس الحكومة نفسه – مع احترامي وتقديري- لينجح في اختبار “التطبيقة” هذا لو خضع له.

حقيقة أنا مشفق على رئيس الحكومة المكلف، ولم تكن لي رغبة ابدا في الإعلان عن اي موقف منها، كما سبق وان كتبتُ من قبل، ذلك ان هموم البلاد كثيرة وعندها ما يكفي من عناصر النكد، ولكن الحال فاق كل تصوّر والرداءة منحت الفرصة لكل المتربصين بالتجربة الديمقراطية، وما كان لي ان أكتم هذه الأسئلة التي تموج في صدري، اذ لربّما كان القائمون على هذه السيرة يعلمون ما لا نعلم فيقومون بتنويرنا وحجب الظلمات عنّا فيما خفّي من أوجه الإبداع والكفاءة في عناصر هذه الحكومة الراشدة الرشيدة، وتبديد خشيتنا من ان تترك هذه الحكومة وشأنها بمجرد مصادقة البرلمان عليها، لتفترسها الأحزاب والتيارات التي جرى إقصاؤها، وأولها تلك التي ستمنحها الثقة.

عندما أتأمل في اسماء اعضاء الحكومة المعلنين، ومن بينهم أصدقاء شخصيين، اتساءل بكل محبة وتقدير وعطف، على اي قاعدة سيتضامن هؤلاء فيما بينهم اذا ما تتالت عليهم الهجمات، وكيف سيتصرفون مع وسائل الاعلام وغالبيتهم قادم الى العمل الحكومي من دهاليز الادارة او من تجارب القطاع الخاص حيث لا مواجهات عامة غالبا، ثم اي برنامج اصلاحي سيعتمدون، وهل لدى اغلبهم ما يكفي من الخبرة لمواجهة مراكز النفوذ واصحاب المصالح.. فان كانت الغاية من تشكيل الحكومة هي تعويض الحكومة الحالية والتمديد الزمني في أزمة البلاد والديمقراطية، فإلى ماذا يمكن ان يفضي هذا الهروب المستمر الى الامام، والى اي حد سيسعفنا الشعب في مواصلة “السياسة البعلية” و”منهج دولة الهواة” ؟

ليس لدي رغبة في اثارة مزيد من الأسئلة، خصوصا حول فلسفة مجلس شورى النهضة الموقر في اختيار رئيس الحكومة المكلف، ناهيك عن معايير اختيار اعضاء الحكومة الجدد، الذين لا يمكن لعاقل ان يحسدهم عن السياق الدي وضعوا فيه، كما لا رغبة لي في التساؤل حول هذه العبقرية التي ستقود ديمقراطية ناشئة الى تكريس عقلية “تحقير العمل السياسي” و”افراغ الانتخابات من معانيها” و”الإمعان في إنهاك المنظومة الحزبية” المنهكة أصلا، لكن لي رغبة في تسجيل موقف معترض على كل هذا العبث الذي عايناه طيلة الاسابيع الماضية، والذي فاق كل تصور او خيال مهما كان خصبا.. خلاصة القول، ما سرّ عجز نظامنا الديمقراطي المزمن عن انتاج حكومة قوّية، تظهر علامات القوة عليها منذ لحظتها التأسيسية، وهل قدرنا منذ ما لا يقل عن القرنين من الزمان ان نضيّع كل فرصة تاريخية يهبها لنا القدر للجمع بين الكرامة والحريّة، وهل مصيرنا قد ارتبط دائما بعدم القدرة على بناء منهجية صحيحة واختيار القادة الصح ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *