لا تستخفوا بالحديث عن نادي باريس .. بقلم جنات بن عبد الله

 

ما تشهده عديد البلدان مثل لبنان ومصر من انهيار قوي لعملاتها الوطنية يعتبر المرحلة الأخيرة في مسار تفكيك الدولة الوطنية عبر تخلي الدولة عن ممتلكات الشعب لفائدة رأس المال الأجنبي الذي لا نعلم هويته.
فقد صمم النظام العالمي مع نهاية الحرب العالمية الثانية على أساس توزيع الخارطة العالمية على القوى المنتصرة من خلال نظام بروتون وودز الذي انطلق بتركيز صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واتفاقية “الغات” للتجارة في انتظار بعث المنظمة العالمية للتجارة في سنة 1994 بمراكش.
وقد تم توزيع الأدوار بين هذه المؤسسات الدولية بناء على تطويق ومحاصرة البلدان “الغنيمة” من خلال اتفاقيات وقوانين تفننت في استدراج هذه البلدان في فخ الانهيار المخطط له بكل دقة استنادا الى روزنامة وضعها راس المال العالمي من خلال أذرعته المالية الدولية التي فتحت رأس مالها لهذه البلدان “الغنيمة” من باب ذر الرماد على الاعين.
عملية الاستدراج التي امتدت على عقود بلغت اليوم، بعد الإعلان عن صفقة القرن، وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، مرحلتها الأخيرة بدفع العملات الوطنية نحو الانهيار تمهيدا لبيع ممتلكات الشعوب بأبخص الأثمان على أعين شعوبها وبتواطؤ مع حكوماتها.
في تونس ومباشرة بعد تخفيض وكالة “موديز” لتصنيف تونس من “س أ أ 1 ” الى “س أ أ 2 ” بتاريخ 29 جانفي 2023 خرجت “جوقة ” من المختصين والخبراء وأغرقت المشهد الإعلامي بتحاليل تبشر بالذهاب الى نادي باريس كقدر لا مفر له لتونس بل اعتبرته حلا لخروج المالية العمومية من أزمة السيولة.
هذا التخفيض لم يكن مفاجأ فكل المؤشرات المالية والاقتصادية والاجتماعية كانت تنذر بالوصول الى نقطة اللاعودة، بل ان مجموعة من المختصين في الاقتصاد (جمال الدين العويديدي وجنات بن عبد الله وأحمد بن مصطفى) كانت نشرت بتاريخ 3 نوفمبر 2020 زمن حكومة المشيشي مقالا بجريدة الشارع المغاربي أعلنت فيه عن افلاس الدولة التونسية بناء على تراجع التصنيف الائتماني لبلادنا في شهر أكتوبر 2020 ليسارع يومها رئيس الحكومة بعقد ندوة صحفية للرد على المقال بصفة غير مباشرة ويدعي أن البلاد في المسار الصحيح بفضل الإصلاحات الهيكلية.
لقد تم التخطيط لدفع البلاد نحو الانهيار في قمة “دوفيل” في سنة 2011 وفتح الباب لدخول صندوق النقد الدولي على الخط في سنة 2012 ليتم الامضاء على أول رسالة نوايا مع الصندوق في سنة 2013 تبعتها رسائل نوايا أخرى صممت على أساس قدرة البلاد على تنفيذ برنامج الإصلاحات الهيكلية ومراعات قوى الرفض والصمود الشعبي لهذا البرنامج.
ومنذ ذلك التاريخ شهدت البلاد تمرير ترسانة من القوانين التي ترجمت مضمون رسائل النوايا من جهة، ومضمون قرارات البرلمان الأوروبي ومشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية. وقد وجدت الأجندا الأجنبية المشرفة على برنامج الإصلاحات الهيكلية في حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد مناخا ملائما لتمرير برنامجها بكل هدوء وفي ظل التعتيم والتضليل والمغالطة.
وبعيدا عن التفاصيل التي تعرضنا لها في مقالاتنا طوال هذه الفترة، انطلق التأسيس للإطار المؤسساتي لتنفيذ المرحلة الأخيرة من مسار الانهيار أثناء انعقاد القمة الثانية بين تونس والاتحاد الأوروبي حيث صرح رئيس الجمهورية قيس سعيد أثناء زيارته الى بروكسال يومي 3 و4 جوان 2021 لحضور هذه القمة في تصريح يتيم لوكالة تونس افريقيا للأنباء أن المحادثات شملت إعادة جدولة ديون تونس لدى الاتحاد الأوروبي وتحويلها الى استثمارات.
في نفس الفترة وتحديدا يومي 2 و3 جوان 2021 أدى الوزير الأول الفرنسي جون كاستاكس زيارة الى تونس حيث أعلن في الندوة الصحفية التي عقدها بالمناسبة عن المساعدة الفنية التي ستقدمها فرنسا الى تونس لبعث الوكالة التونسية للتصرف في الدين العمومي.
هذه الوكالة وقع التنصيص عليها في رسالة النوايا الثانية التي بعثت بها تونس الى المديرة العامة لصندوق النقد الدولي في سنة 2016 وأيضا في برنامج الإصلاح الحكومي الذي توجهت به حكومة المشيشي الى واشنطن يوم 3 ماي 2021.
وبمقتضى اطارها التشريعي توكل لهذه الوكالة مهام التصرف في الدين العمومي وشبه العمومي، أي ديون المؤسسات العمومية بضمانات الدولة، ليس من زاوية خدمة الدين كما هو الشأن حاليا مع الإدارة العامة للتصرف في الدين العمومي ولكن من زاوية التصرف في محفظة الدين والقيام بتحاليل تستند الى معايير السوق المالية العالمية بعيدا عن كل هاجس تنموي أو بعلاقة بالسيادة الوطنية ومخاطر التفويت في المؤسسات العمومية.
هذه الوكالة تتمتع بالاستقلالية القانونية والمالية رغم الاعتراف بوجود رقابة الدولة على أعمالها باعتبار أن ديون الدولة هي ديون سيادية.
الخطير في عملية التصرف في الدين العمومي علاقته بألية تحويل الديون الخارجية الى استثمارات وما تمثله هذه الالية من تهديد حقيقي على الدولة الوطنية وممتلكاتها من مؤسسات عمومية ومطارات وموانئ. فهذه الديون الخارجية، التي هي بضمان من الدولة، حولتها نظرية المؤسسات المالية الدولية، الى عبء على ميزانية الدولة وجب التخلص منه من خلال هذه الالية التي تسمح للدائنين بمشاركة الدولة في ملكية هذه الأصول والممتلكات وادارتها.
الخطير في هذه المقاربة، أن تحويل الدين الخارجي الى استثمارات أجنبية يمر عبر نقل ملكية الأصول والممتلكات العمومية للدولة الى المستثمر الأجنبي، أي تحويل الدين الخارجي الى حقوق ملكية دون جلب هذا المستثمر الأجنبي، الذي عادة ما يكون شركة متعددة الجنسيات، أي مليم من العملة الصعبة الى تونس باستثناء سند الدين الذي اشتراه من الدولة الدائنة والذي بمقتضاه يتحصل على حقوق الملكية في الدولة المدينة.
بعبارة أوضح تعتبر الية تحويل الديون الخارجية الى استثمارات أحد أبشع أشكال الخصخصة التي جاءت بها الليبرالية العالمية من أجل الاستحواذ على المؤسسات العمومية وممتلكات الشعوب.
ولئن تم التعتيم على هذه الوكالة منذ ذلك التاريخ، فقد واصلت الحكومات عملها في تنفيذ الروزنامة بعيدا عم الاعلام ومصارحة الشعب التونسي بما يدبر له، ليتم الإعلان بتاريخ 3 فيفري 2022 عن أول زيارة للمدير العام للخزينة العامة الفرنسي ايمانويل مولان الى تونس، وتعقد رئيسة الحكومة نجلاء بودن ببهو الحكومة بالقصبة بتاريخ 28 سبتمبر 2022 جلسة عمل مع مجلس إدارة البنك الأوروبي لإعادة الاعمار والتنمية، وهي المؤسسة المكلفة بإدارة محفظة الدين العمومي في تونس والنظر في ملفات التفويت بمقتضى اعلان دوفيل في ماي 2011 .
وبتاريخ 24 جانفي 2023 أدى المدير العام للخزينة الفرنسية زيارة ثانية الى تونس لتعلن وكالة “موديز” بتاريخ 29 جانفي 2023 عن تخفيض تصنيف تونس الائتماني، وينشر مجلس إدارة البنك المركزي بيانه التاريخي يوم 1 فيفري 2023 الذي كرر فيه ما جاء في بلاغ “موديز” متنصلا من كل مسؤولية ويعلن، على غرار “موديز”، أن البلاد دخلت مرحلة العجز عن توفير الموارد الخارجية للاستجابة للحاجيات الأساسية بما رفع من مخاطر تونس التخلف عن تسديد ديونها الخارجية.
وفي الوقت الذي انتظر فيه الرأي العام الوطني موقفا واضحا من السلطة تجاه هذه التطورات انطلقت عديد الجهات في ترويض الرأي العام واعداده لقبول خيار الذل والاهانة قاطعة بذلك مع كل الخيارات الوطنية الممكنة، في انتظار اصدار القانون الجديد للصرف، الذي يعتبر رصاصة أخرى في صدر اقتصادنا الوطني، حيث سيتم بمقتضاه تحرير الخدمات المالية ورفع كل القيود التنظيمية أمام تنقل راس المال الأجنبي ودخوله الى بورصة تونس التي ستشهد تخلي الدولة عن مساهماتها في المؤسسات العمومية أو بيع الدولة لممتلكات الشعب التي ضحى من أجلها منذ الاستقلال الى اليوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *