كلمة مدير عام الألكسو د.سعود هلال الحربي خلال ندوة فكرية عن القدس بعنوان “القدس فلسطينية”

   بسم الله الرحمن الرحيم

 

معالي الدكتور ايهاب بسيسو وزير الثقافة في دولة لفلسطين

 معالي الدكتور محمد زين العابدين وزير الشؤون الثقافية في الجمهورية التونسية

معالي الدكتور عبد اللطيف عبيد الأمين العام المساعد رئيس مركز تونس للجامعة العربية

أصحاب المعالي والسعادة ضيوف المنظمة الكرام،

 السيدات والسادة،

السلام عليكم ورحمة الله و بركاته،

تقف القدس رمزًا روحيًّا متميزًا و ثابتًا في عقائدنا و حضارتنا و ثقافتنا، و تظل كل معانيها ماثلة في مشاعر و عقل العالمين العربي والإسلامي، مشدودا إليها و منجذبا لها.

ثم هي القدس في اعتبارها الحي، رمز لوطن بأهله، فهي رأس فلسطين الصامدة المناضلة والمعتزة بأجيالها المتجدّدة التي صانت وتصون المكان عبر هزات الزمان.

و قد ارتبطت هذه القدس الشريفة ملتحمة بعقيدة المسلم منذ فجر الإسلام، منذ كانت قبلته الأولى التي اتجه إليها مسلما وجهه مخلصا إلى الله في صلواته و خلواته، ثم كرمها الله في الذكر الحكيم بمباركة مسجدها الأقصى الذي أخذت حرمته ترتفع بعد المنزلة التي عناها على التخصيص الحديث الشريف الذي نص على ألاّ تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، ثالثها المسجد الأقصى بعد مكة و المدينة.

زارها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب وهو في طريقه إلى الجابية لينظر في أحوال الشام والقوات العربية هناك، ثم زار بيت المقدس بلد الإسراء وأولى القبلتين و فيها أمضيت العهدة العمرية التي شملت جميع نصارى بلاد الشام بحيث لا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم.

و دخلها الصحابة وأصبحت من قواعد الفكر الإسلامي، و كان الخليفة عمر قد وجه إلى بلاد الشام عُبادة بن الصامت الخزرجي الأنصاري، و دخلها الصحابة وأصبحت من قواعد الفكر الإسلامي، وكان الخليفة عمر قد وجه إلى بلاد الشام عُبادة بن الصامت الخزرجي الأنصاري، وكان من كبار الصحابة الذين شهدوا بيعة العقبة وشهد بدرًا والمشاهد كلها، وجهه قاضيًّا ومعلّمًا فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين ومات بها سنة 34 ودفن جثمانه ببيت المقدس.

و لم تكن فلسطين كلها غريبة عن الحضور العربي، فقد أسسها أجدادهم الساميون اليبوسيون الذين أقاموها وعمروها منذ خمسة آلاف عام.

و تعاقبت عليها الأمم، حتى جاءها العبرانيون في فترة لاحقة، وفدوا عليها غرباء كما تنص التوراة، ولم يطل مقامهم الذي أزيح على الصورة التي فصّلها التاريخ.

و تعرّب الجزء الأعظم من سكان فلسطين الأصليين منذ العهد الأول من الحكم العربي، وينحدر معظم أولئك العرب الفلسطينيين من سكنت البلاد عبر الأزمنة الماضية، وكانت قبيلتا لخم وجذام تعيش في فلسطين قبل الفتح.

وقد خصّ القدس خلفاء بني أميّة بكل اعتبار، تمجيدًا لمكانتها الروحيّة التي خصّت بها، فأقاموا مسجدها الأقصى على أفخم صورة أُقيم عليها، مثل جامع دمشق المكسو بمشاهد الفسيفساء الزجاجية المذهّبة. وبنيت قبة الصخرة سنة 72ه بهندستها البارعة الجميلة ونسبها المتوازنة وأبعادها الشاسعة وتناسب أجزائها الفخمة على صورة نادرة، و كان تخطيطها استمدادًا من التراث البيزنطي لمخطط الروتندا.

لهذا كانت الأثر الوحيد الذي سلم من التراث الإسلامي أيام الصليبيين فلم يهدم، لأنّ الصليبيين أعادوا استعماله في وظيفة روتندا بيزنطية بعد أن استأصلوا كل التراث المعماري الديني الذي سبقهم.

و كان ظهور صلاح الدين الأيوبي القائد العظيم الذي عُدّ من رموز التاريخ، وأكثرها تكريمًا لقيمة الإنسان، لما تفيض به نفسه من السموّ والخير. فقد كان ممثلًا ومستجيبًا لمبادئ تديّنه التي نُشّأ عليها خير نشأة، فنظر إلى غُرمائه المنكسرين في ميدان المواجهة بعدما فعلوا نظرة من خلقهم الله وإياه من نفس واحدة، فشملهم من عظيم مناقبه ما سجله مؤرخُونا وسجله ذيل تاريخ وليام الصوري المعاصر المعترف بالفضل بعد استرداد القدس، مما حفظ له أطيب الذّكر.

لقد أحسّ أسرى القدس بعمق الأثر الإنساني للقائد المنتصر وما أحاط به أولادهم ونساءهم فعبّروا عن المحبة والامتنان بأن رسموا له أيقونة نصبوها في الكنائس عرفانًا وتقربا إلى الله، و مادة دعاء يستشفون بها.

ومرّت أزمنة على ذلك الوطن الآمن لم يسلم فيه من قوى مناوئة تكيد وتبيّت بليل، رغم التعايش الديني الآمن الذي قام بين المسلمين والمسيحيين، فجاء مؤتمر بال سنة 1897 ليكون بداية المؤامرة الكبرى على اغتصاب وطن وطرد أهله.

 كان أول مقرراته جمع شتات اليهود من آفاق الأرض وإحياء اللغة العبرية لتكون اللغة الجامعة والرابطة والمعبَر لتفاهمهم. وقام الانتداب البريطاني بعد انكسار الدولة العثمانية لييسر إعداد دولة الاحتلال بعد وعد بلفور، ولم يُقصّر المندوب السامي هربرت صامويل فهو الذي يسّر الهجرة من آفاق الأرض إلى فلسطين، ووفّر لهم أملاك الدولة موطنًا لإقامتهم وعبث بالأوقاف، ومكّن لهم كل عناصر النمو والتنمية على حين تحكّم في محاصرة تعليم العرب وكبح اندفاعهم نحو كل تنمية لمجابهة المستقبل، ومنذئذ والشعب الفلسطيني لم يفتأ يقاوم ويؤكد وجوده بكل الوسائل المتاحة حتى كانت كارثة فلسطين سنة 1948 وما تلاها.

منذ قيام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم اهتمت بالجوانب التي تمثلها بعد أن انفردت الجامعة العربية منذ أيامها الأولى من التأسيس بالجانب السياسي. ونقفز على الأزمنة ولا نطيل، فقد تنبهت المنظمة أوّل قيامها بفضل قيادتها وخبراءها إلى عملية تهويد أسماء الأماكن والشوارع والجبال والأودية، فتعاونت مع جامعة لوفان في بلجيكا وتولى ثلاثة من كبار باحثيها إصدار جزء عن معهد الاستشراق في لوفان كشف عن التدليس الذي أخذ في تحويل المسميات إلى أسماء عبرانية قديمة لإثبات علاقة الاسم بالماضي وبالحق في الأرض وقد صدر الكتاب سنة 1988 بعنوان: الأسماء الفلسطينية في سهل عكا ومنطقة القدس، وهو نص جدير بالترجمة والترويج.

و كانت الجامعة العبرية المتطورة والمتصلة بعلماء اليهود في العالم وراء كل خطط الغزو الثقافي والفكري الذي يواجه الفكر العربي ورجاله في فلسطين وخارجها.

و اسهمت المنظمة إسهامًا جادًّا ضمن مركز توثيق وترميم وصيانة معالم القدس الشريف الذي أقامته الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ضمن إدارة الإسكان، فاضطلع خبيرها للتراث مع الخبراء الأردنيين والفلسطينيين بإعداد ملف تسجيل القدس داخل الأسوار ضمن قائمة التراث العالمي، ثم تسجيلها في قائمة التراث المهدّد بالخطر.

و أدّت المنظمة دورها إلى جانب الحكومة الأردنية في الدفاع عن الملفين. ثم تحول مشروع الصيانة هذا إلى عمل ميداني، وفّرت له الأمانة العامة بعض الموارد لتثبيت شواهد الحضور العربي الإسلامي المتمثل في المعالم المهدّدة بالانهيار، فرتبتها حسب الأولية ورُمّم منها نحو سبعة عشر معلمًا ترجع إلى العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية، من بينها المدرسة الكيلانية وسوق القطانين وغيرهما. وكانت الدراسة الأثرية تعتمد من خبير المنظمة في اجتماع أعضاء المركز بعمان، وينجز العمل فريق مختص يعمل تحت مظلة الأوقاف الأردنية. و قد هدفت أكثر عمليات الترميم هذه إلى تحسين أوضاع إقامة العائلات المحتاجة التي تأوي وأسرها مستقرة في بعض تلك المعالم.

و لم تفتأ المؤتمرات العامة للمنظمة وخاصة مؤتمرات وزراء الثقافة ووزراء التربية العرب توصي وتعتمد كل ما يخدم مدينة القدس خاصة فقد دعوا إلى الاحتفاء بالقدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009 وإلى توأمتها مع كافة العواصم الثقافية والعمل من خلال  برامجها الثقافية والإعلامية للتعريف على أوسع نطاق بتراث المدينة الثقافي وإبراز انتهاكات السلطات الإسرائيلية المحتلة، ومعاناة الشعب الفلسطيني تحت سطوة الاحتلال.

و خصّصت حصص دراسية تعليمية في المدارس العربية للتعريف بالقدس وتراثها. واستمرت المنظمة في المشاركة في اجتماعات لجنة التراث العالمي ومواصلة التنسيق العربي للتصدي للمخططات الإسرائيلية لتسجيل مواقع التراث الثقافي في فلسطين و الأراضي العربية المحتلة، و قد تعاونت المنظمة مع قطاع الآثار والتراث الثقافي الفلسطيني لوضع دراسات تاريخية وقانونية حول موقع الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم ونشرها في مواقع المنظمة و مواصلة دعم المشروعات التربوية و الثقافية و العلمية في فلسطين. وقد تكلل الجهد العربي في منظمة اليونسكو باستصدار قرارات المجلس التنفيذي ولجنة التراث العالمي التي تؤكد عدم وجود أية علاقة لليهود بالأماكن المقدسة في القدس وفي الخليل.

 

و قرر المجلس التنفيذي (الدورة 107 أبريل 2017 ) دعوة المدير العام ليستمر في تقديم الدعم للمشروعات التربوية والثقافية والعلمية في فلسطين في دائرة المتاح من موازنة المنظمة لعامي 2017-2018 ومواصلة الجهود لدعم القضايا الفلسطينية في المحافل والملتقيات الدولية لتأكيد الحق الفلسطيني في صونه و حماية تراثه.

 كما قرر المجلس التنفيذي للمنظمة في دورته (108) ديسمبر 2018 دعوة المدير العام، إلى الإسراع في عقد المؤتمر الدولي حول رمزية القدس في الهوية العربية  الإسلامية بالتعاون مع منظمة الإيسيسكو، وإلى عقد أنشطة المنظمة عن العام 2018 تحت رمزية ” القدس فلسطينية” وهو ما تلاحظون تطبيقه  في وثائق المنظمة.  

و أمّلت أن يخصص لها موقع أو معلم تراثي مناسب يسمح بالإقامة وإيواء مكتبة للثقافة والتنوير ويتسع لبعض الأنشطة الأخرى. ولقيت هذه الدعوة صدى كريما دعيت لها المنظمة بقيادتها و مديري قطاعاتها لتشهد المحال و الممكن.

هذا عرض مقتضب عن مسايرة النضال الفلسطيني الصامد والمثابر، تسايره جهود عربية مؤازرة، نرجو أن تكلل بالنجاح ما دام هناك إصرار لأصحاب الحق ونظر بعيد إلى ما بعد الحاضر.

 أغتنم هذه الفرصة لأتوجه بالشكر والتقدير إلى كل من فخامة الرئيس السيد الباجي قائد السبسي وإلى فخامة الرئيس السيد محمود عباس على تكرمهما بأن تكون هذه الندوة الفكرية تحت سامي رعايتهما، والشكر موصول إلى كافة ضيوف المنظمة على الحضور والمشاركة في هذه المناسبة العربية التي تعكس إرادتنا جميعا بأن تبقى القدس عاصمة فلسطين الأبدية.

   

 

                    و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *