كتاب جديد عن بورقيبة .. بقلم الاستاذ سعيد بحيرة

 

 

صدر هذه الأيام كتاب الأستاذ الدكتور خليفة شاطر حول “العهد البورقيبي” ، و هو مؤلف جديد ينضاف إلى عشرات الكتب التي تناولت شخصية الزعيم الحبيب بورقيبة و دوره في الحركة الوطنية و في مسار الحصول على الاستقلال و بناء الدولة و إعلان الجمهورية، و في سياسات الحكم طيلة أكثر من ثلاثين عاما.
فهل مازال هذا الرجل يثير البحث و الدراسة و يستدعي مزيدا من التمحيص في مسيرته الطويلة ، أم أن الظرفيات المختلفة تتطلب إلقاء الضوء على ما كان معتما عليه و ربما ممنوعا من التداول و التناول؟ و الأمر لا يقتص على كبار الباحثين الذين يتداركون اليوم ما فوتوه من فرص لكتابة التاريخ بصفة حرة و موضوعية بل إن الأجيال الشابة من الباحثين في التاريخ تقبل بحماس على التنقيب في الأرشيف التونسي عما يشفي غليلها من القراءات النقدية للحركة التحريرية و فترة ما بعد الاستقلال، و يتبين ذلك من خلال العدد الملحوظ من لأطروحات التي تناقش في أقسام التاريخ بالجامعات التونسية …
و نحن نعتقد أن المؤرخ خليفة شاطر لا يكتب ليكرر ما أتى به السابقون بعد مسيرتهالأكاديمية الطويلة ،و هو الذي عايش الجزء الأكبر من مسيرة بورقيبة ، بل إنه يقدم لنا قراءة متأنية انطلاقا من الوثائق و من شهادات الفاعلين و باعتبار ما صدر من مذكرات لرفاق بورقيبة و معارضيه. فأين الاضاءات الجديدة و أين الإضافات المتميزة ؟
و بغض النظر عن تاريخ الأحداث التي أصبحت معلومة من الجميع فإن الخلاف اليوسفي البورقيبي مثلا لا يزال يغذي جدلا واسعا على مستوى الروايات و الشهادات و الوثائق التي تبوح بمزيد المعطيات كل يوم . و قد اعتمد الكاتب في هذا الموضوع على الخطاب البورقيبي و على مقتطفات من خطب بن يوسف مع الاستناد إلى مذكرات و شهادات محمد المصمودي والطاهر بن عمار و محمد الصياح وألبار ممي و بشير بن يحمد و أحمد المستيري و الباجي قائد السبسي ، و هم من أنصار الخيار البورقيبي. فهل كان موقف بن يوسف نابعا من رؤية أخرى لاسترتيجية التحرير أم أنه كان يعكس صراعا داخل الحزب الدستوري الجديد حول الزعامة ؟ أم أنه كان تذيلا للخارج و تبعية لعبد الناصر؟و هنا يحسم خليفة شاطر في تهمة التبعية و يجزم ” بأن الانشقاق اليوسفي لم يكن أبدا مؤامرة من الخارج و قد تواصلت المعارضة اليوسفية بعد الاستقلال (ص.31).و خلال مفاوضات الاستقلال التي انطلقت في 27 فيفري 1955 رفضت فرنسا التنصيص على إلغاء اتفاقية الحماية و إدراج مقولة” الاستقلال في إطار التكامل” مما هدد بتوقيف التفاوض و كاد يثبتصحة احتراز صالح بن يوسف.و قد لعب بورقيبة الدور الحاسم للوصول إلى صياغة وثيقة الاستقلال عبر اتصالاته بأصحاب القرار الفرنسي بين 17و20مارس 1956أما إعلان الجمهورية فيرجعه المؤلف إلى الثقافة السياسية التونسية التي تبلورت منذ الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر (ص.37-38) و التي تبناها الحزب الدستوري ، كما أن خطاب الحركة الوطنية اتسم بمنحى حداثي و اعتمد تشريك التونسيين في خوض المواجهة مع الاستعمار و هو ما هيأهم إلى أن يكونوا مواطنين لا رعايا لصاحب مملكة تونس. و قد سربت جريدة لاكسيون، التوجه نحو إقرار الجمهورية في عددها الصادر يوم 22 جويلية 1956 (ص.49) و بعد خمسة أيام ألغيت الملكية و سقط المخزن و انفسح المجال لتسريع وتيرةالتاريخ
و في حديثه عن الحياة الخاصة و الحياة العامة لبورقيبةيستعرض الكاتب بعض ميولات الرئيس و اختياره للمقربين. و يتعرض لدور وسيلة و شبكات رجالها في الحكم و منهم خاصة الباجي قائد السبسي و إدريس قيقة و الطاهر بلخوجة و محمد المصمودي، و لم يكن الباهي الأدغم منهم وهو الذي ساند بن يوسف ثم استقطبه بورقيبة و منحه الأمانة العامة للحزب…و تلك حال السياسة و الكثير من السياسيين !
كتبت على واجهة تربة الزعيم الحبيب بورقيبة في المنستير الجملة التالية: “المجاهد الأكبر. باني تونس الجديدة. محرر المرأة ” و في ذلك موجز للشخصية و للأثر. فهو الذي عايش الطاهر الحداد داعية حرية المرأة و لم يكن من مناصريه في مواجهته للمتزمتين و المحافظين، لكنه بادر إلى تمرير مجلة الأحوال الشخصية حالما تولى السلطة، و شتان بين المثقف المندفع و السياسي المناور! و إذا كان بورقيبة قد اعتمد حجج الحداد فإنه فضلها على مقاربة كمال اتاتورك الموغلة في اللائكية فبقي في موقع الإجتهاد من داخل الإسلام.كيف لا وهو الملقب بالمجاهد الأكبر الذي أنهى الجهاد الصغير(مقاومة الاستعمار)ليقود الجهاد الأكبر(ضد التخلف و الجهل و العروشية و القبلية)؟؟و هذه المقاربة تبقيه داخل الدولة التي دينها الإسلام و لغتها العربية…و لا عزاء لخصومه المحافظين!!
و من مآثر بورقيبة أنه استمال إلى أطروحاته المنظمات الوطنية الكبرى مثل الاتحاد العام التونسي للشغل و منظمة الصناعة و التجارة و هوالذي لم يحظر تأسيسها إذ كان في القاهرة…و أشرف على انبعاثها صالح بن يوسف الذي لم تسانده سوى المنظمة الزراعية و هكذا حسم الخلاف لصالح جناح الحبيب بورقيبة، و ذهبت اللائحة العامة الصادرة عن مؤتمر إتحاد الشغل المنعقد سنة 1956 إلى الدعوة إلى الاندماج بين الحزب و الاتحاد (ص.78)!! و بعد اغتيال صالح بن يوسف و المحاولة الانقلابية سنة 1962 انفرد الحزب الدستوري بالحكم و لم يسمح بالانفتاح السياسي إلا سنة 1981 بعد أن تم الترخيص بتكوين رابطة حقوق الإنسان و جريدة الرأي أواخر السبعينات، و جاءت بوادر الانفراج هذه بعد الشرخ الذي أصاب العلاقة مع اتحاد الشغل سنة 1978.
هل كان بورقيبة حداثيا مستنيرا ؟هل كان بورقيبة ديمقراطيا ؟هل كان بورقيبة علمانيا ؟ و هو الذي نهل من ثقافة عهد الأنوار و درس في الجامعة الفرنسية و انبهر بمقولة أوغست كونت “العيش من أجل الآخر “… المؤلف تناول هذه الجوانب بحذر (ص. 63 و ما بعدها)و استشهد برأي إبن الزعيم الذي أكد أن أباه كان لائكيا على طريقة فولتار(ص. 84)، في حين يقول أحد رفاق بورقيبة أنه كان يعتقد في رهان باسكال الفيلسوف الفرنسي الذي يدعو إلى الإيمان بالله سواء وجد أو لم يوجد…ذلك أنه إذا لم يوجد فلا خسارة للجميع، أما إذا وجد فغير المؤمن به فقط يبقىفي جهنم
وقد خاض بورقيبة جولات مأثورة مع المحافظين المتدينين انطلقت من معركة التجنيس و الفتاوي” المرمرمة “لشيوخ المخزن، و فوزه بإصدار فتوى الشيخ إدريس. و تواصلت المواجهة في رحاب المجلس التأسيسي و الجدل حول الفصل الأول من الدستور، ثم عادت سنة 1960 عند دعوته الإفطار في رمضان للحفاظ على القوة في العمل،…و بداية من 1969 أرخى بورقيبة الشعرة الذي تربطه بالشعب فتأسست الجمعيات الدينية ، و غاب انتقاد الصوم، و تم الأخذ بعين الاعتبار شهر رمضان في التوقيت الإداري،و صدر منشور سنة 1973يمنع تزوج التونسية بغير المسلم (ص. 95)…ماذا حدث؟ أشياء كثيرة…أهمها الانفتاح الاقتصادي على بلدان الخليج … وأشياء أخرى .و المسألة تستحق القراءة في كتاب الأستاذ الدكتور خليفة شاطر الذي يعتبر الفترة من 1956 إلى 1980 هي أوج النظام البورقيبي، وقد تدرجت من الحكم الجماعي (1956-1965) إلى مرحلة التعاضد ثم مرحلة الليبرالية الاقتصادية زمن نويرة ، و اخيرا مرحلة التقلبات في عهد مزالي ( من ص.121 إلى ص.161)
و في مجال السياسة الخارجية يورد الأستاذ شاطر فقرة من خطاب الرئيس بورقيبة في اختتام ندوة السفراء في شهر أوت من سنة 1965 يرسم من خلالها بورقيبة أسس و فلسفة الديبلوماسية التونسية ، وهي جديرة بأن تدرس للديبلوماسيين الشبان اليوم ..و حتى لبعض السياسيين بالصدفة السياسيين بالصدفة ص.163
وتحت عنوان “انقلاب 1987” يتناول المؤلف ملابسات إزاحة بورقيبة من السلطة بناء على شهادة أطباء أقروا بعجزه على القيام بمهامه …و قد رحب التونسيون بمختلف اتجاهاتهم بذلك الانتقال السلمي للسلطة قبل أن ينحرف نحو حكم فردي جديد…و قد قال عبد الكريم غلاب القيادي في حزب الاستقلال المغربي : لقد تم إنقاذ بورقيبة من بورقيبة ! أما سفير الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1987 فقد قال في شهادته على الحدث (ص.205) “إن نهاية النظام البورقيبي بدت تنذر بالحصول”…
و أنصح أنصار البحث عن الحقيقة بأن يطلعوا على شهادة الرجل
و الشكر موصول للأستاذ المتميز خليفة شاطر على تجشمه الخوض مرة أخرى في تناول حقبة الحكم البورقيبي و إثراء الجدل القائم حوله و الذي يتجدد و لا يتبدد.
سعيد بحيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *