قراءة لكتاب كمال بن يونس و عبد الرحمان بالحاج على وعفيف البوني ‘”تونس دولة محايدة ؟” .. بقلم الاستاذ أبو السعود الحميدي

قراءة لكتاب كمال بن يونس و عبد الرحمان بالحاج على وعفيف البوني ‘”تونس دولة محايدة ؟”

*رسائل إلى النخبة وصناع القرار

بقلم الاستاذ أبو السعود الحميدي

( اعلامي وباحث في العلوم السياسية)

صدر عن “دار الاتحاد للنشر والتوزيع” كتاب جماعي يحمل عنوان “تونس دولة محايدة؟” وهو تأليف مشترك لكل من الدكتور عفيف البوني و الأستاذ عبد الرحمان بالحاج علي والأستاذ كمال بن يونس.

موضوع حياد تونس، يمكن عدّه من المشاغل الاستراتيجية الكبرى،لم يسبق أن طرقته النخبة لأنها بدل أن تفكّر في هذا النوع من المسائل ظلّت منهمكة في صراعات حول الراهن، تجلّلها بلبوس مستقبلي هو أقرب إلى البناءات النظرية والتهويمات منها إلى المعالجة الواقعية لما تعيشه تونس وتطمح إليه.

الكتاب الثلاثة ينتمون إلى مشارب معرفية وعملية مختلفة (د.عفيف البوني أكاديمي باحث في تاريخ الأفكار، وعبدالرحمان بالحاج علي ديبلوماسي ومختص في الشؤون الأمنية وباحث في القضايا التاريخية وكمال بن يونس باحث في التاريخ والسياسة الدولية والدراسات الاستراتيجية)، لكنهم انطلقوا من سؤال واحد هو: ماذا يمكن لتونس أن تغنم من تبنيها الحياد على مستوى سلامة الوطن وأمن المجتمع ورفاه الشعب والإشعاع الإقليمي والدولي. كما تساءلوا عن العائد من ذلك على دول الجوار القريبين والبعيدين.

استفتاء شعبي ؟

الكتاب الثلاثة اعتبروا أن هذا الخيار الاستراتيجي يمكن أن يتم تبنّيه رسميا عبر استفتاء الشعب (ص9)، ويتم إيداع الوثائق المثبّتة للخيار- في حال إقراره – لدى منظمة الأمم المتحدة وباقي المنظمات الإقليمية التي تنتمي إليها تونس. ورغم أنهم لم يغفلوا إلى التنبيه إلى أن التحدّي الأكبر هو في ملاءمة الالتزامات الدولية مع الوضع الجديد في حال المضيّ فيه، فإنهم أكّدوا أن التوجّهات السياسية والديبلوماسية التي انتهجتها تونس والتمشّي الذي اعتمدته منذ استقلالها تهيّء كلّها إلى مثل هذا الخيار وتجعله معمّقا للمزايا والفضائل التي دأبت عليها تونس وميّزت توجّهاتها.

والواقع أن ما أثار اهتمام الكتاب الثلاثة بهذا الخيار هو تنامي الاستقطاب الإقليمي والدولي والذي أدّى بتونس، التي كانت تعتبر نفسها على علاقة جيّدة مع الجميع وتأنس لديها القدرة على حلّ ما يطرأ من مشاكل مع أي طرف بالطرق السلمية، أن تتحوّل إلى أحد بؤر الاستقطاب الإقليمي والدولي وأصبحت بموجبه النخب التي عادة ما تعبّر عن آرائها وكأنما هي تتكلّم باسم تونس ما بعد 14 جانفي 2011 في عداء مع هذا البلد العربي أو الجار الإقليمي أو البلد الصديق الفلاني دون أن يرتفع صوت لتنبيه هذه الأطراف من أن هذا السلوك يضرّ بعلاقات تونس وينال من مكاسبها وإشعاعها الدولي ويمسّ من تقاليدها الديبلوماسية.

ثوابت السياسة الخارجية ..ولكن

وأشار الكتاب الثلاثة على امتداد مؤلّفهم إلى أن تونس تبنّت منذ الاستقلال سياسة منحازة إلى السلم وانتمت إلى حركة عدم الانحياز غير المرتبطة بالأحلاف العسكرية، وأكّدوا على أن جيشها الجمهوري لم يحارب خارج حدوده ولم يفكّر التونسيون، مجتمعا وشعبا، في شنّ أي عدوان أو حرب ضد أي دولة أخرى، لأنهم متشبّعون بثقافة السلم ويرفضون ثقافة الحرب والعدوان ومقتنعون بأن قدرات بلادهم محدودة يجب أن تصرف في التنمية ورفاه الشعب لا في الحروب.

وشدّد الكتّاب على أن سياسة تونس قامت على: (1) المحافظة على الوحدة الوطنية للشعب التونسي وضمان الأمن والسلامة الترابية للوطن(2) التمسّك بحسن الجوار وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى(3) احترام القانون الدولي والشرعية الدولية.

واعتبروا أن وضع الحياد هو امتداد للتمشّي المعتدل والعقلاني الذي انتهجته تونس في خياراتها الاقتصادية والتنموية والديبلوماسية، وفي دفاعها عن القضايا العادلة ونصرة الشعوب المضطهدة والالتزام بمقتضيات دوائر الانتماء الحضارية والجغرافية والتاريخية: المغاربية والعربية والإسلامية والأفريقية والمتوسطية.

الأحزاب الشمولية والاجندات الاقليمية

الدكتور عفيف البوني ركّز في القسم الأول من الكتاب المعنون ب”تونس دولة محايدة: تشخيص الحاضر واستشراف المستقبل”، على استقراء العوامل الدافعة في اتجاه تبنّي تونس لخيار الحياد، وعالج بنية الكيان الوطني التونسي من خلال تحديد الموقع الجغرافي وسياق تشكّل الحدود مع الجيران، مميزا بين الخيارات التي تبنى على أساس الحقائق الواقعية التي اختبرها الزمن وتفاعلت مع الشخصية الوطنية وشكّلت عناصرها وبين الخيارات القائمة على الرغبات والبناءات النظرية والتوجّهات الإرادية مثلما هو الحال في التجارب التي تقودها أحزاب إيديولوجية أو شمولية.

وقدّم الكاتب مجموعة من الملاحق والوثائق التي تدعم السياق الذي تبنّاه للدفاع عن فكرة الحياد المطروح على تونس تبنّيها. ومن هذه الوثائق المرجعيات ذات الصلة بمبدإ الحياد أوالتحالف، وميثاق الأمم المتحدة وميثاق جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين الدول العربية، واتفاقيات جنيف في إطار القانون الدولي الانساني ومعاهدة الإخاء وحسن الجوار بين المملكة التونسية والمملكة الليبية وميثاق عدم الاننحياز ومعاهدة الأخوة وحسن الجوار بين تونس والجزائر وأهداف الاتحاد الافريقي وميثاق مجلس وزراء الداخلية العرب وميثاق اتحاد المغرب العربي وقرار الأمم المتحدة حول اليوم العالمي للحياد وقرار الأمم المتحدة حول العالمي للاعنف.

كما عرض في الفصل تجارب الحياد التي تبنّتها سويسرا ومالطة وفلندا والنمسا والسويد وكوستاريكا ومولدافيا وتركمانستان.

وتناول الأستاذ عبدالرحمان بالحاج علي في الفصل المعنون:”في أن المؤسسة الأمنية إحدى دعائم السيادة الوطنية في الدولة التونسية المحايدة”، الموقع الذي احتلته المؤسسة الأمنية في دعم السيادة الوطنية ومعاضدة الخيارات المعتدلة في المجالات السياسية والتنموية والديبلوماسية لدولة الاستقلال.

وشدّد على أن القوات الأمنية محايدة وتعمل على تنفيذ القانون ومسخّرة لحماية الممتلكات والأشخاص وهي متشبّعة بالقيم الأخلاقية والمعايير المهنية التي يتحلّى بها العون ويراعيها في عمله اليومي (ص146). مؤكّدا على أن المنظومة الأمنية قد اغتنت في 1956 بالعناصر القادمة من المقاومة المسلّحة حاملة معها عقيدة المقاومة الوطنية والتضحية في سبيل تونس وإسقاط حكم الاحتلال وتحوّلت هذه العقيدة لدى التحاقهم بسلك الأمن إلى أداء الواجب تجاه الوطن وحماية أمنه وأمن التونسيين(ص145). وأشار إلى أن العقيدة الأمنية التونسية ظلّت ترتكز على مبدإ الحياد التام إزاء الانتماء للزعامات الشخصية وإزاء التجاذبات السياسية(159).

ونوّه إلى أنه في حال وقع إعلان تونس بلدا محايدا واتخذ هذا القرار المصيري الهام فإن المؤسسة الأمنية تكون مدعوّة إلى إدراج هذا المفهوم الجديد للوضع القانوني للدولة التونسية في برامج تكوين وتدريب منظوريها حتى يتشبّعوا بمفهوم هذه الروح الجديدة ويعملوا بها(155). ومن نافل القول أن تتدعّم العقيدة الأمنية المحايدة في جوهرها بهذا الخيار الاستراتيجي الجوهري للدولة التونسية.

الحياد الايجابي ..نعم ولكن

الأستاذ كمال بن يونس استعرض في الفصل المعنون:” ديبلوماسية الحياد الإيجابي واستراتيجية تقاطع المصالح في القرن 21 تونس والبلدان المغاربية مثالا”، مفهوم الحياد وانعكاساته على مستوى تسخير جل موارد الدولة للتنمية ودعم مقوّمات السيادة الوطنية والتكيّف مع المتغيرات الاستراتيجية خصوصا في ظل اهتزاز مبدإ الحياد وعدم الانحياز لدى جل القادة العرب والأفارقة والآسيويين.

واستعرض تجارب الحياد خلال القرن العشرين وأنواعها والعلاقة بين الحياد والسيادة الوطنية في مختلف هذه التجارب في سياقات الحرب الباردة والتقلبات الإقليمية.

وأكّد في الصفحة 182 أن تونس المستقلة لم تعلن يوما الحرب على دولة أخرى ولم تسع يوما إلى الدسيسة ضد أي نظام. وهي تؤاثر دوما تسوية النزاعات بالطرق السلمية واحترام الشرعية الدولية ولم ينقطع جهدها في الكفاح من أجل إزالة الاستعمار والميز العنصري والدفاع عن الحقوق الفلسطينية. بما يؤكّد أن هذه التوجهات تجعل الشعب والمجتمع وهياكل الدولة مؤهّلين لتبنّي تجربة الحياد.

ومن خلال هذا العرض نستشف أن الموضوع، رغم أهميته، لم يحظ سابقا بأي نقاش. والكتاب طرحت فيه الأفكار الأساسية والوثائق والبيانات الضرورية لإنجاز النقاش المفيد. وبما ورد فيه من مادة هو بمثابة لوحة العرض ( canevas ) المطروحة على أصحاب الرأي للمساهمة في إثراء النقاش. كما أن المفهوم الذي تبنّته دول أخرى في ظروف جيوستراتيجية مختلفة يطرح في تونس في علاقة بفراغ فكري كبير على مستوى تبنّي تصوّر لمنوال تنموي يدفع عملية الإنتاج المعطّلة ويساهم في صياغة موقع للاقتصاد الوطني ضمن الاقتصاد الدولي الذي أصبح الرافعة الأساسية لخلق الثروة الوطنية.

رسائل إلى النخب التونسية

حياد تونس يطرح على نخبها من أجل تقليص غلواء التحامل على الأشقاء وعلى كل من له تجربة مختلفة، ولكن نتمنّاه مدخلا لإثراء التفاعل بين أصحاب الرّأي من أجل توضيح السبيل إلى عودة آلة الإنتاج وتدعيم موقع الاقتصاد الوطني في سيرورة تطوّر الاقتصاد العالمي.

أبوالسعود الحميدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *