قراءة في المسار التاريخي لليسار التونسي

 

الملخص :

كان برمنيدس الفيلسوف اليوناني  عدو الحركة والصيرورة لا يرى إلا الثبات معتبرا الصيرورة  من الاوهام التي يجب تخطيها وفي مقابل ذالك مثلت الحركة والجدل، الحل الذي تمكن به سقراط من قتل الأب البرمنيدي  وإزاحته عن مشروعه وخطابه الفلسفي، نستعير هذه المواقف لنسلط الضوء على تجربة اليسار التونسي بمختلف توجهاته  ونتفاجئ خلال مسيرته إنه في توجه لا جدلي ولا تاريخي في موقفه من التيار الاسلامي وخاصة  حركة النهضة  فهو ثابت الرؤية والموقف  لم يتقدم ولو خطوة في اتجاه الاعتراف أو التعاون  بل كلما حاول الإسلامي مدّ يد التقارب إلا ولاحقته الشكوك والاتهامات الجاهزة بل و قد يحمل جرائر غيره من اليمين  في مكان ما من العالم هذا إن لم يجد اليسار ما به يدينه من أخطاء سايرته منذ النشأة الأولى.

 

مقدمة:

إن المعارك التي خاضها اليسار مع الإسلاميين في أواخر السبعينيات والتي مني فيها بهزائم على مستوى الاستقطاب الطلابي بعد أن كان صاحب السبق  هي التي عمقت شرخ الهوة بينهما فلم يغفر له ذالك فضلا عن القراءة الأرثوذكسية للماركسية تجاه الدين، وهو ما جعل الشرخ يزداد عمقا كلما انتصر الإسلامي في أي معركة سياسية  ورغم أن الثورة وحدت كل التونسيين وكان من المفترض تجاوز المعارك الإيديولوجية والاصطفاف أمام الاستحقاقات العاجلة في انتظار تحقيق الآجل ورغم أن قادة الفاعلين السياسيين في تونس الجديدة هم طلبة الأمس إلا أن الملاحظ مغادرة الطالب الإسلامي لطفولته السياسية وأصبح واقعيا ويراعي منطق الجدل والتاريخ  بخلاف خصمه اليساري الذي ضل خارج الواقع يكرر بغرور الطوباوي اسطوانة هي وليدة مناخ ماقبل سقوط جدار برلين  فكان الواقع ساكنا وجامدا لا حراك فيه  يتبنى اليساري مهما كانت مرجعيته ونموذجه المسألة الحزبية الإسلامية ضمن أفق لا يتخطاه  إذ هو  وحده  الوصي على دولة الاستقلال وإن الإسلامي هو الخطر الأكبر وفي أحسن الحالات يجب ألا يتخطى عمله الحزبي والسياسي المواطنة التي تمنحه الحرية الثقافية دون استحقاقاتها السياسية ، هذا ما ستثبته التجربة اليسارية التونسية  فلنتتبعها في مختلف مساراتها وعبر تنوع مرجعياتها .

 

1/من رحم الحزب الشيوعي  الفرنسي خرجت أول نسخة تونسية يسارية :

ولدت هذه النسخة المشوهة إبان الاستعمار ولكن رغم تونستها  لم تستطع أن تنحت لها مكانا وسط التيارات  الحزبية التقليدية والمناشط النضالية فبقيت على هامش الدولة /الجماهير وقد نجح الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد  بزعامته الشابة  على يد الزعيم الحبيب بورقيبة في أخذ زمام المبادرة واحتكار التمثيل الشعبي  مقصيا عصفورين بحجر واحد  يمينه اعني الحزب الدستوري في نسخته القديمة  المحافظة  ويساره أعني الحزب الشيوعي التونسي  مؤلفا مع اتحاد الشغل وممثلي الأعراف واتحاد الفلاحين والمرأة  تحالفا بقي قائما حتى آخر ورثائه اعني التجمع الدستوي الديمقراطي الذي تم حله بعيد الثورة  فعاد الحزب الشيوعي التونسي للنشاط القانوني بعد ما اظطرت الدولة التونسية  تحت ضغط الواقع الاجتماعي الخارجي والواقع الداخلي المتأزم في معركة الخلافة  إبان فترة المرحوم محمد مزالي في الثمانينات ولكن رغم نضاله مع بقية القوى السياسية من أجل الحرية والديمقراطية لم يستطع هذا الحزب الموغل في القدم حتى ضمان نشاط يميزه داخل الجامعة بفصيله الطلابي وكانت الجامعة وقتئذ تموج بالتيارات الفكرية والسياسية  لذالك اعتبر هذا الحزب من طرف أهله وذوي قرباه  قبل خصومه  حزب نخبوي يمثل البورجوازية التقليدية طبقيا وإن كان مؤسستيا ينتمي إلى الأحزاب الشيوعية ذات المطالب الاجتماعية  وكثيرا ما اتهمه رفاقه اليسار بالعمالة وفي أحسن الحالات  بولائه لأجندة غير وطنية . وإنّ أتباع هذا الحزب  هم انتلجنسيا مثقفة ومعلمنة تكاد تكون بيروقراطية في عملها تتميز بشبكة من العلاقات الثقافية والاقتصادية   متينة مع القوى العميقة للدولة  وتعلن بوضوح بعد الثورة انها الامينة على الارث البورقيبي  وتنظر بريبة لكل التيارات الدينية وحتى القومية  وخاضت تجارب متعددة الفعل السياسي بعد الثورة من تحالفات  ومناشط  داخل العاصمة ومدينتين كبيرتين هما سوسة وصفاقس   إضافة إلى مدن الشمال  والغرب والجنوب لأن الجنوب بقسميه ظل عصيّا على الاختراق  بوصلتها الوحيدة  في كل مناشطها الخصومة مع النهضة بما هي المعادل الموضوعي للإسلام السياسي  واستطاع هذا الحزب  في أول انتخابات تشريعية حرة ضمان مقاعد بفضل القانون الانتخابي  المستند لأفضل البقايا  الذي سوقوا له بعد أن كشّر الإسلام السياسي عن أنيابه في عملية الاكتساح  الانتخابي  هذه المقاعد وإن كانت قليلة العدد  إلا أنها من جهة الإعلام وأدوات صناعة الرأي كانت الأكثر حضورا والأقوى فعالية  مما أثر إيجابا على تقليم أظافر النهضة الفصيل السياسي الأهم ذو المرجعية الدينية.  ولعل المفارقة العجيبة أن حصيلة  معارك القطب الحداثي أو  المسار أو حزب التجديد( عناوين للحزب الأقدم في تونس الحديثة أي الحزب الشيوعي التونسي )  لم توضع في جرابه وإنما في جراب حزب النداء  وهو يلعب دور حزب المخزن كما يحلو للمغاربة وصف حزب السلطة  فلم  يفز  هذا الحزب بأي مقعد في الانتخابات  التشريعية الأولى بعد الثورة  مما جعل  خصومه من اليمين أو اليسار يطلقون عليه حزب اليسار وتتحرك سواكن الأحداث والسياسة  لتؤدي به إلى  المشاركة في حكومة  يرفضها  حزب النداء  ومن المفارقات العجيبة أن أعداء الأمس هم اليوم حلفاء في مركب واحد  فالحكومة الحالية ربانها  النهضة والشاهد بفصيله الخارج من جلباب النداء وسمير بالطيب اليساري الشيوعي  وحزب المبادرة ممثلا للدساترة والتجمعيين.

 

2/مع بداية الاستقلال و اثناء تحديث الدولة للبنى التحتية :

عبر بناء المدارس والمستشفيات وعمليات الإصلاح الزراعي  وتحديث البنى الفوقية من خلال خيارات ثقافية  وفكرية  لعل أهمها أقرار مجلة الأحوال الشخصية ونشر ثقافة الصحة الإنجابية وتبني الاشتراكية كعنوان للتحديث  توّج أخيرا بالتعاضد  كخيار استراتيجي ضمن موضة عالمية عنوانها العدالة الاجتماعية  ضمن هذا السياق  خرجت تجربة يسارية جديدة لكنها تونسية المولد وليدة هذا التحديث  وتريد أن تواصله إلى حدّه الأقصى وهي تجربة البرسبيكتيف  وهم طلبة من سكان المدن والحواضر  جلهم من الطبقات الوسطى وما دونها  وفّرت لهم الدولة  السكن والدراسة وفضاءات للنشاط الثقافي من دور ثقافية ومكتبات وسينما  وإذا كانت تجربة الحزب الشيوعي  السابقة ظلت في العاصمة ومتعالية عن الطبقات الشعبية وهي تقليدية وغير منفتحة على التجارب اليسارية  الأخرى  وتكاد البيروقراطية تقتلها فإن حركة برسبيكتيف  أرادت أن تسد هذه الفراغات  وتكون البديل الحقيقي والقادر على إنجاز التطلعات  والآمال للشعب التونسي  فالنظام البورقيبي ليس نظاما شيوعيا ولا هو يساريا ولا هو حتى علماني  رغم جرع الحداثة والعقلانية التي يتمتع بها إلا أنه اتهم بالعمالة للقوى الاستعمارية  وبالتالي ظل الاستقلال منقوصا  بالنسبة إليهم وما على اليسار إلا إتمام المسار..  كانت حركة برسبيكتيف  حركة شبابية ثورية هي خليط من طلبة وقوى مثقفة  مطلعة على القراءات الماركسية الجديدة وخاصة في تأويلاتها الفرنسية  وحاولت صياغة نموذج تونسي يكون بديلا عن خيارات الدولة الوطنية  و قد تزامنت أواخر السبعينيات ثلاثة أحداث كبرى  الأولى محلية والثانية  قومية والثالثة يمكن وصفها بالعالمية وهي النكسة أو ما يعرف بحرب الأيام الستة  وتلتها مباشرة أحداث ماي في فرنسا  وقبلهما   إعلان فشل تجربة التعاضد  والتوجه نحو الخيارات الليبرالية محليا  بتسلم السيد الهادي نويرة  رئاسة الوزراء  أكسبت هذه الوقائع والأحداث الحركة اليسارية الجديدة  مزيدا من التعاطف والنفوذ داخل أسوار الجامعات  رغم أن الدولة  بحزبها الأوحد وبتحالفاته مع النقابات قد سلط عليهم حملاته وعنفه حتى كادت هذه الحركة أن تندثر  وتجهض محاولاتها في المهد  وكثير من انصارها تشرد خارج الوطن  معتكفا على خيار التكوين الأكاديمي  ليضع له موقع قدم داخل الجامعة تدريسا وتكوينا للطلبة فيما بعد ومن بقي داخل تونس إما اختار السلامة والعمل في الجمعيات الحقوقية مثل الرابطة التونسية لحقوق الإنسان  أو الثقافية  مثل نوادي السينما أو الفرق المسرحية أما من كان عصيّا على التطويع  فكان مصيره السجن.

 

3/قمع الدولة العنيف للأفاقيين جعل اليسار يتمترس داخل أسوار الحرم الجامعي:

مع مطلع السبعينيات  كان كادر التدريس  في معظمه من البرسبكتف أو متعاطف معهم وقد توج عملهم  بالسيطرة  على النقابة الوحيدة الطلابية في انتخابات شرعية أعني  الاتحاد العام لطلبة تونس  وكان بعيد الاستقلال حكرا على الحزب الحاكم أي الحزب الاشتراكي الدستوري التونسي و كان حدث الانتصار اليساري مربكا للسلطة في بداية السبعينات  ولم يستسغ النظام هذه النتائج فكان انقلاب قربة  ودخلت الجامعة من ذالك الوقت في معركة كسر العظام للدولة التي ظلّ سلطانها خارج الجامعة. وتمكن اليسار من تنظيم  هياكله النقابية المؤقتة ولم يكن يسمح للحزب الحاكم  بأي نشاط طلابي داخل الجامعة بل من يشتم منه رائحة الاقتراب من النظام  يواجه بعنف شديد هو الشكل المقابل لعنف الدولة إزاء خصومها  فداخل أسوار الجامعات التونسية لا صوت يعلو على صوت المعارضة فبين روادها  وطلابها شباب ثائر وقادم من مناظق نائية  ومهمشة  ويكتسب داخلها المعارف والفنون والوعي ويتمكن من الاطلاع على آخر منتجات الفكر تحليلا ومضامين  وللمنتج الماركسي ريادته كما وكيفا . وبديهي أن تكون الماركسية أيام الحرب الباردة وتورط أمريكا في الفيتنام تجارة رابحة لكن الماركسية مدارس.  فأي يسارية اختارها الطالب التونسي ؟

داخل اسوار الجامعة  توجد نماذج يسارية فسيفسائية متنوعة  وقد يجد الطالب نفسه مع فصيل في الصباح حتى إذا أمسى أعلن انتسابه لخصمه .إن نظرة على التجارب اليسارية  العالمية  التي كانت ملهمة لليسار التونسي  بعد فشل التجربتين السابقتين (وهما الحزب الشيوعي التونسي الذي ضل كلاسكيا ومتعاليا عن الطبقات الكادحة وتجربة برسبيكتيف على أهميتها إلا أن شدة القمع جعلت منها نخبة أكادمية متعالية بدورها عن النضال اليومي من اجل حلم العذالة الاجتماعية ومحاربة الامبريالية)  تعطينا التالي

** التجربة اليسارية البولشفية وعنها خرجت نماذج لينينية تروتسكية/لينينية ستالينية

** التجربة الصينية  ونموذجها ماو

** تجربة أنور خوجه بألبانيا

** التجربة اليوغسلافية وبطلها الماريشال تيتو

** التجربة الفرنسية بيسارها المتنوع                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            ** تجربة الأحزاب اليسارية في السودان و لبنان و سوريا  و العراق

مع ملاحظة أن التجارب العربية ضلّت تجارب ثقافية فكرية أكثر منها تجربة سياسية   ولا يفوتنا هنا أن نسجل ظهور التوجه القومي لدى بعض الطلبة  خصوصا وأن النكسة ألقت بظلالها على الواقع السياسي التونسي علما وإنه توجد خصومة بين عبد الناصر وبورقيبة   لأسباب  لا تخفى على أحد  وهذه الخصومة هي التي  دفعت وزارة الشؤون الدينية  للاحتفاء بأربعينية الشهيد سيد قطب بأمر من الزعيم بورقيبة الذي ندد اشد التنديد بإعدام الأديب سيد قطب بل ومنح بورقيبة جوازات سفر تونسية للإخوان . وهكذا طيلة السبعينات غدت الجامعة التونسية مسرحا لألوان ومذاهب متعددة كل واحدة تدعي أنها قارب الخلاص والنجاة وتتهم خصومها بالعمالة والخيانة أو بالتحريف  وكثيرا ما يتصادم الطلبة  وتتعطل الدروس   ولم تتدخل الدولة زمن بورقيبة  في هذه الخصومات بل بقيت تراقب عن كثب ولا يقلقها الامر طالما هي خطب عصماء لا تسمع إلا في الداخل ولا أثر لها في الخارج  ولأول مرة  يتمكن اليسار التونسي من تجاوز النخبوية  فالجامعة هي خزان مهم  للمستقبل والفاعلية السياسية عند تخرج الطلبة  وانظمامهم لسوق الحياة  داخل المجتمع  وبذالك استطاع اليسار بمختلف تشكيلاته  التغلغل في المؤسسات والوظائف  الإدارية وعبرها الانخراط في النقابات والنوادي الثقافية على قدر ما تتيحه الدولة من هامش للحرية.

 

4/  الجامعة فضاء حرّ فيه تناقش الأطروحات  و تتبلور الأفكار :

ويمكن للطالب من خلال المعلقات التي دأبت الفصائل على تعليقها  أن يطلع على الأخبار المحلية قبل العالمية  والكل يدلي بدلوه فصيل أوحد ووحيد ممنوع هو الفصيل المنتمي للحزب الحاكم .  لقد تحركت الجامعة التونسية مع الأحداث المحلية(حوادث قفصة،أحداث الخبز ) والقومية (حرب أكتوبر) والعالمية (الثورة الفيتنامية ) .  تحركها  منسجما مع المزاج الشعبي موجها الاتهام للسلطة الحاكمة وقد دفع الطلبة أثمانا باهضة في هذه الاحتجاجات  إلى حد الاستشهاد  في أحداث الخبز. أواخر السبعينيات  وفي غفلة من القوى اليسارية ظهر التيار الإسلامي  وكان ظهوره في البداية محتشما  وشبه دعوي  ينطلق من المساجد ليبشر بأن الخلاص والحل لن يكون إلا بالعودة للإسلام الصافي  حتى إذا انتظم هذا الحراك واشتد عوده تطلع لموقع قدم  داخل العمل النقابي  في اتحاد الشغل وداخل أسوار الجامعة  ومع أن القوى اليسارية حاولت في البداية منعه واعتبرته نسخة مشوهة ومضللة وعميلة للحزب الحاكم  إلا أن إصرار هذا التيار على الكلام وعلى التواجد  كان قويا إلى حد اكتساحه بعض المقاعد في انتخابات المجالس العلمية و كان حضوره قويا في الكليات العلمية ومحتشما في الحقوق والآداب إذا ما استثنينا كلية الشريعة . بقي التيار اليساري وفيا لموقفه من الإسلاميين  منذ لحظة ميلاده. إنهم  نتاج مؤامرة الدولة بحزبها الحاكم ليكسر شوكة اليسار ويقلص نفوذه  وعند الخطب الحماسية  هو يمثل  مؤامرة أمريكية بترودولارية ولكن هذا التوصيف  على وجاهته إلى حد ما  في كون الدولة رعت نشاة هذا التيار في بدايته  لكن لا يمكن بحال أن يفسر تفسيرا موضوعيا  كيف استطاع وفي وقت وجيز اكتساح  الساحات الجامعية  وافتكاك زمام المبادرة  حتى فنيا فالتونسيون تعرفووا على الفن الملتزم  للشيخ إمام  من خلال اليسار ولكن سرعان ما تم استدعاؤه من قبل الاتجاه الإسلامي  وتبني كل أغانيه وحفظها  وقد لعبت الثورة الإيرانية ومقولاتها  القرآنية من الاستكبار والطاغوت والاستضعاف… الخ كلها لعبت دورا في إشعاع النشاط الإسلامي والذي سمي لاحقا  من الأكاديمي  الاجتماعي  السيد عبد الباقي الهرماسي بالاسلام الاحتجاجي تمييزا له عن الاسلام الكلاسيكي

ان العائلة الطلابية طوال الثمانينات وحتى قبلها والى الآن تنتمي الى نفس العائلة الاجتماعية وتعيش نفس الاوضاع وتعاني نفس المشاكل  ولكن على مستوى الخيارات  يتفرقون فواحد منهم يختار جنة ماركس الموعودة في الارض  والآخر جنة الاديان  الموعودة في  السماء  /الارض    ولم تتمم العشرية الثمانينية  نهايتها حتى اصبحت المجالس العلمية والتي كانت حكرا على اليساريين اصبحت  محسوبة على الإسلاميين  الأمر الذي دفعهم نحو الحسم في مسالة النقابة وأعلنوا تشكيلتهم النقابية ممثلة في الاتحاد العام التونسي للطلبة ليحفز الضفة الأخرى على وضع حد لهياكلهم المؤقتة ويتمّ الإعلان عن انطلاق مسيرة الاتحاد العام لطلبة تونس  ووقع التأسيسين في عهد وعدت فيه السلطة بالديمقراطية والحرية والإصلاح  عند إزاحة الزعيم بورقيبة بانقلاب ابيض  قاده الوزير الأول ورجل الأمن بن علي  وعلى الفور اعترفت الدولة بالنقابتين.

 

5/إن ما يحسب لليسار ممثلا في الأفاقيين والقريبين منهم :

إنه التقط لحظة نقص الدولة في نمطها الجديد النوفمبري  وحاجتها إلى المشروع الفكري فابن على هو أمني عسكري بالأساس وتعوزه الأفكار الكبرى وأراد أن يقطع الطريق على الإسلاميين خصومه التقليدي  الذي بدا هو الآخر يريد أن يمنح ابن علي المشروعية الفكرية  عبر اقتراح من الإسلاميين  للدعوة إلى انتخابات رئاسية وتشريعية  غير أن  الخطأ الفادح  تمثل في مشاركتهم الواسعة في الانتخابات التشريعية تحت يافطة المستقلين ( لأن ابن على ودولته العميقة  أخذ يماطلهم ربحا للوقت )  واكتساحه الساحات تقديرا منه إلى أن الساحة الاجتماعية مثل الساحة الطلابية.  هذا الخطأ الكبير والذي أبان فيه  التيار الإسلامي عن مدى جماهيريته جعلت الدولة بمنظومتها  من داخلها  وحتى من خارجها تحذر القيادة الجديدة  من  الخطر الاسلامي  من داخلها  تداعى الإعلاميون والنخب الليبرالية وأصحاب المصالح  وبعض أشباه المثقفين واللائكيون على النمط الفرنسي  أما من خارجها فالقوى الحزبية المعارضة التقليدية كحركة الديمقراطيين الاشتراكيين  والحزب الشيوعي الذي اتخذ اسما جديدا هو حزب التجديد بعد إحداث البوستروكيا  أو التجمع الاشتراكي بزعامة اليساري نجيب الشابي  (وهذا الاخير لم يغادر في مواقفه مربع التوتر في تحليل الظاهرة )كل هؤلاء اعتبروا الاسلام السياسي خطرا  متوقعا  وحتى التي تنشط خارج الشرعية القانونية كحزب العمال الشيوعي  بزعامة حمة الهمامي تحرك في ذات الاتجاه مؤلفا   كتابا كله شيطنة وهرسلة للتيار الإسلامي متخذا له عنوانا مستفزا (ضد الظلامية). وقد  تداعى الكل من الداخل (النظام والسيستام ) كما من الخارج (المعارضة ) لتحذير السلطة الجديدة من الخطر الإسلامي ورفع شعار لا ديمقراطية مع أعداء الديمقراطية وكان الظرف مناسبا  للتجربتين السابقتين  أعني التجديد وآفاق  ليضعا خدماتهما تحت طلب الدولة في عهدها  الجديد أو التجمع  لقد استغل قسم من اليسار هذا الفزع ودخل في تحالف مع الدولة وكان بطل هذا الخيار الدكتور محمد الشرفي الذي أنجز ما يسمى بإصلاح التعليم على أنقاض الإصلاح البورقيبي  الذي أنجزه  محمود المسعدي، وقد توج هذا التحالف بما يسميه الاسلاميون سياسة تجفيف  منابع التدين ودخل الإسلاميون في التسعينيات في معركة غير متكافئة فكانت المحرقة أو ما يعرف في أدبياتهم بأيام الجمر . فقد منع الاتحاد العام التونسي للطلبة  وجُرم قادته وسجنوا وانسحب التيار الإسلامي من الأنشطة الطلابية ولم يبق داخل الجامعة الا الفصائل اليسارية التي يمكن إجمالها في .

1 الوطد

2 البوكت

3 القوميون

لينظم لاحقا التجمعيون ويعلنوا تواجدهم بالجامعات التونسية  رغم أنف اليسار واستطاعت الدولة أن توظف هذا الفصيل ضد الآخر  ودخلت الجامعة مرحلة التهميش والضحالة الفكرية  فإذا كان الرافد الرئيسي لرواد الجامعة  هو التعليم الثانوي فإن المنظومة التربوية ترهلت حتى لم يبق منها إلا الشكل وكان من استراتيجية النظام التساهل في النجاح حتى أصبحت الشهادات العلمية لا قيمة وازنة لها  لقد اختار النظام تعليم النخبة أما التعليم العمومي  فهو مجرد شكل لا مضمون فيه فالطالب يلتحق بالجامعة وأبسط المعارف لا يمتلكها  في حين  كان طالب الستينات والسبعينات والثمانينات  يأتي وهو ممتلك لخياراته الوجودية والفكرية وقادر على اتخاذ المواقف .

 

6/ الجنرال ابن علي يثبّت أركان حكمه:

استطاع  ابن على  تثبيت أركان حكمه  موظفا بطريقة ذكية كل المطبات والوقائع العالمية لصالحه  فمن أزمة الخليج والحرب على العراق وصولا إلى الغزو الأمريكي  لأفغانستان وأحداث 11 سبتمبر الشهيرة  كل هذه الاحداث تم توظيفها في اتجاه سلامة خياراته  وقدم نفسه للغرب كنموذج ناجح في محاربة التطرف  لكن القبضة الحديدية لوحدها لا تكفي فالطبيعة كما أكد الفيلسوف أرسطو تأبى من الفراغ لذا محاربة الإسلام السياسي ممثلا في النهضة  كان يجب أن يصحبه بديل روحي وفكري ولم يكن حلفاؤه اليساريون ولا منظومة الاسلام الرسمي قادرين على إمداده  فوقع أول إنذار له  المتمثل في تفجيرات القاعدة في الغريبة بجربة  وكان حدثا مشككا في قبضته الحديدية  ثم تلاه الحدث الأعمق إلا وهو معركة سليمان التي انتبهت الدولة إليها بالصدفة  لقد انتصرت الدولة  في معركتها  مع التطرّف وكانت الرسالة واضحة  وهي أن الجيل الجديد من الاسلاميين والتيارات الدينية  ليست مثل سابقاتها  وإن لم تتسارع الأنظمة  لقراءة المرحلة الجديدة قراءة نافذة لعمقها لن تستطيع توقي مخاطرها ولكن نظام ابن على غره انتصاره ورفض أي إمكان للمصالحة في حين جاره الغربي أي الجزائر  دخل في عملية ما اصطلح عليه بالوئام المدني . في ضل غياب التيارات الإسلامية  تسللت القوى اليسارية  إما تحت داعي الاستقلالية أو بغطاء الانتساب للتجمع(الحزب الحاكم ) إلى عمق الدولة ومؤسساتها  فهذا أول أمين عام للاتحاد العام لطلبة تونس  سمير العبيدي  يرشح لوزارة الشباب والرياضة ( في حين زميليه في الاتحاد المضاد عبد الكريم الهاروني وعبد اللطيف المكي  يعانيان الأمرين  ) هذا الأمر لم يشمل فقط المناصب السيادية بل حتى الجمعيات الحقوقية (مثل رابطة حقوق الانسان ) والفضاءات الثقافية وخاصة وسائل الاعلام  بل حتى الجمعيات النسوية ولكن أهم اختراقات اليسار كانت  في الاتحاد العام التونسي للشغل معتبرين هذا الفضاء مجالهم الحيوي الذي لا يمكن أن يكون إلا يساريا  خصوصا وأن التحالف القديم بين الدولة والعاشوريين انتهى بترهل الأخيرين  فكان الانخراط في الاتحاد  وهو مؤسسة عريقة  إنما نشأت كسلطة مضادة  وطوال العشرين سنة  قبل الثورة لم يكن موجودا فيه إلا  بعض قدماء العاشوريين  واليساريين بمختلف توجهاتهم البوكت والوطد والعروبيين وبعض من الاسلاميين على استحياء وتحت يافطة الاستقلالية و كانوا يتقاسمون المصالح ضمن حدود يسمح بها النظام مع أحداث سليمان  وميلاد الجيل الجديد  من الإسلاميين  حاول بعض اليساريين  الدخول على الخط  أما كحقوقيين يعنيهم أمر حقوق الإنسان أو كمحامين من واجبهم الدفاع عن وكلائهم  وقد تبين للجميع أن الدخول في حرب ضد النهضة الفصيل الإسلامي الأقوى  صحبة أجهزة الدولة  (متعللين بأن النهضة عدو بينما ابن علي وحزبه الحاكم  خصم سياسي ) وكان  النظام هو الرابح الاكبر الذي سرعان ما  انتكس وتراجع على كل وعوده من حرية وديمقراطية وعدالة بل هو الآن يفوت للقطاع الخاص آخر مكتسبات الشعب التونسي  وهنا بدأت تتشكل الرؤية الثانية  حول الإسلاميين في الوعي الجمعي اليساري  والتي ظلت يشتغل ضمن أطرها الحقوقي  وفي أحسن الحالات المربع الثقافي  فالإسلامي  محرم عليه العمل السياسي  ولكنه مسموح له بحرية التعبير والنشاط الثقافي .

 

7/ الحوض المنجمي:  فتيل الأزمة بين البوكت و النظام:

جاءت أحداث الحوض المنجمي  لتزداد الهوة اتساعا  بين قسم من اليسار اعني البوكت  والنظام  فكان من ضحاي عنف  الدولة الشباب الشيوعي التابع لحزب العمال ومنذ ذالك الوقت اصبح زعيم هذا الحزب السيد حمة الهمامي مختفيا . وتبين للجميع أن هذا النظام    غير قابل للانفتاح وأنه الخصم الأول للحرية وأن مكاسب الدولة الوطنية بدأت تتفكك لصالح مافيا ورجال هم أصدقاء الأصهار…  تداعى الكل للتعاون  ومجابهة الديكتاتورية  واعتبر أن الصمت  جريمة يتحمل وزرها كل من يضع يده في يد النظام وممارساته  وتم أول لقاء بين الإسلامي واليساري طالما أن الخصم واحد وأن التاريخ لا يرحم فظهرت  وثيقة 18 أكتوبر وجمعت المعارضة  الرئيسية لنظام بن علي  بمافيهم حركة النهضة  وهي عبارة عن مجموعة من المبادئ  والخطوط العامة الموجهة هي الحد الادنى من الإجماع الوطني هذه الوثيقة على أهميتها نسيها الكل بعد الثورة  للأسف  حيث انكفأ كل تيار نحو مشاكله الداخلية وعداوته الخارجية. وكان حدث الثورة في 17/14 حدثا  لا يقل أهمية عن حدث الاستقلال بل فيهم من يعتبره ميلاد الجمهورية الثانية ولقد كان له تبعات على دول الجوار والمحيط  وتمكن التيار الإسلامي  من إعادة التشكل بسرعة مذهلة  وقد عادت قيادته من الخارج عودة الأبطال  حاملين معهم  تجارب سياسية وفكرية  لدى الغرب الانجلوسكسوني  ولأن الحرية فتح بابها على مصراعيها  لم تعد النهضة هي صاحبة القول الفصل في التعبير عن  التوجهات الاسلامية فلقد تغير العالم (بفضل العولمة) وجرت مياه كثيرة في البحيرة التونسية  والشباب  الجيل الجديد الذي ترعرع في عشرينية بن علي  لم تعد تغريه الايديولوجيا سواء اليسارية أو القومية أو الإخوانية بل على تخوم الإيديولوجيا ظهرت حركات وتوجهات  متطرفة  سواء يمينية ممثلة في السلفية بشقيها العلمي/الجهادي أو حداثية هي إفراز للعولمة من سلوكيات ومظاهر احتجاجية هي أقرب للتقليد للغرب  منها للمعاناة . لقد ارتبكت النخبة إزاء  هذه الفسيفساء التونسية الجديدة  فالشذوذ في اللباس والمظهر  كان صادما وتحالفت كل القوى اليسارية والعلمانية وحتى الاحزاب ذات المرجعية البورقيبية  ضذ التيار السلفي ونمط عيشه الذي يدافع عنه   ويعد به ودخل الطرفان في الاستفزاز المتبادل الأول يملك الإعلام وأدوات صناعة الرأي  والدولة وإن بشكل غير مباشر والثاني استولى على المساجد ونشط من خلال الخيم الدعوية  والكتب والنشريات  مستغلا إلى أقصى حد نسائم الحرية  . وكانت السنة الأولى بعد الثورة  سنة أعادت التونسيين  للأسئلة الهووية  رغم إن الثورة عنوانها المطالب الاجتماعية والحرية .. ومن خلال الجدل الحزبي والجمعياتي والثقافي  بدت تونس عند اليساريين واللائكيين  تغوص في اتجاه الشرق(وتحديدا صحراء نجد)  وتعيش وضعية الردة عن المدنية فدق ناقوس الخطر واستطاعت القوى اليسارية المتنوعة أن تتشكل في جبهة  واحدة ضلعها الوطد والبوكت والعروبيين (البعث و قسم من الناصريين بزعامة الشهيد الحاج البراهمي) في حين فضل اليسار الكلاسيكي واللائكي تشكيل القطب الحداثي  الكلاسيكي أما اليسار الوسط أو ما يعرف باليسار الاجتماعي  وزعيمه  السيد مصطفى بن جعفر  فنشط من خلال حزب التكتل في مقابل هؤلاء  كان حزب نجيب الشابي  الحزب المعارض الشرس والذي اتسع إشعاعه وكان يمكن أن يكون الورقة الرابحة لولا أخطاؤه القيادية(فهو لم يتحرر بعد من أوهامه في ما يتعلق بالتيار الإسلامي ) والتي جعلته على الهامش ويخسر كل معاركه الانتخابية وقد شارك الإسلاميون في أول انتخابات حرة وديمقراطية واستطاعت أن تحوز رضاء جزء كبير من الشعب التونسي  مستفيدة من المعركة الانتخابية التي حشرها فيها خصومها الحداثيين واليساريين  أو قد تكون هي من حملتهم الى هكذا خيارات  فلقد تمايزت عن الخطاب السلفي  المتطرف وفي نفس الوقت تلونت بالوان الحداثة وقيمها  وكان الانتصار الكاسح ومن ثم ميلاد سلطة الترويكا تحت قيادة النهضة .

 

8/الإسلامي في الدولة : من السجن و التشرد إلى الحكم و القيادة

كان المشهد سرياليا  فهذا شق من الإسلاميين يقود ويمسك بأجهزة الدولة وشق آخر يصنع المستقبل من خلال وضع دستور للوطن  قد يعيش مئات السنين وشق آخر يحتل الشارع والمساجد ويرسم المشهد التونسي. إنها الطامة الكبرى والقيامة العظمى ولا بد من فعل شيء ما للحد من هذه المخاطر  هذه هي الصورة الكارثية التي  روجها  التيار اليساري بمختلف شقوقه وحتى الليبرالي والتجمعي   ومن ثم كان  لا بد من توظيف كل الإمكانات المتاحة  فكان الاتحاد العام التونسي للشغل  هو القوة المضادة وعبره يمكن فعل شئ ما للحد من تغلغل النهضة  وكان وسائل الاعلام المقروؤة وخاصة المسموعة والمرئية تصنع رايا عاما يشيطن الرئاسة ويستغل اخطائها ويتهم الوزراء ويعيرهم باسمائهم ومظهرهم وتحت يافطة الحرية كان كل شئ مباحا الإشاعة والكذب والتزييف  إضافة إلى كل هذا كانت الحكومة مرتبكة واياديها مرتعشة  ولم تستطع ان تعالج الملف السلفي  بالعمق الذي يستحقه فلم تع الخطر الذي يشكله  خاصة التيار الجهادي فيه  والذي يمكن اختراقه بسهولة من قبل ارادات دولية لا يرضيها الوضع التونسي. وما يعنينا هو أن الجبهة اليسارية  بقيت وفية لرؤيتها للتيارات الدينية منذ فترتها الطلابية  فالاسلام السياسي  هو ضناعة امبريالية مخابرتية  وهو ضد تطلعات الجماهير ويوظف الدين أو هم تجار لا يختلفون عن الراسمالي السارق لعرق الكادحين غير أن الإخواني يسرق الرأسمال الرمزي  أي الدين  كما أن النهضة هي الأشطر  وذالك لأنها قرأت التاريخ جيدا  ويرى اليسار الاستئصالي أن الجهاديين وأنصار الشريعة التي أصبحت فيما بعد  داعش أو القاعدة  أكثر صدقا من الإخوان  لأنهم يجرّمون الديمقراطية ويكفرون العلمانية ولا يعترفون بالدولة في حين ان  النهضويون  يخادعون ويأخذوا الديمقراطية في وجهها الكمي حتى إذا فازوا في الانتخابات لن يغادروا مربع كرسي السلطة  لأن هؤلاء لا تقع  الديمقراطية  عندهم  إلا مرة واحدة . لقد التقت مصالح  مختلف الأحزاب والتوجهات الحداثية وحتى الدولة العميقة مع الجمعيات والنقابات واليسار بمختلف قواه والليبراليين والمنظومة الحزبية القديمة التقوا جميعهم ضد النهضة وطرق إدارتها لأجهزة الدولة لتضاف التحديات الاقتصادية وحتى الطبيعية ليصبح المناخ مناسبا لاهتزازات وتوترات ذات مطالب اجتماعية تتعلق بالشغل  وتسرب  الارهاب عبر مسارب  هذه التوترات لتزيد الصورة قتامة والوضع كارثيا وازدادت  مصاعب الحكم  بتصرفات السلفيين الحمقاء  من غزوات وتظاهرات  وخطب كلها تحد للنظام  وعدم اعتراف بالدولة  …  وكانت مناسبة للقوى التي تريد أن تقطع عن المسار اتجاهه  فكانت تجربة الانتقال نحو الاغتيال السياسي  ولم يكن زعيم الوطد اختيارا عبثيا ليكون أول ضحية  فهو المحامي المعروف وصاحب الظهور الإعلامي  المتميز في محاربة ما يعتبره تجارة بالدين  لقد تم اغتياله من طرف التيار السلفي  ليتحول الى زعيم /رمز   وتحول من مجرد خصم سياسي  يهاجم الإسلام السياسي  إلى شهيد الحرية  والكرامة  بل بطلا قوميا ووطنيا لا يقل شأنه عن المجاهدين  اللذين دفعوا دماءهم  في سبيل الاستقلال ودفن في مربع العظماء في مقبرة الزلاج  وأعطى هذا الاغتيال للجبهة زخما جماهيريا  وربما مصداقية انعكست نتائجها لاحقا  في الانتخابات  ولم تكد حركة النهضة تمسح جراحات الاغتيال الأول وتداعياته لينضاف اغتيال ثان  يجعلها في قفص الاتهام إلى حد اللحظة … فخرجت  النهضة من الحكومة ضمن توافقات رعاها المجتمع المدني بأضلعه الأربعة (نقابتي العمال والأعراف والمحامون وحقوق الإنسان )….  وأخيرا خرجت تونس بدستورها الجديد  لكن الموقف اليساري ازداد توهجا وأصبح أكثر راديكالية في مواجهة خصمه النهضاوي  فهو قد دفع ثمن معارضته له غاليا فالشهيدين هما زعيمين كبيؤين احدهما يساري لينيني والأخر عروبي ناصري  والاغتيال وقع تحت أنظار وربما بتواطئ مع أجهزة الدولة  وبهذا الاغتيال( والى حين تكشف الحقيقة) لم يعد اليساري التونسي وخاصة الوطدي فيه قابلا لأي رواية  لا تشير بإصبع الاتهام إلى النهضة.

 

9/أول انتخابات تشريعية ورئاسية في تونس بعد إقرار الدستور :

جرت انتخابات حرة تشريعية ورئاسية هي الأولى بعد إقرار الدستور الجديد  وكان من الطبيعي أن تخترق الجبهة  مجلس النواب  وتشكل كتلتها المعارضة وخرجت النهضة من  المعركة الانتخابية بأخف الأضرار فتحصلت على الرتبة الثانية  في حين  استطاع الباجي قائد السبسي جمع الفرقاء التونسيين بروافدهم الحداثية واللائكية والنقابية والتجمعية  ومن خلال النداء استطاع الفوز  بالمرتبة الأولى في التشريعيات وفاز بكرسي الرئاسة . وقد رفصت كتلة الجبهة التحالف مع النداء (وفاء لمنطق قديم يرى في نفسه انه الاجدر وانه الوصي على آمال وتطلعات الجماهير في حين نداء تونس ليس الا نسخة جديدة من النظام القديم )وافاق تونس (حزب ليبرالي ) ليفرز الواقع النيابي التونسي ما عرف بالتوافق  وتشكلت الحكومة الاولى ثم الثانية  واكتفى  اليسار بالمعارضة  وبين الفينة والاخرى يشير باءصابع الاتهام الى النهضة في عملية الاغتيال  وكان يسمي الاتهامات بانها تحميل للمسؤولية السياسية  وليس الجنائية. ثم ليتلقف نهاية التوافق  ويعلن للعموم ان النهضة لديها جهاز سري  وانها رتبت ورعت عملية اغتيال البراهمي  عن طريق هذا الجهاز وبالتالي عدم براءتها من الاغتيال الأول  وقدمت من خلال هيئة الدفاع عن الشهيدين وثائق تدعي إنها أدلة تورط الغنوشي رأسا وبعضا من القيادات  النهضوية  وهذا الجهاز  لا يعلم به جزء من القيادات الكبرى والوسطى  وأعادت لوبياتها الإعلامية التذكير بأن النهضة هي إخوانية  والأجهزة السرية اختصاص إخواني بامتياز  وقد طالبت الهيئة حل الحزب ومحاكمة قياداته  وشوهت سجله السياسي  عبر الأذرع الإعلامية والثقافية متهمة النهضة بالتغلغل في الدولة أيام الترويكا والسيطرة على القضاء وهكذا عدنا إلى المربع الأول  في العداوة  حيث كل الأسلحة مباحة  بما فيها التعاون مع أجنحة في  الدولة العميقة التي تعتبر  أن  نهاية ابن علي لا يعني الاعتراف  بالخصم القديم أي النهضة  وانصارها  وقد دخل النداء ممثلا في الرئاسة على الخط  واراد تهديد النهضة من خلال هذا الملف حتى يحسم أمر رئيس الحكومة الجديد والمتنطع على الرئيس  ولكن النهضة حسمت أمرها مع الاستقرار الحكومي  غير عابئة بما يخطط لها واثقة من براءتها معتبرة أن  ما تقوم به الجبهة مجرد رقصة ديك مذبوح يكاد يعرف هزيمته الانتخابية القادمة فأراد ذبح النهضة واهما أن الخزان الانتخابي النهضاوي سيسيح دمه في القبائل .

 

10/نحن في مطلع سنة 2019 و لكن مواقف اليساريين لم تغادر مربع سنة 1980/1970

إنه لمن المفارقات العجيبة والتي تستعصى على التحليل المواقف من الإسلام السياسي  كيف أن المحافظ أو اليميني سياسيا قابل للتغير ويتأقلم بسرعة فائقة ويغادر ببراغماتية مذهلة الاحلام الشبابية الطوباوية بل هو لديه إمكان التوافق حتى مع جلاده القديم  يفهم متطلبات عصره يقرأ جيدا الخارطة الجيوسياسية غير مستعجل بل إنه في جدله السياسي مع الآخرين يتفاعل ضمن مربع الخصومة لا العداوة حتى مع اليسار وليس لديه أي اعتراض إلا على القوى الاستئصالية المتطرفة أكانت يمينا (داعش واخواتها ) أو يسارا راديكاليا  فلم تعد مقولات الاستضعاف /الاستكبار  ولا المفاهيم الدينية  والفقهية مستعملة في خطاباتهم  بل أكثر وعيا بضرورة التوافق مع الجميع من أجل تخطي مرحلة الانتقال الديمقراطي( وهي مرحلة صعبة ودقيقة ) بسلاسة وهدوء في حين لا زال المؤمن بالجدل والصيرورة  أي اليساري الجبهاوي  غير مستعد لأي تغيير يذكر في تعامله مع الخصوم والأعداء  مازال قادته في خطبهم وأقوالهم  يروجون اسطوانتهم القديمة حول الاسلاميين ويتعمدون عن قصد خلط الأوراق   فهم بالنسبة لهم  يمثلون كتلة واحدة لا فرق بينهم الا في التكتيكات هو يرى اهل اليسار فرق وتوجهات وحتى قراءات ويتكتل في جبهة دليل اعترافة بالالوان المتعددة داخل الطيف اليساري لكنه يحرم ذالك على الاسلاميين انهم ملة واحدة   وفرقة تتاجر بالدين . وعندما يتكلم قادة الجبهة  في أي موضوع لا بد أن يكيل الاتهامات لعدوه  النهضاوي  يعيد المقولات  التي طالما كررها في المرحلة الطلابية  وبالتالي نجده لا جدليا في مواقفه ولا يقول بصيرورة احكامه  وتاريخيتها انه اذا اكتسب من اليميني ثباته ومحافظته حتى إننا نستطيع أن نؤكد أن اليساري التونسي ليس يساريا ولا هو جدليا .

 

خاتمة:

إن الحداثة حسب اليسار هي  الوجه الخفي لمؤامرة القوى الامبريالية/الاستعمارية ضد مصالح الامة ونجاحاته في الانتخابات  ليست جدارة ولكنها خطة جهنمية لتزييف الوعي الجماهيري  عن طريق المال الفاسد والاعلام الكاذب  وبالتالي لا اعتراف ولا تعاون موقف يعود بنا الى المعارك الطلابية زمن السبعينيات  وإن  قدر تونس كما يرون ان تؤجل كل المعارك حتى استئصال هذه الزائدة الدودية  فلا مجال للإسلاميين في الحكم وعلى كل القوى التقدمية والحداثية أن تتكتل مهما كانت تبايناتها  من أجل فضح وتشويه هذا السرطان  فهذه القوى هي خصوم وليسوا أعداء  هنا يمكن التعاون مع الدولة وأجهزتها ومع الأعراف ومع الليبراليين  مع كل من يعادي الإخوان حتى الصوفية وممثلي الدين الرسمي يمكن التفاهم معه  وتأجيل المعركة إلى أن يتم قبر هذا التيار . إنه ذات الموقف الذي  تكرره كل الفصائل الطلابية اليسارية منذ نشأة الاتجاه الإسلامي  رغم أنه التيار الإسلامي  المعتدل حسب كل المراقبين ويمكن أن ينشط ثقافيا وله الحق في كل شىء إلا التحزب  أي أن النهضويين الأبرياء من جريمة الاغتيالات والذين لا علاقة له بالعنف  يمكن أن يشاركوا في الأنشطة السياسية في عائلة قريبة لتوجهاتهم أما أن تشكل جماعة  في هيئة حزبية فهذا ممنوع  ومن ثم لا ديمقراطية مع أعداء الديمقراطية وإن المطلوب هو حل حزب النهضة ومحاكمة قادته  وعدم السماح بأي نشاط حزبي ذي مرجعية دينية  إذ أن توفير المناخ الديمقراطي يقتضي  عدم السماح للأحزاب الدينية وبالتالي الحياد إزاء الدين وعدم توظيفه في المعارك السياسية. ومن ثمة  محاكمة المورطين بشبهة الاغتيالات والعنف وتأهيلهم لمستوى المواطنة.  تبقى في التجربة اليسارية التونسية بعض الاستثناءات التي ضلت فردية ولا أثر لها فعلي في الواقع مثل تجربة جلبار النقاش أو الدكتور المرزوقي أو مصطفى بن جعفر  أما الخط العام فهو الذي بيناه وقد فوّت اليسار على نفسه الاستفادة من تجربة اليسار في أمريكا اللاتينية أو ما يعرف بلاهوت التحرير أو بعض القراءات الجديدة للإرث الشيوعي أو دراسات ما بعد الحداثة  وهي تجارب واقعية وفكرية مثلت إحدى المصادر الرئيسية للجدل داخل العائلة النهضوية كما أثبت ذالك الدكتور عبد الباقي الهرماسي حول الإسلام الاحتجاجي ويقصد به النهضة التونسية.  إن تونس تخسر الكثير بالعداوة المفتعلة بين تيار الإسلامي الوسطي واليسار وإن الانتماء الطبقي لعموم الأنصار من الطرفين كان كفيلا بالرقي بالتجربة التونسية  إلى أفق أبعد وللأسف الذي يتحمل المسؤولية هو اليسار  وهو مازال لم يغادر مربع العداوة الزائفة وتقديري أن حركة التاريخ تمضي ولن يتوقف المسار التونسي الحديث انتظارا للحظة نضج  لن تأتي لعقم في الرؤية.

 

مركز الدراسات الإستراتيجية والديبلوماسية

عقيل الخطيب ( باحث تونسي )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *