في سياق مراجعة اتفاقية التبادل الحر مع تركيا .. متى تعترف وزارة التجارة بالعجز التجاري مع فرنسا؟ .. بقلم جنات بن عبد الله


تفاعل الشارع التونسي مع تصريح وزير التجارة وتنمية الصادرات محمد بوسعيد بخصوص مراجعة تونس لاتفاقية التبادل الحر مع تركيا على خلفية العجز التجاري المسجل والذي، حسب تصريحه لصحيفة تونسية يوم الخميس 19 أوت 2021، ألحق أضرارا بالاقتصاد التونسي.
وترى بعض الأطراف أن هذا التوجه يأتي استجابة لدعوات الاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمة التونسية لإرشاد المستهلك والتجار التونسيين الى ضرورة تجميد هذه الاتفاقية أو الغاءها وفتح مفاوضات جديدة تراعي مبدأ توازن المصالح.
من جهتها صرحت السيدة سعيدة حشيشة المديرة العامة للتعاون التجاري والاقتصادي بوزارة التجارة يوم الجمعة 20 أوت 2021 للتلفزة الوطنية أعلنت فيه “أن تونس لها فائض تجاري مع فرنسا وتوازن مع بلدان الاتحاد الأوروبي” وذلك ردا على عدد من المختصين والخبراء الاقتصاديين الذين كشفوا عن عجز تجاري خطير في الميزان التجاري بين تونس والاتحاد الأوروبي بناء على طريقة الاحتساب المعتمدة دوليا من قبل صندوق النقد الدولي التي تستند الى النسخة السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات الصادرة في سنة 2008 والمعتمدة من قبل الاتحاد الأوروبي منذ سنة 2010.
وحسب هذه الطريقة فان ميزاننا التجاري مع الاتحاد الأوروبي يشكو عجزا تاريخيا رهيبا يبلغ حوالي 50 بالمائة من العجز الجملي وهو ما تعمل وزارة التجارة على طمسه واخفاءه، وعمدت جميع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة على تجاهله ليتم الإعلان، وبعد عشر سنوات تأخير،على تبني هذه النسخة من قبل المعهد الوطني للإحصاء بناء على المذكرة الصادرة عنه يوم 15 أوت 2021 التي أعلن فيها عن تغيير السنة المرجعية لاحتساب المؤشرات الاقتصادية من سنة 1997 الى سنة 2015 استجابة لمقتضيات نظام المحاسبة العمومية لسنة 2008 الصادر عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، والذي أدى، حسب مذكرة المعهد الوطني للإحصاء، الى مراجعة طرائق احتساب عديد المؤشرات بما في ذلك تلك المتعلقة بالتجارة الخارجية لتونس واعتماد النسخة السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات لصندوق النقد الدولي.
ومنذ أكثر من ست سنوات تسعى هذه المجموعة من المختصين والخبراء الاقتصاديين الى كشف حقيقة عجز الميزان التجاري الرسمي خاصة مع الاتحاد الأوروبي المضخم بإدماج صادرات الشركات غير المقيمة الخاضعة لنظام التصدير الكلي وتنشط في إطار المناولة مع صادرات الشركات المقيمة الخاضعة لنظام العام للتصدير.
الخلاف القائم بين الجهات الرسمية من سلطة تنفيذية المسؤولة عن احتساب عجز الميزان التجاري والسلطة النقدية المسؤولة عن احتساب عجز ميزان المدفوعات من جهة، وهذه المجموعة من الخبراء والمختصين، يكمن في إصرار الجهات الرسمية على عدم الانخراط في مسار النسخة السادسة لدليل احتساب عجز ميزان المدفوعات الصادر عن صندوق النقد الدولي في سنة 2008 والمعتمد من قبل الاتحاد الأوروبي منذ سنة 2010 الشريك التجاري الأول لتونس بما يفترض خاصة في ظل انخراط بلادنا في تنفيذ برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي اعتماد تونس لنفس النسخة بما ينسجم مع الشعار الذي ترفعه جميع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة المتعلق بأقلمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية بما في ذلك معايير احتساب عجز الميزان التجاري وعجز ميزان المدفوعات، وفي غياب ذلك ترتقي عملية الاحتساب الى مستوى التدليس والتحيل على الشعب التونسي وايهامه بتسجيل تونس فائضا تجاريا مع بلدان الاتحاد الأوروبي ومع فرنسا في حين أننا نسجل عجزا رهيبا تسبب في انهيار الدينار وتدمير نسيجنا الاقتصادي وتعطيل عملية الاستثمار وتفاقم البطالة.
وينص”النظام الأوروبي للحسابات العمومية والإقليمية الصادرسنة 2010″ بناء على النسخة السادسة لدليل احتساب عجز ميزان المدفوعات،وحسب تعريف عملية التصدير لمعهد الإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي، فان البضائع والسلع التي يتم تصديرها من قبل الشركات غير المقيمة والتي تنشط في اطار نظام المناولة وتخضع لنظام التصدير الكلي لا تحتسب تصديرا ولا تحتسب في الميزان التجاري، ونفس الشيء يطبق في عمليات التوريد من قبل نفس الشركات، باعتبار أن هذه البضائع ليست على ملك البلد التي صدرها ولكن على ملك البلد الذي تنتمي له الشركة الأم التي أعطت أوامر الإنتاج في بلد المناولة لتسجل العملية في ميزان المدفوعات كخدمات صناعية.
وبمعنى اخر تقتصر مساهمة الاستثمار الأجنبي المباشر في تونس من خلال انتصاب شركات أجنبية غير مقيمة تخضع لنظام التصدير الكلي وتنشط في إطار المناولة في قطاعات النسيج والملابس الجاهزة والجلود والاحذية، والصناعات الميكانيكية والكهربائية، والصناعات الالكترونية، من خلال ما يسمى بالخدمات الصناعية التي تغطي أجور القوى العاملة وفواتير استهلاك الكهرباء والماء وغيرها من نفقات الاستهلاك فقط.
وعلى عكس ما تروج له السلط العمومية منذ سبعينات القرن الماضي الى اليوم بعد إقرار قانون أفريل لسنة 1972 لا تساهم هذه الشركات المصدرة كليا في تنمية صادراتنا وتنمية الاحتياطي من العملة الصعبة لاعتبارين اثنين:
– أولهما مرتبط بمجلة الصرف التي لا تطالب هذه الشركات باسترجاع مداخيل صادراتها عكس الشركات المقيمة المطالبة باسترجاع مداخيل صادراتها في مدة معينة،
– ثاني اعتبار يتعلق بملكية البضاعة التي تصدرها هذه الشركات التي تنشط في إطار المناولة بما يعني أنها تنفذ أوامر انتاج من الشركة الأم وتورد مدخلات الإنتاج لتقتصر مهامها في تونس على الجمع والتجميع والخياطة دون أن تفقد الشركة الأم ملكيتها للبضاعة.
ومن هذا المنطلق، وطالما أن البضاعة ليست ملكا تونسيا، فان العملية التجارية في هذا الاطار تحتسب خدمات صناعية وتسجل في ميزان المدفوعات بعنوان هذه الصيغة. وبعبارة أخرى كل الصادرات التي تقوم بها الشركات الأجنبية غير المقيمة والخاضعة لنظام التصدير الكلي وتنشط في اطار المناولة على غرار قطاعات النسيج والملابس الجاهزة والجلود والاحذية، والصناعات الميكانيكية والكهربائية، والصناعات الالكترونية، لا يمكن أن نجدلها أثرا في الميزان التجاري باعتبار أن البضاعة ليست ملكا تونسيا، كما لا نجد لها على أثر في ميزان المدفوعات باعتبار أن مداخيلها لا تعود الى تونس بل تبقى في بلد الشركة الأم.
من هذا المنطلق لا يسجل في الميزان التجاري الا صادرات الشركات المقيمة الخاضعة لنظام التصدير العام باعتبار أن بضاعتها هي على ملك الدولة التونسية على غرار زيت الزيتون والفسفاط والتمور والقوارص، وباعتبار أن مجلة الصرف نطالبها باسترجاع مداخيل صادراتها.
وفي هذا السياق ترى النظرية النقدية الحديثة (مرتبطة بالسياسة النقدية للبنك المركزي) أن الاستثمار الأجنبي المباشر هو الية في خدمة رأس المال العالمي لاستنزاف الفائض الاقتصادي للبلدان النامية مثل تونس ويتعمق هذا الاستنزاف باعتبارالأولوية التي يتمتع بها الاستثمار الأجنبي المباشر في هذه البلدان على حساب الاستثمار الوطني بما ساهم في تدمير القطاعات المنتجة الوطنية وفتح باب التوريد على مصراعيه وبالتالي دفع الاقتصاد نحو الانكماش باعتبار أن هذه الشركات لا تستجيب لأولويات التنمية وغير مندمجة في النسيج الاقتصادي بل انها تستنزف ميزانية الدولة من خلال الامتيازاتالجبائية والمالية التي تتمتع بها عوض المساهمة في دعم موارد الميزانية.
وفي الوقت الذي تدعو فيه مجموعة الخبراء والمختصين في الاقتصاد وزارة التجارة والبنك المركزي الى مصارحة التونسيين بحقيقة عجز الميزان التجاري للوقوف على حقيقة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الذي استنزف الفائض الاقتصادي للبلاد حيث أن طريقة احتساب صندوق النقد الدولي تظهر أن لتونس عجزا تجاريا سنويا يناهز 14 مليار دينار سنويا مع الاتحاد الأوروبي وعجزا ب 4 مليار دينار مع فرنسا مقابل 2.5 مليار دينار مع تركيا بما يكشف على أن عملية مراجعة اتفاقية التبادل الحر مع تركيا تخضع في حقيقة الامر للتوظيف السياسي من جهة، وتخدم المصالح الفرنسية في تونس التي تعمل على غلق كل الأبواب أمام تونس لشراكات جديدة ومتنوعة والعمل على توسيع هذه المصالح بالاستحواذ على نصيب السوق التركية في تونس، لنقف عند حقائق لا علاقة لها بما تروج له السلط التونسية وبعض الأطراف المتواطئة مع فرنسا من أن هذه الاتفاقية،تحديدا عكس بقية الاتفاقات، ألحقت أضرارا باقتصادنا والحال أن اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995 والتي ترفض السلط التونسية تقييمها، أضرت هي أيضا بل ودمرت اقتصادنا وذلك بشهادة البنك الدولي الذي قام بدراسة في سنة 1994 بين فيها أن اتفاقية الشراكة سوف تقضي على 45 بالمائة من نسيجنا الاقتصادي، وهو ما حصل فعلا بل أن التدمير شمل اليوم أكثر من ذلك لتضحي تونس بشبابها الذي أصبح يلقي بنفسه في البحر في غياب الاستثمار الوطني والمشاريع العمومية والخاصة حيث تحولت بلادنا الى سوق استهلاكية لأوروبا وفرنسا في ظل تضليل السلط العمومية واخفاءها للمعطيات الحقيقية والتي يمكن رصدها في الوثائق الرسمية على غرار الوثيقة المتعلقة بحصيلة المبادلات الخارجية لتونس الى موفى شهر نوفمبر 2020 التي نظر فيها المجلس الوطني للتجارة الخارجية المنعقد في 22 ديسمبر 2020 .
في هذه الوثيقة تبين وزارة التجارة أن 92.3 بالمائة من صادرات قطاع الصناعات الالكترونية والميكانيكية تتم تحت نظام التصدير الكلي، وأنه تحت هذا النظام حققنا فائضا تجاريا يقدر ب 6.3 مليار دينار خلال الاحدى عشر شهرا الأولى من سنة 2020 والحال أن منتوجات الشركات الخاضعة لهذا النظام هي على ملك الشركات الأجنبية الأم، بما يعني اختزال العملية في باب الخدمات الصناعية بميزان المدفوعات، وتبخر المليارات الستة باعتبارها تبقى في بلد الشركة الأم.
وما يسجل في الميزان التجاري هي المبادلات الخاضعة لنظام التصدير العام والتي سجلنا فيها عجزا خلال نفس الفترة بقيمة 9.5 مليار دينارحسب نفس الوثيقة، بما يعني أنه في قطاع الصناعات الالكترونية والميكانيكية لنا عجز تجاري ب9.5 مليار دينار.
ان الحديث عن فائض تجاري مع الاتحاد الأوروبي في قطاع الصناعات الالكترونية والميكانيكية يوهم بأن لتونس فعلا قطاعا متطورا وانتاجا وطنيا تفتخر به في السوق الأوروبية والحال أنه لا يوجد في تونس الا ورشات صناعية تعمل في إطار المناولة ولا تنتج منتوجا نهائيا بعلامة تونسية.
لقد أدت مذكرة المعهد الوطني للإحصاء الى إعادة خلط الأوراق بخصوص علاقات الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي باعتبار أن اعتماد النسخة السادسة لدليل احتساب ميزان المدفوعات القائم على ملكية البضاعة ينسف تصنيف الاتحاد الأوروبي كشريك تجاري أول لتونس حيث تكشف هذه النسخة أكذوبة الفائض التجاري مع الاتحاد الأوروبي ومع فرنسا لتتحول هذه الأخيرة الى طرف مضر بالاقتصاد الوطني،وفي المرتبة الأولى بعجز يناهز 4 مليار دينار قبل تركيا التي لنا معها عجزا بحوالي 2 مليار دينار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *