في الذكرى التاسعة.. الثورة: بين النفخ الشعبوي و البناء المدني .. بقلم بحري العرفاوي

كثيرا ما ينبّه البعض إلى مخاطر قوى الردة وإلى أساليبها في تعطيل المسار الثوري والارتداد بالمشهد إلى الحالة القديمة، والمقصود عادة بقوى الردة هم أصحاب المصالح والامتيازات والمواقع والسلطان في النظام البائد وهم أيضا القوى المحافظة في وعيها وتقاليدها وبِنيتها النفسية وفي قِيمها وأساليب تعاملها وطرائق عيشها.

الذين يطلق عليهم قوى الردة هم في الحقيقة شرط من شروط قيام الثورة واستمرارها فهم الطرف الآخر في الصراع والتدافع ووجودهم ضروري حتى تستمر حالة اليقظة وحتى تظل قوى الثورة مستنفرة متوثبة وفعالة، قوى الردة تلك لا تمثل خطرا حقيقيا طالما ظلت قوى الثورة تشتغل وطالما ظلت الإرادة حية والأمل في مستقبل أرقى وأنقى متقدا فيّاضا.

الخطر الحقيقي يكمن في قوى الفوضى التي تمارس النفخ الشعبوي وتريد رفع سقف الشعارات بما يلامس الأوهام ويفارق الواقع والحقيقة، تلك القوى عادة هي قوى عاجزة عن التأثير الإيجابي في المشهد وعن صناعة وعي جديد وصورة لمستقبل مختلف يجتذب إليه عموم الناس فينتظمون في حركة أو حزب يتحركون في انتظام وتمدن وفق رؤية واضحة وأهداف محددة ومسار واثق متزن ورصين بما يضمن عملية البناء الثوري على أنقاض ما يتهدم باستمرار من مبنى الفساد والطغيان .. جماهير الثورة تتقدم في التاريخ مجهزة بالإرادة والوعي والأمل تقتلع نبتات الشر وتغرس الخير تهدم المعابد القديمة ، معابد الاستبداد والاستعباد، وتبتني صروح العدالة ومحاريب التحرر.

إن قوى الثورة هي قوى متمدنة وهي قوى منتظمة واعية مسؤولة وبناءة وليست مجرد حالات فوران عاطفي أو ردّات فعل غرائزية ثأرية تدميرية وهي أيضا ليست قوى غنائمية تحركها غرائز التحكم والكسب وشهوات التسلط والاستثراء.

قوى الثورة تلك لن تجد صعوبات كبيرة في التضييق على القوى المحافظة وفي تعطيل الماكينة القديمة عن الاشتغال بنسقها العادي ولن تتأخر كثيرا في تحقيق تقدم نحو مستقبل أرقى وأنقى ونحو مشهد لعلاقات ومعاملات جديدة ولحياة بين الناس مختلفة وأكثر أمنا مدنيا وأمانا نفسيا.

ولكن الذي سيظل يربك مسار قوى الثورة هم الفوضويون الذين يمارسون النفخ الشعبوي فيُلبسون الحقيقة بالوهم والواقع بالخيال ويُزينون للعامة المسالك المهلكة ومطبات الخراب.. وإنما يمارس هؤلاء التلبيس على الناس لا عن حسن نية وسوء تقدير بل عن تخطيط مُسْبق وتدبير مُتَعَمّدٍ وعملا بقاعدة الأنانيين: إما أن نَعْبُرَ لوحدنا وإما أن نهْلَك وإياكمْ أو نُهلككم إن استطعنا.

الشعبويون هؤلاء يعانون عقدة الهزيمة ويخافون الحرية فلا يخوضون معركة الأفكار والمعاني ولا يقتحمون مواعيد التفريز السياسي بالإحتكام إلى الإرادة الشعبية ولا يثقون لا في بعضهم ولا في ما يقولون ولا يطمعون في مقبولية لدى الجماهير التي يزعمون التحدث باسمها… لذلك يظلون يمارسون الصراخ والعويل والتشويش تماما كما التلاميذ الفاشلين يتمنون تعطيل الامتحان بل وحتى إغلاق المؤسسة نهائيا ليكون الجميع في الرسوب سواء.

أرى أن على النخبة السياسية والفكرية أن تُغير وجهة اهتمامها من الحديث عن قوى الردة إلى الحديث عن قوى الفوضى ـ رغم ما بينهما من التقاء مصالح وتشابك أساليب وأفاعيل ـ ولكن الخطر الأكبر إنما مأتاه التلبيسيون الذين يمارسون النفخ الدائم في بالونات تتقاذفها الرياح وتشد إليها أنظار الناس فلا يتأملون واقعهم ولا يتحسسون الأرض التي يقفون عليها فيصرفهم زيف الأوهام عن شرف المهام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *