عودة على مشروع مجلة المياه .. من يحمي حق التونسي في الماء؟ .. بقلم جنات بن عبد الله

وسط أجواء غلب عليها التوتر والتباين في الآراء والمواقف والتراشق بالاتهامات، قررت الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب المنعقدة يوم الخميس 15 جويلية 2021 ارجاء النظر في مشروع القانون الأساسي عدد 2019/66 الخاص بإصدار مجلة المياه.

وقد عرف هذا المشروع ولا يزال جدلا كبيرا خلال كامل مراحل اعداده باعتبار خصوصية قطاع المياه ذو الأبعاد الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية في علاقة مع مقتضيات الدستور الضامن لحق الشعب التونسي في الماء من جهة، وصعوبة تجسيد ذلك من جهة ثانية في ظل التوجهات التي انخرطت فيها بلادنا بعد الثورة بمقتضى الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي التي تقوم على تخلي الدولة عن دورها التنموي والاجتماعي والاقتصادي الذي تجسده سياسة التقشف ويمر عبر تفويت الدولة في المؤسسات العمومية، وفي ظل اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق التي تشمل تحرير المبادلات التجارية في قطاع الخدمات.

النسخة المقدمة من قبل جهة المبادرة، وهي وزارة الفلاحة، عرفت بعد تحويلها الى لجنة الفلاحة والأمن الغذائي والتجارة والخدمات ذات الصلة بمجلس نواب الشعب عديد التعديلات والمراجعات شكلت موضوع نقاش 20 حصة على امتداد 110 ساعة عمل استندت فيها اللجنة الى مقترحات الجهات ذات العلاقة بقطاع المياه وقطاع البيئة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية ليتم تقديم نسخة نهائية ب 611 فصلا.

هذه النسخة نجحت نسبيا في ترجمة تخوفات الأطراف المؤمنة بدسترة الماء وهو ما شكل فعلا نقاط قوتها وتميزها مقارنة بالنسخ السابقة ليبرز ضعفها في مستوى تفاعلها مع التوجهات التحررية للاقتصاد الوطني التي تترجمها الترسانة التشريعية الجديدة التي تم تمريرها بعد انتخابات 2014 المنخرطة في مسار برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي من جهة، واتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، لنسجل غياب وزارة التجارة وتنمية الصادرات عن اجتماعات اللجنة باعتبار انتماء الخدمات المائية لقطاع الخدمات الذي يشكل تحرير مبادلاته التجارية محور مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي فضلا عن أن المجلس الأعلى للخدمات هو تحت سلطة اشراف هذه الوزارة.

كما نسجل أيضا غياب وزارة المالية والاقتصاد ودعم الاستثمار عن أعمال اللجنة باعتبار أن تحرير قطاع الخدمات الذي يخضع لقانون الاستثمار عدد 71 لسنة 2016 مؤرخ في 30 سبتمبر 2016 وقانون تحسين مناخ الاستثمار عدد 47 لسنة 2019 مؤرخ في 29 ماي 2019 يسحب أيضا على الخدمات المائية.

انتقادات عديدة وجهت لهذا المشروع لعل أخطرها تلك التي اعتبرته منعرجا خطيرا لتونس من زاوية ما يشكله من تهديد على الأمن القومي وعلى خصخصة الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه “الصوناد” والديوان الوطني للتطهير.

هذه الانتقادات غذاها غياب وزارتي التجارة والمالية وهو غياب مقصود ويندرج ضمن سياسة التعتيم التي اتبعتها جميع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة كلما تعلق الأمر بخصخصة المؤسسات العمومية والتفريط في السيادة الوطنية وذلك من زاوية التهديد الذي أصبح يواجهه حق الشعوب في النفاذ الى الماء ليس بسبب الاستنزاف والتلوث التي تتعرض له الموارد المائية بل وأيضا بسبب سياسة الانفتاح وأحكام اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة التي جعلت الماء سلعة يمكن خصخصتها ضمن إطار تحرير التجارة واتفاقيات التبادل الحر.

هذا التهديد يجد مصدره أيضا في أطروحات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تعتبر أن معالجة الخلل في إدارة المياه في البلدان النامية تكمن في خصخصة قطاع المياه لتخفيف العبء على ميزانية الدولة وتحميل القطاع الخاص جزءا من المسؤولية على خلفية قدرته على حسن التسيير والإدارة وذلك عبر تقديم الدعم المالي والفني للحكومات.

ورغم اقرار مشروع مجلة المياه بأن الماء هو ملك عمومي غير قابل للتفويت فان التساؤل يبقى قائما بخصوص الخدمات المائية التي تم التنصيص عليها بالفصل 48 من النسخة النهائية والخاضعة لنظام اللزمات وعددها ستة والتي تعمد المشرع تقديمها على أساس أنشطة والحال أنها بمقتضى أدبيات المنظمة العالمية للتجارة وتحديدا اتفاقية “الغات” والاتفاقية العامة لتجارة الخدمات تصنف كخدمات مائية.

وبمقتضى القوانين المحدثة لها فان هذه الخدمات، أو الأنشطة، كما جاء في المشروع، هي من مشمولات الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه (القانون عدد 22 لسنة 8196 المؤرخ في 2 جويلية 1968 والمنقح بالقانون عدد 21 لسنة 1976 المؤرخ في 21 جانفي 1976) والديوان الوطني للتطهير (القانون عدد 73 لسنة 1974 المؤرخ في 3 أوت 1974)، وكل توجه يقوم على اخضاع هذه الخدمات لنظام اللزمات بمقتضى قانون اللزمات عدد 23 لسنة 2008 المؤرخ في 1 أفريل 2008 هو عملية خصخصة لمدة محددة باعتبار أنه بموجب عقد اللزمة تتخلى المؤسسة العمومية عن تقديم هذه الخدمات

للمستهلك المطالب بالتعامل مع صاحب اللزمة الذي يضبط معلوم خدماته حسب قوانين السوق بعيدا عن الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تحكم سياسة الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه والديوان الوطني للتطهير.

ويعرف قانون نظام اللزمات عقد اللزمة على أنه العقد الذي يفوض بمقتضاه شخص عمومي يسمى “مانح اللزمة”، لمدة محددة، إلى شخص عمومي أو خاص يسمى “صاحب اللزمة”، التصرف في مرفق عمومي أو استعمال واستغلال أملاك أو معدات عمومية وذلك بمقابل يستخلصه لفائدته من المستعملين حسب الشروط التي يضبطها العقد.

وقد كشفت التجارب في عديد البلدان النامية التي فتحت قطاع المياه أمام الشركات العالمية التي حظيت بالأولوية على حساب الشركات الوطنية المتهمة بضعف كفاءتها في الإدارة والتسيير عن حدوث أزمات حقيقية بسبب ارتفاع الأسعار التي قفزت الى مستويات خيالية.

والى جانب التهديدات التي يشكلها قانون نظام اللزمات وقانون الاستثمار وقانون تحسين مناخ الاستثمار على حق المواطن في الماء، لا تخلو اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق من تهديدات خطيرة على هذا الحق وعلى حق المواطن في المرفق العمومي بصفة عامة وذلك من منطلق ما جاء بالفصلين 8 و9 من النص المتعلق بالمنافسة والأحكام الاقتصادية الأخرى للاتفاقية الذي جاء فيه “أن جميع احتكارات الدولة ذات الصبغة التجارية ستزول بحلول السنة الخامسة التي تلي ابرام الاتفاقية. كما ستخضع المؤسسات العمومية التي تتمتع بحقوق خاصة أو حصرية لشروط السوق في نهاية السنة الخامسة التي تلي ابرام الاتفاقية وذلك لغرض تحرير المبادلات بين الاتحاد الأوروبي وتونس”.

ولئن يحسب للنسخة النهائية من مشروع مجلة المياه نقاط إيجابية بخصوص الحوكمة ونظام التعديل، يجب الحفاظ عليها، فان المشرع مدعو الى الأخذ بعين الاعتبار المخاطر الحقيقية التي يمثلها نهج تحرير الاستثمار وقطاع الخدمات، واتفاقية التبادل الحر، على جق المواطن في النفاذ الى الماء.

وفي هذا المجال يمكن الإشارة الى عديد المحاولات التي يمكن الاستئناس بها على غرار ما جاء باتفاقية التبادل الحر بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمكسيك من استثناء الموارد المائية الطبيعية من كل اتفاق تجاري وذلك في سنة 1993.

كما يمكن تفعيل الفصل 43 من قانون اللزمات الذي سمح بمراعاة النصوص القطاعية الخاصة والجاري بها العمل عند تطبيق أحكام قانون اللزمات في اتجاه الحفاظ على احتكار المؤسسات العمومية اسداء الخدمات المائية.

لقد كشف الجدل القائم حول مشروع مجلة المياه عن حقيقة النهج التحرري الذي انخرطت فيه بلادنا، وجسدته الحكومات المتعاقبة بعد الثورة في قوانين، لنتساءل عن حجم المخاطر التي تهدد الشعب التونسي في غياب المحكمة الدستورية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *