عبد المجيد الشرفي في حديث صحفي: دراستي للردود على النصارى و الجدل الديني أدت بي إلى نتيجة هامة جدا و هي عقم المماحكات الدينية

حديث حول المفكر.. المثقف و الإنسان
**  أسمح لنفسي بأن أكون ملتزما بالخيارات التي أراها صائبة سواء جاءت من اليمين أو من اليسار
** لا أتحمل أن تحد حريتي بأي تعلة كانت ولا أجيب عن الجدل العقيم
** الطاهر شريعة وراء تعلقي بالسينما و”إقامتي الجبرية” في مدرسة والدي كانت بين كنوز من الكتب
** تونس في حاجة إلى بيداغوجيا سياسية والدولة تنقصها الجرأة لذلك

نخصص بداية من اليوم وبصفة متواترة مساحة  للمفكرين و المثقفين والمبدعين في بلد يحتل السياسيون فيه جل المنابر الإعلامية، إذ تعج هذه المنابر بأحاديث السياسة إلى حد التخمة، مقابل ذلك يكاد يغيب صوت المثقف الذي من المفروض أن يكون في صدارة المشهد العام في المجتمعات التي تمر مثل تونس، بمرحلة انتقالية تتخللها العديد من الصعوبات والتحديات.

و أول ضيوفنا في هذه المساحة هو الأستاذ عبد المجيد الشرفي رئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة بقرطاج) والباحث المختص في تاريخ الفكر الإسلامي. وبطبيعة الحال لا يحتاج الأستاذ عبد المجيد الشرفي للتعريف فأعماله ومسيرته بالجامعة (أستاذا وعميدا  لكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية  بتونس) تدل عليه، لكن فقط نشير إلى أنه اصدر عديد  المؤلفات نذكر من بينها على سبيل الذكر لا الحصر “الإسلام والحداثة” و”المسلم في التاريخ” و”الإسلام بين الرسالة والتاريخ” و”مرجعيات الإسلام السياسي” و”المصحف وقراءاته” وغيرها.

و الأستاذ عبد المجيد الشرفي هو أستاذ زائر في العديد من الجامعات العربية والأوروبية وشغل أول كرسي اليونسكو للأديان المقارنة بين سنتين 1999 و2003.

و قد شارك مؤخرا في لجنة إعداد مشروع قانون الحريات والمساواة المثير للجدل في انتظار عرضه على أنظار مجلس النواب، كما كان عضوا بالهيئة  العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي التي انتصبت بعد سقوط نظام بن علي في 14 جانفي 2011 وواصلت عملها إلى غاية  تنظيم أول انتخابات ديمقراطية في أكتوبر من نفس العام.

و قد سعينا في هذا الحوار إلى التعرض إلى عدة جوانب في حياة ضيفنا و إلى مسيرته العلمية والمعرفة، وأردنا أن نقدم صورة قريبة ما أمكن من الواقع حول عبد  المجيد الشرفي، المفكر والجامعي والباحث والإنسان،  فكان الحديث التالي :
للطفولة دور حاسم في تكوين شخصية الإنسان، فأية ذكريات تحمل عن هذه الطفولة ؟

 

أحمل ذكريات طيبة عن طفولتي في صفاقس لأنها كانت فيها حياة ثقافية نشيطة فقد كوّن المرحوم الطاهر شريعة نوادي السينما انطلاقا من صفاقس وكانت هناك في مدينتي حركية فكرية وجمعيات ورحلات ونشاط مسرحي.

وساهم كل هذا في تكوين شخصية الطفل والشاب وفيما بعد أصبحت صفاقس مدينة اقتصادية ولم تعد تحتل الثقافة فيها مركزا مهما رغم أن الحياة الثقافية بدأت تعود رويدا رويدا للمدينة بعد تأسيس جامعة صفاقس.

وأعتبر نفسي شخصيا محظوظا لأني نشأت في وسط اجتماعي يهتم بالمسائل الثقافية رغم أني أنحدر من عائلة تقليدية.
فوالدي كان مدير مدرسة ابتدائية قرآنية وكان تكوينه زيتونيا بالأساس لكنه تعلم الفرنسية وتحصل على الشهادة الابتدائية.

وأعتقد أن مزية الوالد علي مزية كبيرة لأنه لم يسع إلى أن التحق بالزيتونة لأنه كان واعيا بتدني التعليم الزيتوني في تلك الفترة، وكذلك فعل جل شيوخ الزيتونة في تونس، إذ فضلوا تسجيل أبنائهم في المدارس العصرية.

أما تأثير الوالدة فقد كان تأثيرا نفسانيا عاطفيا فقد كانت أمية لكنها ساعدتني بطريقتها على التعلّم.
كل مثقف أو مبدع أو مفكر عادة ما يعيش لحظة مميزة أو مختلفة في طفولته أو في شبابه المبكر تكون حاسمة في تحديد مسيرته، فهل عشت موقفا أو حدثا تعتبر أنه لولاه ربما لكانت حياتك العلمية والمعرفية مختلفة؟

أنا كنت طفلا مشاكسا وقد استوجب ذلك عقابي بأن حكم علي بالذهاب مع أبي إلى المدرسة يوميا تقريبا وكانت هناك مكتبة بهذه المدرسة زاخرة بالكتب المتنوعة واستفدت من هذه “الإقامة الجبرية” ومنها تعلمت حب القراءة اذ كنت امام كنوز من الكتب.

 

بعد الأسرة، يتأثر الإنسان بالخصوص بالمعلم وبالأستاذ، فكيف كانت مسيرتك المدرسية وأي من المعلمين أو الأساتذة تركوا فيك تأثيرا خاصا ؟

كنت كامل دراستي أصغر أبناء فصلي وذلك تقريبا من السنة الأولى ابتدائي إلى الجامعة.

وقد تأثرت بالكثير من المعلمين والأساتذة التونسيين والأجانب. أذكر مثلا أستاذة التاريخ والجغرافيا وهي  فرنسية وكانت هي التي أمدتني بأول اسطوانة في الموسيقى السمفونية لأنها لاحظت ربما على اثر سؤال اهتمامي بهذا النمط الموسيقي فأمدتني بهذه الإسطوانة  وكان علي بطبيعة الحال في ذلك الوقت أن أتدبر أمري وأن أطلب آلة مشغلة من باب السلفة، للاستماع إلى السمفونية.

أذكر كذلك أستاذا للفلسفة كان متميزا لأنه قال لنا منذ الحصة الأولى لن أعلمكم شيئا والمعارف التي لديكم سأعلمكم كيف تستغلونها بطريقة منهجية وعقلانية

أذكر من الأساتذة الذين أثروا في الطاهر شريعة الذي كان أستاذي ثم أصبح صديقي. وعموما، لقد تأثرت بالكثير من الأساتذة لكن بعضهم لم يترك في أي اثر.

 

نعرف من خلال سيرتك أنك درست العلوم التجريبية قبل التخصص في الفلسفة، هل كان من اليسير التنقل من العلوم إلى الفلسفة ؟

كان هناك قسم الفلسفة وقسم العلوم التجريبية وقسم الرياضيات في المعهد وفي الحقيقة تكويني مزدوج لأني كنت في قسم العلوم بالنسبة للجزء الأول من الباكالوريا ثم اخترت الفلسفة في الجزء الثاني وكنا في قسم الفلسفة حوالي 20 تلميذا بالنسبة للجنوب التونسي كله وأربعة تلاميذ من فصلنا أصبحوا أطباء فقد كان يمكن انطلاقا من قسم الفلسفة متابعة دراسة الطب.

*أنت شاهد على العصر بطبيعة الحال، فهل من مقارنة بين تعليم الأمس و اليوم ؟

صحيح لم يكن التعليم الخاص موجودا ولا الدروس الخصوصية موجودة في تلك الفترة لكن كانت هناك جمعيات نشيطة تتوفر على مكتبات كبيرة وكانت تقدم محاضرات وأنشطة ثقافية مختلفة وكانت الجمعيات تقوم بنشاط مكمل للمدرسة.

 

الجامعة أيضا كانت مختلفة، أليس كذلك ؟

أهم شيء أن عدد الطلبة كان قليلا جديدا لما دخلت إلى الجامعة سنة 1960.

أنا تابعت السنة الأولى من أستاذية العربية بكلية 9 أفريل بالتوازي مع متابعة دروس السنة التحضيرية وهي دروس عامة في الفلسفة والتاريخ وميادين  مختلفة وأنا لي مع جامعة 9 أفريل قصة خاصة.

فهذه الجامعة كانت حينها تضم إدارة الجامعة ودار المعلمين العليا وكلية الآداب وبعض المخابر لكل العلوم ومعهد الصحافة وفي جناح من البناية كانت كلية الشريعة وكان هناك أيضا مبيت دار المعلمين العليا.

وعندما نجحت سنة 1960 في امتحان الباكالوريا لم أشأ أن التحق بدار المعلمين العليا لأنه كان لي طموح أن أواصل تعلمي بعد الإجازة بينما يمضي طلبة دار المعلمين العليا عقدا يلزمهم بالعمل في المدارس الوطنية لمدى 10 سنوات اثر الإجازة مباشرة لذلك سجلت في كلية الآداب.

لكن اثر اندلاع  معركة بنزرت في جويلية 1961 لم يلتحق المتعاونون الفرنسيون بالمدارس التونسية عند العودة المدرسية فسخر كل الطلبة لتعويض المتعاونين الأجانب.

وسخرت أنا من جملة الطلبة للتدريس في معهد فتيات في صفاقس وبقيت فعلا أدرس وأنا حاملا للشهادة الأولى فقط ثم رجع المتعاونون فعدت إلى تونس لمتابعة دراستي لكن ما لاحظته هو أن الذين أعفوا من التسخير هم طلبة دار المعلمين العليا فقلت أنه لا معنى لإصراري على الدراسة خارج هذه المؤسسة فقدمت مطلبا للتسجيل في السنة الثانية في دار المعلمين العليا لكن بقيت مترددا إلى أن اعترضني المرحوم الهادي بوسن الكاتب العام لدار المعلين العليا فقال لي لن يكون لك لا منحة ولا قرض شرفي إن لم تلتحق فورا بالمؤسسة وأنا لم أكن أريد أن أكون عالة على أسرتي وقررت إذن الالتحاق بدار المعلمين العليا.

كنا حينها أربعة أو خمسة في قسم العربية ثم عندما تحصلت على ديبلوم التخرج انتدبت للتدريس في معهد خزندار بتونس ورفضت أن أبدأ عهدا في التدريس بتدريس السنوات الخامسة والسادسة وفضلت الانطلاق بتدريس السنة الأولى والثانية ثم عينت في آخر السنة   للتدريس في المعهد الثانوي بقفصة (المعهد يعد لأول مرة للباكالوريا فاتصلت بالوزارة وكان بها حينئذ ثلاثة مصالح (الثانوي والابتدائي والمصلحة الاجتماعية والثقافية) واشترطت على المسؤول الذي استقبلني وكنا حتى حينما نتخرج يقع استقبالنا كل على حدة (لم نكن عموما أكثر من أربعة أو خمسة متخرجين) اشترطت عليه أن أذهب لسنتين ثم أعود لخزندار. وفعلا عندما نجح تلامذة السنة الخامسة درست السنة السادسة بالمعهد وكونت ناديا بالسينما.

 

يتكرر الحديث عن السينما وعن الطاهر شريعة. كنت إذن من عشاق السينما ؟ 

كنت مغرما بالسينما بفضل المرحوم الطاهر شريعة  بالذات وحتى المعلقات في هذا النادي كنت أكتبها بخط يدي.
وبالطبع كنت أخشى ما أخشاه أن لا يصل الشريط عن طريق القطار في الإبان بل وينبغي أن يصل قبل يوم حتى نتمكن من عرضه في الإبان كما أني  شاركت بصفتي منشطا في نادي سينما في تربص في فرنسا ثم انقطعت عن النشاط عندما دخلت الجامعة لضيق الوقت.
بعد عودتي إلى تونس وبما أنه لم تكن هناك دراسات عليا بعد الإجارة في تونس أعددت لمناظرة  التبريز  وأعددت ديبلوم الدراسات العليا عن طريق المراسلة مع جامعة باريس وبعد نجاحي في مناظرة التبريز خيرت بين كلية الآداب ودار المعلمين العليا وفضلت دار المعلمين العليا لأن مستوى الطلبة كان أفضل.
انتدبت إذن كأستاذ مساعد وكنت أقوم بدروس عامة وهي تحتسب كما لو قدمت درسين موجهين وهكذا بالنسبة لي لست مطالبا بست ساعات تدريس وسجلت بالتوازي في أطروحة الدكتورة في البداية في جامعة باريس ثم عندما أحدثت دكتوراه دولة سجلت بتونس.

 

هل سارت الأمور بالنسبة لك مثلما تسير مياه النهر الهادئ ؟

كل مسيرتي في البحث والتدريس كانت نتيجة بحث وليست منة من أحد.
ولم تكن الأمور بهذه البساطة وكان علي أن اقضي فترات طويلة بالخارج في البحث وفي المكتبات وأن ابقي زوجتي وابني في تونس. (ولده المهندس اختار مسارا مختلفا عن والده وعن والدته الجامعية).
أذكر أنه كانت هناك مكتبة وطنية في باريس تفتح من التاسعة إلى السادسة وكنت أول من يدخل وأول من يخرج منها.

 

عادة ما تترك باريس ولندن تأثيرا خاصة لدى الطلبة القادمين من العالم النامي أو من المستعمرات القديمة فكيف كانت التجربة بالنسبة لك ؟

عاصمة الأنوار دائما تترك أثرا في زوارها وفي الطلبة، لكني لم أعش ذلك الانبهار الغبي الذي يغطي على نقائص الحياة.
مع العلم أنه عرض علي أن أدرس في فرنسا ولم أرغب لأني كنت اعتبر أن بلادي يمكن أن توفر لي ما لم يكن يخطر ببالي ولا ببال أبناء جيلي.

لكن الهجرة صارت بمثابة الملجأ وأحيانا الحلم بالنسبة للجامعي اليوم ؟

أنا افهم الشباب الذين يرغبون في الهجرة لكن أعتقد أن اختيارهم ليس الاختيار الأصوب  فإذا ما قطع الإنسان الصلة ببلده يعسر عليه أن يعيد الصلة به والكثير منهم يعيش تمزقا بين ما يؤمله وبين واقعه الذي هو في كثير من الأحيان صعبا ولا ينبغي أن نتصور أن الحياة سهلة طبعا فيها جوانب ايجابية لكن الوضع أصبح أكثر صعوبة اليوم مع انتشار موجة العنصرية. لكن تونس توفر نوعية من الحياة أعتقد أنها أفضل بكثير من نوعية الحياة بالخارج اليوم.

 

إلى اليوم ؟

نعم إلى اليوم رغم الصعوبات فما يقلقني شخصيا في تونس ليس ما يقلق عامة الناس. أنا حساس جدا مثلا  عندما أرى الأوساخ والفوضى في الطريق وهو ما يمكن تلافيه بسهولة.
مقابل ذلك الطقس معتدل في بلادنا والعلاقات البشرية أفضل مما هو موجود في بلدان أخرى وهنا الأصدقاء في حين هناك من التونسيين من يذهبون إلى الغرب  ولا يصادقون أحدا في سنوات عديدة وربما حتى في كامل حياتهم بالخارج.
هم يعيشون غرباء في بيئتهم وغرباء عن البيئة الجديدة   وهذا ربما راجع إلى العنصرية التي لم تكن موجودة في الفترة التي كنت فيها في الخارج.

 

إذا ما عدنا إلى تخصصك في تاريخ الفكر الديني فإن السؤال هو كيف اخترت هذا التخصص بعد دراستك للفلسفة وللآداب العربية؟

لأن الإجازة في اللغة والآداب العربية كانت فيها   بعض المواد التي تتعلق بالفكر الديني.  فقد درسنا  مثلا تفسير البيضاوي لسورة ياسين، ثم في التبريز كان هناك دائما درس في الإسلاميات والمبرّز من باريس كان ينبغي أن يهتم بالأدب والنثر والشعر وبجوانب دينية. وأنا في الحقيقة اهتممت في البداية لا بالفكر الإسلامي فقط وإنما بالفكر الديني عموما لأني كنت أعتبر ومازلت أنه لا يمكن أن نفهم عقلية مجتمع ما دون أن ندرس الفكر الديني في ذلك المجتمع. حتى الأدب العربي أو الفرنسي أو الانقليزي لا يمكن أن نفهمه  بدون العودة إلى الأرضية الدينية  التي تكمن وراء  هذا الإنتاج لذلك درست الدين الإسلامي والدين المسيحي ودين التوحيد عموما. وقد كنت صاحب أول صاحب كرسي للأديان المقارنة في العالم الاسلامي لأني اهتممت بالفكر الديني.

 

إلى جانب الرغبة في المعرفة، هل كان هناك هاجس آخر وراء التخصص في الفكر الديني، مثل الخلاص الشخصي مثلا  ؟

الهاجس معرفي بالأساس.  وأنا  أعتبر أني محظوظ لأني درست في أطروحتي الردود على النّصارى والجدل الديني هو الذي أدى بي إلى نتيجة هامة جدا وهي عقم المماحكات الدينية. ولهذا لا يمكن لي أن  أنخرط في جدل يصدر عن هذه الجهة أو تلك وأصبحت أومن أن أهم شيء عندما يدرس الإنسان   الفكر الديني هو محاولة وضع هذا الفكر في نطاق المعقولية الحديثة. وهذا أمر صعب جدا، لا ان يبقى في نطاق المعقولية التقليدية وهذا يتطلب الماما بكل ميادين المعارف الحديثة، لا لتطبيقها آليا على الفكر الديني بل لإنارة هذا الفكر من زوايا مختلفة وهذا ما يعجز عنه الفكر التقليدي. فالفكر التقليدي له حقائق ثابتة وأمور واضحة ودقيقة يحفظها ويبلغها وانتهى الأمر.

من يدرس الفكر الديني بوسائل علوم الإنسان والمجتمع الحديثة، فهو مضطر لمعرفة ما يعرفه الفكر التقليدي وأيضا اضاءات هذه العلوم التي يقرأ بها هذا الإنتاج. والصعوبة كل الصعوبة في هذه العملية .

 

عندما تقيّم مسيرتك الجامعية والبحثية الطويلة وخاصة على ضوء ما نراه اليوم من عودة بقوة للجدل حول المسألة الدينية، أين تضع  مجهوداتك العلمية والفكرية وهل أنت مقتنع بالنتائج التي وصلت إليها ؟

بدون تواضع كاذب، أعتبر أني حاولت في كل حياتي المهنية في الجامعة أن أكون جديرا بالمستوى الذي أعتبر أنه ينبغي أن يكون لكل باحث جامعي فقط. لا أرى لي مزية خاصة لأنني أرى أن هذه وظيفة الجامعي اي أنه ينتج المعرفة وان يأتي بما لم يأت به السابقون ولا يكرر ما هو موجود في الكتب فقط.

تعرفين أن المهمة لم تكن يسيرة، فقد عانيت من مضايقات في مستوى نشر كتبي ولهذا اضطررت للنشر في لبنان لأن ما أنشره يحجز لكن بصراحة لم يثنني ذلك عن العمل. كنت دائما أعتبر أنها فترة انتقالية ستمر المهم أن الجامعة رغم كل شيء كانت تتمتع بحرية التعبير  التي لم تكن موجودة في البلاد  ولا يمكن أن اشهد بغير هذا الواقع الذي لا يمكن أن يتصوره أحد لكنها الحقيقة، لم تسلط علي رقابة ولم يقل لي احد لماذا قلت هذا في درسك أو لم تقله. ذلك هو المناخ السياسي الذي كان سائدا فهو يسمح بهذا الهامش من الحرية ما لم يكن موجها إلى العموم.  وهو أمر لا يخصني وحدي بل ينسحب على كل الجامعيين.

 

بعد تجربة الاستاذ محمد الشرفي الوزارة (وزارة التربية في عهد بن علي) ما انفك يطرح اسم عبد المجيد الشرفي كأحد الاسماء المرشحة لمسك حقيبة وزارة التعليم العالي، هل تؤمن بالوزير المثقف ؟

عندما كنت في سن المراهقة عشت الصراع بين بورقيبة وبن يوسف ولاحظت من  بعض معارفي أن هناك فجوة بين الالتزام الحزبي وما كان يؤمن به   الشخص وقد أخذت على نفسي عهدا ألا أنخرط في اي حزب سياسي.

في السنوات الأولى من عهد بن علي وعندما علمت بإمكانية ترشيحي لمنصب وزاري طلبت من أحد مستشاريه أن أبلغه أني لا أرغب في أن أكون وزيرا ولو حدث وتم تعييني فإني سأرفض ذلك علنا.

و الحقيقة لم يكن لي في يوم من الايام اي طموح سياسي وأعتقد أنني لا أصلح للوزارة لأن الوزير لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار التضامن الحكومي وأنا حريص على حريتي ولهذا لا ألتزم بخط  حزب معين ولا بحكومة معينة. أنا ضنين بذلك.

 

معروف عن مواقف الأستاذ عبد المجيد الشرفي مرونتها رغم جرأته في تناول القضايا التي يمكن أن ندرجها في خانة المحظورات، كيف يمكن تفسير ذلك ؟

الماركسية، هي الايديولوجويا التي كانت سائدة بعد الحرب العالمية وحتى السبعينات لكن ربما تكويني الفلسفي قد مكنني من أن أتجنب الدغمائية الموجودة في الأحزاب الشيوعية لذلك مازالت أعتبر أن الماركسية كما مورست في الاتحاد السوفياتي فيها جوانب ايجابية ولكن تطبيقاتها كارثية، لأنها تعوق حرية الفرد. هي تحقق انجازات مادية وحتى ثقافية هامة و لكن انا لا أتحمل أن تحد حريتي بأي تعلة كانت و لذلك فلم أنخرط في حزب سياسي ولا في تيار إيديولوجي، إنما كنت اسمح لنفس بأن أكون ملتزما بالخيارات التي أراها صائبة سواء جاءت من اليمين أو من اليسار.

 

هي البراغماتية إذن ؟

لا ليست البراغماتية لأنها مراعاة الواقع و إنما أنا أتحدث عن الاختيارات. إذ أسمح لنفسي  أن آخذ ما أراه صالحا من الوسط و من اليمين  و لا أرى حرجا في تغيير رأيي إن كان خاطئا.

و الحقيقة لم تستهوني الوزارة في يوم من الأيام لا وزير و لا رئيس و لا أي شيء.

 

لكن هذا لا يعني أنه ليس لديك موقف من الشأن العام ؟

الوضع العام اهم شيء فيه التذبذب وعدم الاستقرار وهذا التذبذب مسؤول عنه غياب الحياة السياسية مدة ثلاثين سنة من أواخر عهد بورقيبة ومسؤول عنه الاستبداد وغياب الحياة السياسية والاستبداد كلاهما يفرض مواقف فيها الكثير من التطرف.  على غرار قول إنه لا يوجد في تونس إلا الخراب وحتى عندما   أفتح الإذاعة ألاحظ أن هناك تبرما من كل شيء .

لا اقول أن كل شيء على احسن ما يرام لكن كم هي الإيجابيات الموجودة في المجتمع التونسي لماذا نقف  إلا على  النقائص؟ صحيح أن الصحافة لا تهتم كما يقال إلا بالقطارات التي لا تصل في الوقت لكن الإعلام عندما لا يهتم إلا  بالقطارات التي تصل متأخرة فإنه يخل بواجبه وإعلامنا بصفة عامة مخل في إبراز ما هو ايجابي في المجتمع التونسي رغم كل الصعوبات والنقائص الموجودة في الممارسة السياسية اليوم وهي بعيدة وبعضها راجع إلى أمد بعيد إلى ارث استبدادي لم نتخلص منه في نفسيتنا بصفتنا شعبا عانى من الاستبداد   وبعضها ناتج عن عوامل خارجية والاسلام السياسي  هو انتاج استعماري رغم أنف زعماء هذا التيار.

 

عمليا، هل هناك مقترحات وجيهة يمكن أن تساعد على إصلاح الوضع ؟

كنت اقترحت في إطار الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة أن لا يتم الاعتراف بالحزب إلا إذا ما برهن على أن له عددا أدنى من المنخرطين خمسة آلاف أو عشرة لا يهم، المهم أن لا يكون حزبا عائليا، لكن لم يؤخذ بهذا الاقتراح.

و مازلت اصر على أن حرية التنظم لا بد لها من الضوابط  وإلى حد الآن لم يجرؤ رجال السياسة على مواجهة هذه الصعوبة والضوابط لا تكون إلا قانونية لا اعتباطية .

و الوضع السياسي ناتج إلى حد كبير عن طبيعة الدستور الذي اقر سنة 2014 وعبرت عن  رأيي فيه  وأعتقد أن التشبث بالنظام البرلماني في بلاد كتونس لا يؤدي بالضرورة الى الديمقراطية. فالنظام البرلماني كما هو معمول به في بريطانيا يقتضي نوعا من الوعي السياسي والتنظيم الحزبي غير متوفر في تونس بينما النظام الرئاسي المعدل الذي فيه سلط مضادة يمكن ان يكون أفضل من النظام البرلماني. النظام الانتخابي بدوره أثبت أنه ليس بالنجاعة المتوقعة.

صحيح هناك تجنب للنظام الاسمي لانه قد يؤدي إلى انتخاب الوجهاء فقط لكن نظام القائمات وإن كان صالحا للمجلس التأسيسي فهو ليس صالحا للحكم.

 

السؤال الأكثر ترددا على ألسنة الناس اليوم هو إلى أين نسير ؟

تعودنا على ان تكون تونس في كثير من الأوقات على حافة الهاوية دون أن تسقط ولذلك نعيش أوضاعا متأزمة صعبة لكنها ليست كارثية وأنا شخصيا متفائل  وأعتقد ان التونسيين سيتجاوزون الصعوبات الحالية.

و هناك عمل سياسي بيداغوجي لا بد من القيام به. وهو دور يجب أن يكون بعهدة الدولة. الدولة عليها أن تفسر للناس بأن تونس لا يمكن لها أن تتحمل مزيدا من التعطيلات.

و أنا شخصيا لا أومن بأن هناك معطلين عن العمل بل هناك عاطلون وليس معطلون وكثيرون منهم يشتغلون في الاقتصاد الموازي وهم يتكبرون على بعض المهن ونفس الأشخاص عندما “يحرقون” إلى أوروبا يرضون بأي عمل.

هناك بيداغوجيا لا بد من القيام بها في هذا الباب لكن لسوء الحظ لنا حكومة بكماء أو تكاد  وتأخذ قرارات مهمة لكنها لا تفسرها. وبورقيبة كان يخاطب الشعب التونسي كل أسبوع.

 

لكن السياسيين اليوم كلما توجهوا بكلمة إلى الشعب إلا وكانت الكارثة ؟

لا بد أن يكون الخطاب بعيدا عن اللغة الخشبية وأن يكون متعلقا بخيارات دقيقة. فيه حديث مثلا عن لماذا يعطل انتاج الفسفاط ومن المسؤول عن ذلك وهل من الطبيعي أن يكون ذلك والحكومة لا تحرك ساكنا في الظاهر على الأقل.

هناك أكفاء في دوائر الحكم لكن ربما يحتاج رجال السياسة إلى جرأة هي ليست دائما موجودة.

تخول له النظر بدقة لما يحدث اليوم ؟

لست بعيدا في ركني الهادئ بل أواجه مثل كل التونسيين مشاكل البلاد وتعطل الإدارة وبالخصوص لأن بيت الحكمة منبر لتعميق التفكير في مشاكل البلاد ولن تكون بعيدا عندما نقدم الكتب التي تنشرها بيت الحكمة الآن تباعا في الاقتصاد وفي المجتمع وفي عدة ميادين والتي فيها إضاءة لكثير من الجوانب التي كانت مجهولة وكلها في خضم المشاكل التي يعيشها التونسيون. لكن بالطبع هناك فرق بين من ينظر وهو منخرط في الصراعات الدائرة ومن هو غير منخرط فيها.

جدل كثير أثير في الأشهر الأخيرة حول مشروع قانون الحريات و المساواة، كيف تتفاعل معه ؟

انا تعلمت أن الجدل عقيم لذلك لا بد أنك لاحظت أني لم أجب ولا مرة على كل ما أثير من جدل حول الموضوع.

 

 

المصدر : الصباح نيوز

حاورته: حياة السايب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *