شيطنوا كتلة الأجور والدعم قانون استقلالية البنك المركزي وراء تضخم الدين العمومي .. بقلم جنات بن عبد الله

دعا رئيس الجمهورية عند ترأسه للمجلس الوزاري الثالث بعد تشكيل حكومة السيدة نجلاء بودن المنعقد يوم الخميس 28 أكتوبر 2021 الى ضرورة القيام بجرد شامل ودقيق للهبات والقروض التي تحصلت عليها تونس في السنوات العشر الأخيرة بعد الثورة. وتساءل رئيس الجمهورية في ذات السياق عن مال هذه القروض التي لا أثر لها في حياة التونسيين.
هذا التساؤل يأتي على خلفية تواصل تدهور جميع المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية في ظل تضخم الدين العمومي في السنوات الأخيرة والذي بلغ مستوى غير مسبوق قلص من الجدارة الائتمانية للبلاد وقدرتها على تسديد ديونها الخارجية وخفض من التصنيف الائتماني لتونس الى درجة “س أ أ ” سلبي من قبل وكالة التصنيف الدولية موديز بتاريخ 14 أكتوبر 2021.
كما جاء هذا التساؤل كرد على دعوات القوى الوطنية في البلاد المطالبة بالتدقيق في أوجه صرف القروض الخارجية التي تفاقمت بعد انتخابات سنة 2014 حيث تحول الاقتراض الخارجي الى خيار الحكومات التي جاءت بعد الثورة لتمويل ميزانية الدولة.
عدم الاستقرار الحكومي والسياسي ساهم في الكشف عن فشل خيار الاقتراض الخارجي خاصة بعد جائحة كورونا التي عرت عن حقيقة رفض الحكومات لبدائل اقتصادية تقوم على التقليص من اللجوء الى المؤسسات المالية الدولية في علاقة مع أجندات داخلية وخارجية تتضارب مصالحها مع هذه البدائل.
فقد سجل عجز ميزانية الدولة في سنة 2020 مستوى غير مسبوق بلغ 13.4 بالمائة (محين) من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 7.3 بالمائة مقدرة بالنسبة لسنة 2021. ولئن تدعي السلط العمومية أن جائحة كورونا تقف وراء تفاقم هذا العجز فان الأرقام الحقيقية تكشف عن فشل منوال التنمية الحالي الذي كرس الاعتماد على الاقتراض الخارجي والاستثمار الأجنبي المباشر وتهميش الاستثمار الوطني والقطاعات المنتجة من خلال قوانين صادق عليها مجلس نواب الشعب بعد انتخابات 2014 وتندرج في إطار تنفيذ برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي، نذكر في مقدمتها قانون استقلالية البنك المركزي من جهة، والتمهيد لتوقيع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق “الأليكا” مع الاتحاد الأوروبي الذي تكفل به رئيس الحكومة يوسف الشاهد حيث مرر ترسانة قانونية ترمي الى تحرير الاستثمار ورفع احتكار الدولة للقطاعات الاستراتيجية من جهة ثانية، وذلك في ظل سياسة المغالطة والتعتيم التي حولت أصابع الاتهام نحو ارتفاع كتلة الأجور وارتفاع اعتمادات الدعم ونحو المؤسسات العمومية متجنبة الإعلان، وبالصوت العالي، عن الأسباب الحقيقية الأخرى التي تقف وراء عجز ميزانية الدولة وتضخم الدين العمومي والتي كشفت عنها وثيقة ميزانية الدولة لسنة 2020 .
فحسب وزارة المالية، تتمثل هذه الأسباب الرئيسية لتضخم الدين العمومي في:
– تفاقم عجز ميزانية الدولة،
– وارتفاع نفقات التمويل، أي نسب الفائدة الموظفة على القروض الداخلية والخارجية،
– وانزلاق الدينار.
وقد جاء هذا التشخيص بفضل القانون الأساسي للميزانية عدد 15 لسنة 2019 المؤرخ في 13 فيفري 2019 الذي يقطع مع منهجية الدمج بين أصل الدين والفوائد لضبط خدمة الدين في ميزانية الدولة، ويعمل على تصنيف تسديد أصل الدين ضمن تكاليف الخزينة طبقا لمقتضيات الفصل 17 من القانون الأساسي للميزانية، وتصنيف فوائد الدين العمومي ضمن نفقات القسم السادس (نفقات التمويل) من نفقات ميزانية الدولة حسب مقتضيات الفصل 15 من ذات القانون.
هذه المعايير الجديدة في تصنيف الدين العمومي بمقتضى القانون الأساسي للميزانية كشفت عن حقائق مفزعة بخصوص العوامل الأساسية الأخرى المتسببة في تضخم الدين العمومي وتفاقم عجز ميزانية الدولة، الى جانب طبعا غياب الحوكمة والفساد، بعيدا عن المغالطات التي انخرطت فيها الحكومات المتعاقبة بعد الثورة لتشرع لنفسها تعميق سياسة التقشف، على خلفية شيطنة الأجور والدعم وفساد المؤسسات العمومية، عبر تجميد الأجور والانتدابات، ورفع الدعم، والتفويت في المؤسسات العمومية، والترفيع في الضرائب، استنادا الى وصفة صندوق النقد الدولي، والدخول في حلقة مفرغة أدت الى مزيد تفقير الشعب التونسي وتدمير القطاعات المنتجة … في الوقت الذي يتحمل فيه القانون عدد 35 لسنة 2016 مؤرخ في 25 افريل 2016 يتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي، والمعروف أكثر بقانون استقلالية البنك المركزي، الجزء الأكبر من مسؤولية تضخم الدين العمومي حيث أظهرت القراءة في ميزانية الدولة، حسب التصنيف الجديد للدين العمومي، مساهمة نفقات التمويل (الفوائد) وانزلاق الدينار مقابل العملات الأجنبية، في تضخم الدين العمومي، ليعمق ذلك فشل الخيارات والتوجهات في مجال المالية العمومية والسياسة النقدية للبنك المركزي.
فقد منع هذا القانون البنك المركزي من التمويل المباشر لميزانية الدولة وذلك طبقا للفصل 25 الذي ينص على: “لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة”، وكلف البنوك المحلية بتمويل الميزانية بإقراضها بنسبة الفائدة المعمول بها دون معاملة تفاضلية، بعد أن كانت تتحصل على هذه التمويلات بصفر نسبة فائدة مباشرة من البنك المركزي مقابل سندات دين.
الفصل 25 من قانون النظام الأساسي للبنك المركزي ساهم في اثقال ميزانية الدولة بنفقات تمويل جديدة، إضافة الى الفوائد الموظفة على القروض الخارجية.
كما أن تخلي البنك المركزي عن حماية العملة الوطنية، استجابة لما جاء في رسالة النوايا الثانية التي بعث بها محافظ البنك المركزي في سنة 2016 بتوقيع مشترك مع وزير المالية الى المديرة العامة للصندوق الداعية الى اتباع سياسة صرف مرنة ترجمت في قانون استقلالية البنك المركزي بالفصل 7 الذي حدد الهدف الأساسي للبنك المركزي في الحفاظ على استقرار الأسعار( بمعنى استهداف التضخم)، تسبب في تثبيت انزلاق الدينار الذي أصبح يخضع لقانون العرض والطلب في حين أن هشاشة الاقتصاد التونسي وضعف الصادرات التونسية لا تسمح بالتخلي عن حماية الدينار والدفاع عنه، وهي المهمة الأساسية التي ضبطها قانون عدد 119 لسنة 1988 مؤرخ في 3 نوفمبر 1988 منقح بقانون عدد 90 لسنة 1958 المؤرخ في 19 سبتمبر 1958 المتعلق بإنشاء وتنظيم البنك المركزي التونسي بالفصل 33 (جديد) الذي نص على:” تتمثل المهمة العامة للبنك المركزي في الدفاع عن قيمة النقد والسهر على استقراره”.
والى جانب تدميره لمحركات النمو الثلاث من استهلاك واستثمار وتصدير بسبب سياسة نقدية متشددة ترجمتها نسبة فائدة مديرية مرتفعة، كان لقانون استقلالية البنك المركزي تداعيات ثقيلة على تسديد الدين العمومي الذي ارتفع ليس بسبب ارتفاع أصل الدين فقط ولكن بسبب:
– ارتفاع نفقات التمويل المنجرة عن التوجه للاقتراض من البنوك المحلية لتمويل الميزانية عوض التوجه مباشرة الى البنك المركزي،
– وبسبب مفعول انزلاق قيمة الدينار الناتج عن اتباع سياسة صرف مرنة، تعمق بتفاقم عجز ميزان الدفوعات وعجز ميزان تجاري يتم احتسابه بطريقة خاطئة.
وفي هذا السياق، وحسب وثيقة ميزانية الدولة لسنة 2021 فقد بلغت خدمة الدين في سنة 2020 مستوى 11.825 مليار دينار تتوزع حسب القانون الأساسي الجديد لميزانية الدولة الى:
– 7.454 مليار دينار أصل دين وتسجل كتكاليف خزينة،
– و4.371 مليار دينار كفائدة وتسجل كنفقات تمويل.
أما حجم الدين العمومي فقد بلغ، حسب ذات الوثيقة، 99.942 مليار دينار مقابل 82.554 مليار دينار في سنة 2019 مسجلا بذلك ارتفاعا بقيمة 17.388 مليار دينار. وتشير ذات الوثيقة الى أن هذا الارتفاع ينقسم الى 14.095 مليار دينار تم توجيهها لتمويل ميزانية الدولة في حين أن 2.270 مليار دينار كانت متأتية من انزلاق قيمة الدينار.
وبناء على ذلك يتضح أن ميزانية الدولة تحملت أعباء مالية إضافية في سنة 2020 متأتية من نفقات التمويل ومفعول انزلاق الدينار بقيمة 6.641 مليار دينار (4.371 +2.270) لا نجد لها مقابلا منجزا في الميزانية.
ولئن ساهم عجز ميزانية الدولة في زيادة الدين العمومي بشكل ملحوظ، اذ مر من 2 مليار دينار في سنة 2014 و2015 الى 3.4 مليار دينار في سنة 2017 لينخفض الى 1.8 مليار دينار في سنة 2018 بسبب تعميق سياسة التقشف فانه، ومنذ سنة 2016 تاريخ المصادقة على قانون استقلالية البنك المركزي، كان للفوائد وانزلاق الدينار الأثر الأعمق على زيادة الدين العمومي.
وفي ذات السياق قدرت مساهمة الفوائد في زيادة الدين العمومي في سنة 2014 في حدود 1.5 مليار دينار و2.798 مليار دينار في سنة 2018 في حين قدر مفعول سعر الصرف في حدود مليار دينار في سنة 2014 و9.464 مليار دينار في سنة 2018 حيث بلغ حجم الدين العمومي 60.2 مليار دينار.
وقد كشفت دراسة أعدها المعهد التونسي للمنافسة والدراسات الكمية صادرة في شهر مارس 2020 أن الدين العمومي الخارجي قفز من 24.78 مليار دينار في سنة 2014 الى 58.41 مليار دينار في سنة 2019 مسجلا بذلك ارتفاعا ب 33.63 مليار دينار منها 17 مليار دينار متأتية من انزلاق الدينار.
وحسب المعطيات المقدرة في ميزانية الدولة لسنة 2021 حددت خدمة الدين في حدود 15.776 مليار دينار مقسمة الى أصل الدين في حدود 11.501 والفائدة في حدود 4.275 مليار دينار في حين قدر حجم الدين العمومي في حدود 112.339 مليار دينار مقابل 99.942 مليار دينار مسجلة في سنة 2020. وتشير وثيقة ميزانية الدولة لسنة 2021 بأن ارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الدينار ب 1 بالمائة مقارنة بما هو متوقع في سنة 2021 يترتب عليه زيادة في حجم الدين العمومي بحوالي 815 مليون دينار وهو ما يعادل 0.67 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي الوقت الذي ارتفعت فيه كتلة الأجور من 19.247 مليار دينار في سنة 2020 الى 20.118 مليار دينار في سنة 2021، أي بزيادة ب 0.871 مليار دينار، وفي الوقت الذي ارتفعت فيه اعتمادات دعم المواد الأساسية، دون المحروقات أي الحبوب والعجين الغذائي والزيت النباتي والحليب والسكر، من 1.550 مليار دينار في سنة 2020 الى 2.400 مليار دينار (أكثر من مليار دينار تم تحويلها كمستحقات لديوان الحبوب) في سنة 2021 أي بزيادة ب 0.850 مليار دينار، شهدت نفقات التمويل
(4.371 مليار دينار في سنة 2020 و4.275 مليار دينار في سنة 2021) تضخما بعد سنة 2016 لتتجاوز قيمتها اعتمادات دعم المواد الأساسية التي تحولت الى ورقة ضغط من قبل صندوق النقد الدولي على الشعب التونسي، بتواطؤ مع الحكومات، لمزيد تفقيره وتركيعه، رغم ضعفها، أي اعتمادات الدعم، مقارنة بنفقات التمويل ومفعول انزلاق الدينار، الذي يحوم في معدل 3 مليار دينار سنويا.
لقد حرصت جميع الحكومات بعد الثورة، وفي سياق الانخراط في أجندات صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، على تضليل الراي العام الوطني، في تفسير أسباب تفاقم عجز ميزانية الدولة، من خلال شيطنة الأجور وشيطنة سياسة الدعم وتحويل المؤسسات العمومية الى عبء على ميزانية الدولة، في حين أن ثقل تأثير نفقات التمويل وانزلاق الدينار يفوق بكثير تأثير ارتفاع كتلة الأجور ونفقات الدعم على عجز ميزانية الدولة، لنتساءل عن حقيقة الاختلاف الذي اندلع أثناء مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2021 في مجلس نواب الشعب بين حكومة المشيشي ومحافظ البنك المركزي بسبب رفض هذا الأخير تمويل ميزانية الدولة لنقف عند حقيقة أولى تتعلق بافتعال الاختلاف بين السلطتين النقدية والتنفيذية لتضليل الشعب التونسي واستنزاف استحقاقاته، وحقيقة ثانية تؤكد أن القوانين الجديدة تحولت الى الية لانتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين واثقال ميزانية الدولة بدين عمومي رهن البلاد والعباد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *