سياسة العصا الغليظة… من أولويات رئيس الحكومة المكلف التونسي .. بقلم جنات بن عبد الله

كشفت الأولويات الخمس التي أعلن عنها رئيس الحكومة الجديد عند تكليفه والتي ستشكل خارطة طريق عمل حكومة الوحدة الوطنية خلال المرحلة القادمة، كشفت عن استمرارية التعاطي مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي رغم بلوغ المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية مستويات سلبية قياسية تعكس دخول البلاد في مرحلة ركود اقتصادي ترجم الى مزيد من البطالة والفقر والجهل والتخلف. كما كشف ترتيب هذه الأولويات الخمس عن إصرار في تبني نفس الأجندة الخاطئة التي حاولت الحكومات السابقة تنفيذها لتصطدم في كل مرة بحواجز لا متناهية الأبعاد لتلقي المنديل الأبيض بعد كل سنة من الحكم وتسلمه الى حكومة جديدة تسقط هي الأخرى في مستنقع الأخطاء المتكررة. الشعب التونسي وبعد خمس سنوات ونصف يئس من الطبقة السياسية ومن قدرتها على انقاذ البلاد والوضع الاقتصادي من متاهات المجهول في ظل نسب نمو ضعيفة تسارع الخطى نحو الصفر. وضع انعكس على ميزانية الدولة مما جعل وزير المالية في حكومة الصيد المقالة الى الإسراع الى تحيينها باعتبار مراجعة نسبة النمو نحو التخفيض من 2.5 بالمائة مبرمجة في سنة 2016 الى 1.8 بالمائة حسب تقديرات البنك المركزي التونسي، تقديرات تبقى جد طموحة ويصعب بلوغها بعد أن كشفت حكومة الوحدة الوطنية عن هويتها وهوية أعضاءها الذين يتميزون بانضباطهم اللامتناهي لتعليمات صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. الأولويات الخمس التي أعلن عنها رئيس الحكومة المكلف تتمثل في كسب معركة الإرهاب والتصدي للفساد ورفع نسق النمو والتحكم في التوازنات المالية والعناية بالنظافة والبيئة، وهي أولويات تعهد بها رؤساء الحكومات المتعاقبة بعد الثورة الا أنه غابت عنهم سياسات تنفيذها أو الأصح أن المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوروبي بقيا في انتظار الانتهاء من صياغة الدستور والخروج من المؤقت للإعلان عنها في برامج حكومات مرحلة الدائم.
وقد لاحظ التونسيون مباشرة بعد تسلم حكومة الصيد لمهامها السرعة الفائقة التي قدم بها وزير التنمية والتعاون الدولي مشروع الوثيقة التوجيهية للمخطط الخماسي للتنمية وابرامه لاتفاقية مع بنك لازارد لصياغة وتسويق المخطط لدى المستثمرين الأجانب، الا أن انحراف هذه الوثيقة عن أولوياتنا التنموية حالت دون تمريرها في مجلس نواب الشعب. ما تغير اليوم مع رئيس الحكومة المكلف هو جاهزية السياسات التي ستنفذ بها هذه الأولويات والتي جاءت في مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية المرفقة لرسالة النوايا التي بعث بها محافظ البنك المركزي التونسي ووزير المالية في حكومة تصريف الاعمال الى المديرة العامة لصندوق النقد الدولي حيث تعهدا فيها بالإصلاحات التي ستنفذها حكومة الوحدة الوطنية “بكل قوة”.
ولعل من أخطر هذه الأولويات، باعتبار “النجاحات” التي حققتها الحكومات السابقة في معركتها ضد الإرهاب والفساد والنمو والعناية بالبيئة، التحكم في التوازنات المالية وخاصة القسم المتعلق بالتوازنات الداخلية والمقصود بها التحكم في عجز ميزانية الدولة. ان المعركة الرئيسية لحكومة الوحدة الوطنية هي بلا منازع معركة التحكم في عجز ميزانية الدولة باعتبار أن محور تدخلات صندوق النقد الدولي في البلدان التي تمر بأزمات مالية واقتصادية هو الضغط على عجز ميزانية الدولة مهما كانت التكلفة الاجتماعية الباهظة والاحتجاجات الرافضة وحالات العصيان المدني والاضرابات القطاعية والعامة … لقد كان معدل عجز ميزانية الدولة في عهد النظام السابق في حدود 3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي ليبلغ في سنة 2010 حوالي 1 بالمائة، عجز سجله النظام السابق على حساب الاعتمادات الموجهة نحو القطاعات ذات البعد الاجتماعي وتخلي الدولة عن هذه القطاعات والضغط على الانتدابات في الوظيفة العمومية وهو ما ترجم الى تدهور المقدرة الشرائية للمواطن والى تفاقم البطالة وتفاقم تهميش الجهات وتدهور جودة الخدمات العمومية…لينفجر الوضع في 17 ديسمبر 2010 – 14 جانفي 2011 .
واليوم تعود حكومة الوحدة الوطنية الى المربع الأول والى ثمانينات القرن الماضي الذي تميز بتنفيذ برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد التونسي، لتطبق هذه الحكومة مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية المتضمنة للإصلاحات الاقتصادية وفي مقدمتها الضغط على ميزانية الدولة من خلال تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية خلال السنوات الثلاث القادمة وهو ما أعلنت عنه المذكرة من خلال تحديد بعض الإجراءات التي ستنفذها حكومة الوحدة الوطنية مثل مزيد التحكم في برامج الترقيات، والتقليص من منحة الساعات الإضافية، وعدم اللجوء الى تعويض المحالين على التقاعد…والضغط على كتلة الأجور التي تمثل هذه السنة 14 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي لتبلغ في سنة 2020 حوالي 12 بالمائة مقابل 10.7 بالمائة في سنة 2010 . لقد شهدت كتلة الأجور منذ سنة 2010 الى اليوم تطورا بنسبة 3.3 بالمائة بفضل المفاوضات الاجتماعية حول الزيادة في الأجور في القطاع العمومي في محاولة من الاتحاد العام التونسي للشغل لتحسين المقدرة الشرائية للمواطن التي تدهورت بسبب ارتفاع الأسعار وارتفاع تكلفة المعيشة في تونس في ظل تواصل الركود الاقتصادي، وضع ترجم الى مزيد من ارتفاع الأسعار، باعتبار أن هذه الزيادات لم ترافقها زيادة في الإنتاج والإنتاجية.
وبقطع النظر عن الأثار السلبية لهذه الزيادات والتي تتحمل كل الحكومات مسؤوليتها فيها بسبب سياسة الأيادي المرتعشة وغياب الرؤية، فان هذه الزيادات لم تساهم في تحسين المقدرة الشرائية للمواطن الذي بقي يعيش تحت ضغط الارتفاع المتواصل لأسعار المواد والسلع والخدمات. في المقابل سجلت كتلة الأجور في الوظيفة العمومية تطورا ساهم في تفاقم عجز ميزانية الدولة، الى جانب عناصر أخرى، ليبلغ العجز حوالي 7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي ورغم ذلك لم يلمس الموظف اثاره على حياته اليومية.
اليوم ومع حكومة الوحدة الوطنية تغير الوضع حيث وقعت المنظمة الشغيلة على “وثيقة قرطاج” التي تنص على الأولويات الخمس بما في ذلك التحكم في التوازنات المالية من خلال الضغط على عجز ميزانية الدولة الذي يجب أن يبلغ 2.4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في سنة 2019 مقابل 3.9 بالمائة منتظرة هذه السنة و4.8 بالمائة سنة 2015 و6.8 بالمائة سنة 2013 من جهة، ومن خلال الضغط على كتلة الأجور لتمثل 12 بالمائة من الناتج سنة 2020 مقابل 14 بالمائة هذه السنة من جهة أخرى، هدف سينظر فيه مجلس الوزراء في شهر سبتمبر المقبل حسب رزنامة صندوق النقد الدولي المنصوص عليها في مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية المرفقة لرسالة النوايا. هذا التقليص، الذي يندرج في إطار سياسة التقشف وترفض الحكومات التونسية المتعاقبة بعد الثورة توصيفه، ستكون انعكاساته السلبية هامة على حياة المواطن ومقدرته الشرائية بسبب مواصلة انهيار الدينار التونسي من جهة وتجميد الأجور من جهة أخرى.
فبتوقيعه على “وثيقة قرطاج” يكون الاتحاد العام التونسي للشغل قد التزم بعدم مطالبة الحكومة بالتفاوض حول الزيادة في الأجور خلال السنوات الثلاث القادمة في الوظيفة العمومية رغم التدهور الذي ستسجله المقدورة الشرائية للمواطن بسبب توقعات البنك المركزي بارتفاع نسبة التضخم في السنة القادمة لتصل الى 4.7 بالمائة مقابل 3.9 بالمائة في شهر جوان الماضي، وتواصل انهيار الدينار أمام الأورو والدولار والذي سيتبب في ارتفاع أسعار جميع المواد والخدمات باعتبار أننا من الموردين لكثير من المواد الأولية الضرورية للقطاع الفلاحي، الذي دمر، وللقطاع الصناعي، الذي اختفى، ولقطاع الخدمات، الذي سيطر عليه الاستثمار الأجنبي.
بتوقيعه على “وثيقة قرطاج” يكون اتحاد الشغل قد تخلى عن حماية الطبقة الشغيلة بما يشرع لحكومة الوحدة الوطنية بتطبيق سياسة العصا الغليظة تجاه الطبقة الشغيلة بعد أن سحبت “وثيقة قرطاج” البساط من اتحاد الشغل لتحمل مسؤولياته تجاه منخرطيه، وضع برمج له صندوق النقد الدولي واستعد له من خلال ادماج اتحاد الشغل في مسرحية حكومة الوحدة الوطنية التي ستتولى تطبيق الإصلاحات “الموجعة” تحت اشراف البنك المركزي الذي تعهد تجاه الصندوق بتطبيقها “بقوة” بما لا يترك أي هامش لأي طرف بالتراجع عن هذه الإصلاحات.
ولئن نفهم هرولة الأحزاب السياسية الى قصر قرطاج للتوقيع على “وثيقة قرطاج” على خلفية حب الكراسي، فإننا لا نفهم الأسباب التي دفعت اتحاد الشغل بالالتزام بالوقوف الى جانب حكومة الوحدة الوطنية، وهو الذي كان دائما الضامن الوحيد للطبقة الشغيلة لحمايتها من سياسة العصا الغليظة. حرر بتونس في 7 أوت 2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *