رسالة مفتوحة لرئيس الدولة : نخشاك و نخشى عليك بقلم الأستاذ سالم حداد

مفكر قومي عربي ومناضل حقوقي

بعد أن فزت بثقة الشعب وأديت القسم على أن تكون في خدمته صار لزاما عليه أن يساعدك بلفت انتباهك إلى مخاطر الطريق الشائكة التي اخترتها حتى لا تقع في نفس المنزلقات التي وقع فيها السلف والتي جعلتني كمواطن يقاسمك بعض الهموم أن أقول لك :إننا نخشاك ونخشى عليك .فلماذا ؟

I ــ لماذا نخشاك؟

إن السلطة مرْكب صعب مغْر، قد يدفع الافتتان ُبسحر البحر ربانَه إلى الهلاك إذا أضاع البوصلة فيُضيع المرفأ الذي انطلق منه والذي يحمي السفن.صورة يدركها الشعب التونسي الذي نهضت حضارته منذ 3 آلاف سنة على مرفأ تجاري أقامته أوارتادته عليسيا اسمه قرطاج أوالقرية الحديثة.إن هذا المرفأ ليس سوى الحاضنة الشعبية التي ينطلق منها القادة نحو السلطة ،وتاريخ الشعب التونسي ــ وخاصة منذ الاستقلال ــ يزخر بتجارب الضياع لفقدان البوصلة، فتعرّض لكثير من المحن والمآسي، وأخطرها كانت ثلاث تجارب ارتبطت بثلاثة زعماء سكنتهم النرجسية فتعالوا وتحولوا إلى أنصاف آلهة لكن بتفاوت وهي كالتالي:

أولا ـــ تجربة بورقيبة

عاد بورقيبة لتونس في 1جوان1955 رافعا شعارالنصر/ الاستقلال،وكان يحلم بعودة الثعالبي بعد 15سنةمن الغياب عام 1937 من ميناء حلق الوادي وهو يلوّح بمنديله الأزرق.

تحقق لبورقيبة ما كان يحلم به واستعاد نفس السيناريو ولم يختلف إلا من حيث لون المنديل فكان أزرق مع الثعالبي فصار أبيض مع بورقيبة .

كانت عودة بورقيبة قبل توقيع اتفاقية الاستقلال الداخلي بيومين (3جوان 1955 )، حتى يكون النصر هولاميا لا تُعرف نقائصُها ، فهب الشعب ــ رجالا ونساء ، شيبا وشبابا ــ لاستقباله استقبال الابطال المتوجين بأكاليل النصر ومنحه ثقته المطلقة دون التفكير في جوهر الاتفاقية ، ما لها وما عليها ، لكن بورقيبة أعتقد أن هذه الثقة الشعبية المطلقة المبنية على المجهول هي إمضاء صك على بياض ، هي شرعية تاريخية ليحكم دون رقيب، فتحول إلى زعيم نرجسي مستبد ،أسال الدماء ونصب المشانق وأطلق يد المليشيا وفتح السجون ولم يسلم من معارضيه لا القوميين واليسار ولا النقابيين ولا الإسلاميين بل حتى من خالفه الرأي من أعضاده المقربين .وبعد عشرين سنة من الحكم الدستوري الافتراضي، تحول سنة 1975إلى الحكم مدى الحياة حتى آلت البلاد إلى حافة الهاوية ولم تقع إزاحته عن السلطة إلا بانقلاب عسكري 1987 قاده أحد خاصته بعد 32 سنة . ألزمه البيت طيلة 12 سنة وهي أطول فترة يقضيها حاكم في السلطة بتونس، باستثناء حمودة باشا.وحتى لا اكون عدميا فإن هذه الصفحة السوداء تخللتها بعض الشموع الخافتة مثل مجلة الاحوال الشخصية لكن الشجرة لا تخفي الغابة، وأخطر ما وقع في تونس هو سياسة العملقة والتقزيم، عملقة الزعيم وتقزيم الشعب.وبقدرما تتعاظم ثقة الجماهير بالقائد فإنها تفقد ثقتها بنفسها ،فقد توغلت في وجدان الشعب صورة نمطية للقائد ، الملهم المنقذ المحرر وهو مصدر للرهبة والرغبة بل هو<< المسؤول عن الشعب حيا وميتا>> هذه السياسة غيبت قيم الشجاعة والتضحية والعطاء التي حققت الاستقلال الوطني وأفرزت قيما بديلة هي الخوف والتملق للسلطة خوفا منها أوطمعا فيها ، فأفقدت المواطن الثقة بالنفس وغيّبت قيم الإرادة والفعل والحرية ،وسادت الانهزامية وهذا أشد خطورة على الاجيال من العنف المادي الذي مارسته الدولة .

ثانيا ـــ تجربة ابن علي

أزاح ابن علي بورقية بطريقة سلسة متوخيا كل أساليب الخداع موظفا في ذلك نخبة من الأطباء والقضاة لتأكيد عجز الرئيس وشرعية انقلابه ــ وهو نتيجة منطقية لسياسة الخوف التي زرعها الرئيس الأول ــ وأصدر بيانا ضمّنه كل طموحات الشعب التونسي في رفع المظالم << لا ظلم بعد اليوم >> وإقامة دولة القوانين والمؤسسات فمنح الشعب ثقته المطلقة لقائده الجديد معتقدا أنه لا يملك ماضيا يسيطر به على رقاب الشعب بل أمامه مستقبل سيبنيه بخدمة الشعب ، لكنه كسلفه ، ما أن استتبّ له الأمر حتى حوّل تونس إلى مزرعة مستباحة للفساد تمارسه القبيلة والعشيرة ،إلى أن أزاحته ثورة شعبية عارمة سنة 2011. وكان الفرق بين السلف والخلف بالدرجة وليس بالنوع ،فالأول كان شديد الاستبداد قليل الفساد ، على العكس كان الثاني ، قليل الاستبداد موغلا في الفساد.

ثالثا ـــ تجربة الباجي قايد السبسي

سنة 2014 منح أغلبية الناخبين أصواتهم للسيد الباجي<< المحنك ابن المدرسة البورقيبية >> على حساب المرزوقي الرجل العفوي ابن الثورة فتسلم الحكم ليصلح ما افسده الائتلاف الثلاثي ــ وبالتحديد الطيف الإسلامي ـــ الذي انحرف عن مبادئ الثورة مستفيدا من تجربة بورقيبة فحولها إلى غنيمة وسيطر على مفاصل الدولة وسخر المليشيات واستبدل الفرنسيين بالأمريكان كمظلة واقية ، فتوغل الباجي في الانحراف أبعد من الائتلاف. ولعل الثلاثة مشاريع التي تقدم بها رئيس الدولة للبرلمان لإصلاح الأوضاع المتردية خير دليل وهي كالتالي:

1ـــ مشروع الزطلة لإصلاح الشباب التي صار ضحية لكل الآفات واعدا بأنه سيغير وضعيته كما غيّرت مجلة الأحوال الشخصية وضعية المرأة فوفر للشباب المزيد من عوامل الانحراف

2 ــ مشروع العفو عن الفاسدين والمفسدين لإصلاح الوضع الاقتصادي بحجة أنهم أصحاب كفاءات ،ومع رفض البرلمان تحول من العفو على الفاسدين إلى العفو على الإداريين بل إن رئيس الدولة لم يدعم رئيس الحكومة في حربه على الفساد فعاشت البلاد صراعا عبثيا بين القصرين: قرطاج وباردو انتهى بالدولة إلى توقف عجلة التنمية والمزيد من التداين والارتهان للخارج

3 ـــ مشروع المساواة في الميراث وهو حق أريد به باطل، فجوهره ليس المساواة في الإرث ــ وهي محل نقاش مجتمعي ــ بل هو تدمير العائلة عن طريق الدعوة إلى الفردانية الموغلة في التحلل من كل الالتزامات العائلية بما في ذلك العلاقات الزوجية والروابط الأسرية(الآباء والأبناء) بتبني الجندرة والمثلية ،وتوقف المشروع.

بعدها عاشت السلطة التنفيذية صراعا مدمرا بين القصرين طيلة العهدة النيابية ، محركه الأساسي من يحكم : قرطاج أم القصبة ؟ وهل أميرالقصبة رئيس للوزراء مرجعيته الدستور أم وزير أول يأتمر بأوامر قرطاج ؟ هذا الصراع غذته حركة النهضة آل إلى انهاك الجميع وإخراج الثورة المضادة من دائرة الحكم.

لا نريدك زاهدا في أمر ناضلت من أجله لكننا نخشى أن تسكنك هواجس الحكم فتقع في مثل هذه المنزلقات فتضيع من يدك البوصلة.

II ـــ نخشى عليك .

أولا ـــ لماذا؟

لقد صرت رمزا لمجموعة من القيم الأخلاقية التي تفتقر إليها الطبقة السياسية في بلادنا بل حتى في الكثير من بلدان العالم،ومنها:

1 ــ استحضار قيم العالم المُقدّس إلى العالم المُدنّس

إن المبدأ الطاغي على عالم السياسة هو” الغاية تبرر الوسيلة” و”العبرة بالنتائج” فالسياسي الماهر هو الخبيث، المنافق المخادع الذي يظهر ما لا يبطن، الوصولي الذي يوظف كل الوسائل مهما كانت دناءتها للوصول لمبتغاه وقد سبق للشاهد ــ عن قناعة أو افتعال ــ أن دعا لأخلقة العمل السياسي لما مرمى للسهام. فعملت على نقل قيم الفضيلة المقدسة إلى عالم السياسة التي تكاد تكون مدنسة فإلى مدى سيكون نصيبك من النجاح ؟

2 ـــ تكسير الطريقة النمطية للتسويق السياسي

لا مجال للتسويق السياسي ا إلا بالمال الفاسد والمُفسد والإعلام الضال والمُضلّل، وبهما تُشرى الذمم المهزوزة وتُسلب العقول الفارغة فلا حظ لأي رجل سياسي له طموح ورغبة في التغيير ما لم يكن يملك مالا وفيرا ولا يسنده حزب أو لوبي سياسي فسلكت طريقا مناقضة فاستندت إلى تفعيل الشباب مع قضاياه والثقة بالشعب والتواصل المباشر معه والتي اعتمدها محمد علي الحامي

3 ـــ تجذّر في الهوية وانفتاح على القيم الانسانية

إن ما تّميز به قيس سعيد أنه كان متجذرا في هويته العربية الإسلامية ــ التي حارب الشعب تحت رايتها ومن أجلها حورب ــ ومنفتحا على القيم الانسانية الكونية التي بنت عليها الأمم تقدمها، ضاربا عرض الحائط بالتصنيفات السياسية المسبقة حول<< الحداثية والوسطية ووسط الوسط ، والمحافظين واليساريين والرجعيين>>وهي تصنيفات لاعلاقة لها بالمشهد السياسي في تونس، فكان يتمتع بالجرأة الكافية لمجابهة السلفية الحداثية المنبتة والسلفية الدينية الطاردة .

ثانيا ــ ممن نخشى عليك؟

1ــ منظومة الثورة المضادة بتشكيلاتها الحزبية المختلفة التي أفرزتها الدولة العميقة المتوغلة في كل الدواليب الاقتصادية والإدارية فهذه سوف لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام تجريدها من النفوذ.

2 ــ الأذرع الإعلامية الناعقة والمسبحةــ صباح/ مساء ــ باسم الثورة المضادة والمشيدة برموزها والمدافعة عن مصالحها فقد أزالت الحملة الانتخابات القناع عن وجهها الكالح وأبطلت فعالياتها في التمويه.

3ـــ الدول النافذة وخاصة فرنسا التي قامت سياستها منذ عقود على تحويل تونس إلى حديقة خلفية لها ، تُحضر فيها المشاتل وتزرع فيها البذور لتفرّخ في بقية المستعمرات ، فالمناداة بالسيادة الوطنية على ثروات البلاد ومراجعة العقود سوف لن تنزل بردا وسلاما عليها وعلى امتداداتها في تونس وفي المغرب العربي وفي كل مجرّتها.

4 ــ المحاور الخليجية التى ما لبثت تجنّد المرتزقة وتضخّ الأموال الطائلة لإطفاء هذه الشمعة التي أضاءت بنورها ــ ذات مساء ــ الوطن العربي فتحولت مياه البحيرات الآسنة إلى أنهار متدفقة وبعثت الأمل في الشباب من جديد فخرج مما “يُراد له أن يكون إلى ما يريد أن يكون ” وتحول إلى طاقة ثائرة خلاقة مغربا ومشرقا.

5 ــ الصهيونية العالمية التي مازالت تعمل على:

أ ـ تصفية النخب العلمية والسياسية للأمة العربية المبشرة بغد أفضل

ب ـ ترويض الحكومات العربية من محيطها لخليجها على الاعتراف بها

ج ـ تدجين المواطن العربي والتسلل إلى عقله وإلى وجدانه عبر جمعيات عميلة تتستر وراء الحقوق والحريات والتعاون العلمي.

6 ــ شبكات الإرهاب التي ليست إلا تجسيما لمختلف المصالح المدمرة للدولة ، فالإرهاب والتهريب والتهرّب كلها شبكات لهدم المجتمع ومعاول لتخريبه بالسلاح القاتل والمال الفاسد والمخدرات . كل هؤلاء يسعون لتكون تونس دولة عبور وترويج لكل الممنوعات بداية من المخدرات مرورا بالعملات وصولا للسلاح.

كل هذه الاطراف أوجه لعملة واحدة ستعمل منفردة او متعاونة على عرقلة أي مشروع وطني يهدف لبناء دولة مستقرة منتجة متصالحة مع هويتها متعاونة مع محيطها الجغرافي الاقتصادي الحضاري مشرئبة نحو مستقبل أفضل.هدفها الأول والأخير ارجاع تونس الى مربع الاستبداد والفساد والتبعية ولكنهم لا يدركون أنهم عبثا يصنعون فالتاريخ لن يعود للوراء

سالم الحداد / زرمدين /المنستير/3نوفمبر2019

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *