حول تحفيظ القرآن بالمؤسسات التربوية: لا يمكن أن تزول يوطا من القرآن .. بقلم د.حسن القرواشي

إن مسألة تحفيظ القرآن بالمؤسسات التربوية مسألة فيها نظر، وتعليل المنع بما جاء في القرآن من آيات تبدو اليوم منافرة لقيم الحداثة من قبيل” واقتلوهم حيث ثقفتموهم” أو “واللاتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ “… أمر لا يستقيم منهجيا وعلميا .ولئن كانت المؤسسة التربوية في بلادنا ليست المكان المناسب اليوم لانعدام الحرية والتقدم العلمي والمادي معا فإن تحفيظ الكتاب المقدّس في المؤسسات التعليمية في أكثر البلدان تقدما وحرية من الأمور المنشودة المدافع عنها في البرامج السياسية وقد وصل الأمر في أمريكا إلى حد تجريم النظم التربوية المحايدة لافتقارها إلى الأخلاق وتسببها في الإجرام وانتشار المخدرات ووقعت المناداة بتدريس الفصول الأولى من سفر التكوين إزاء تعاليم داروين.وفي اليهودية والمسيحية الكاثوليكية والبروتستنية والانقليكانية بالخصوص يتم تعليم الكتاب المقدّس في المؤسسات التعليمية الخاصة لا لأنها خاصة بل لأن التعليم عندهم لا يمكن أن يكون إلا كذلك وتنفق أموال طائلة في ترجمته إلى لغات العالم ولهجاته وفي نشره.ولا أحد يمكنه أن ينكر عناية اليهود بالتوراة حفظا ودرسا والدور الذي لعبته في الحفاظ على هويتهم و على العبرية لغتهم التي لولا الإرادة والتمسّك بالتوراة درسا وحفظا لما كانت من اللغات المستعملة اليوم.ولئن كان التذرع بوجود مقاطع ضد الحداثة هو السبب في نظر البعض لعدم تحفيظ القرآن فهذا الموقف يتجاهل التاريخ ويجافي العلم ويخفي عجزا عن اقتراح بديل جدي للتجديد الديني الحق.فلا يمكن لأحد أن ينكر الدور الخطير الذي لعبه القرآن في الضمير الإسلامي فكرا وممارسة ومن غير المفكر فيه علميا أن نحتفظ بجزء منه ونسقط الآخر أو نحفّظ بعض الآيات ونسكت عن الأخرى .فالقرآن نصا قانونيا مقدسا خضع لنفس العملية التي خضع لها الإنجيل والتوراة وبها ارتقيا إلى مرتبة النصوص القانونية المقدّسة.فهو كتاب بنيت قانونيته على شهادة ملزمة معرفيا ووجوديا إما أن تقبل أو ترفض شأنه شأن كل الكتب الدينية الأخرى.ومن يسكت عن بعض الآيات لتنافيها فيما يعتقد مع الأفق المعرفي السائد فكمن يحتفظ بجزء من المسيح كلمة الله البيولوجية ويسقط جزءا آخر وهو على كل حال لا يمكن أن ينتمي إلى ذلك الدين روحيا بحكم رفضه لتلك الشهادة وهذا من حقه وإلى العلم وهذا ليس من حقه ما دام يدرس الأديان من الخارج مثلما يتمثّلها هو لا كما يتمثّلها المؤمنون بها ويكيل بمكيالين فيطبّق على البعض قانونا لا يطبّقه على الآخر.ولمن هو عارف بالكتب السماوية لا يمكن أن نفاضل بينها في خصوص القيم التي نادت بها فكلها وليدة نفس الأفق الثقافي الماقبل حداثي ولها تقريبا نفس الموقف من المغاير دينيا ومن المرأة ومن العبودية…ففي الكتاب المقدّس بعهديه الجديد والقديم بالخصوص مقاطع أفظع مما ورد في القرآن ومع ذلك لم يناد أحد بعدم تحفيظ الكتاب المقدس وتدبّره أو تغيير البعض منه أو تقسيمه إلى إصحاحات متشابهة بدعوى شموله على قيم مرفوضة اليوم.والسبب في ذلك وجود علماء جهابذة في اليهودية والمسيحية على حد السواء اضطلعوا بعملية المياومة وإعادة تعميق معنى الوحي ومراجعة معنى كلام الله والحرص على تحيين رسالته رغم المخاطر التي تعرضوا لها فبدت هذه الأديان دون أخيهما الإسلام الذي نشأ من نفس الشجرة، مدافعة إن قليلا وإن كثيرا عن الحقّ والحرّيّة والتقدم وظلّ الإسلام من خلال القرآن كما يعرضه بعضهم في نفس اللحظة التاريخية التي نشأ فيها معرفيا بحكم غياب العقل الاستكشافي وعدم تعرّض المجتمعات الإسلامية إلى الحداثة والتحديث معا.ولئن لعب التاريخ دورا في إسقاط بعض المفاهيم القرآنية مثل العبودية وأهل الذمة ودار الحرب والإسلام… فإن ما تبقى يحتاج إلى جهود المؤمنين به العلمية. فالقرآن بالمسلمين وهو وإن كان يحدّد هويتهم فإن هويته هو لا يمكن أن تكون إلا انعكاسا لما هم عليه من حرية وعلم وجرأة في الدفاع عن الحق لا في جعله حالة شاذة كما روّج لذلك البعض الذين ألفوا في الإسلام حسب الطلب.ومن حق وزير الشؤون الدينية وغيره أن يقترح في الشأن الديني ما يقترح فليس كلامه قرآنا حتى وإن كان وزيرا ولا كنيسة في الإسلام حتى يمنع جميع المؤمنين من إبداء رأيهم في علة وجودهم.ولئن كان تدبّر القرآن أفضل من حفظه فلا يعني ذلك أن تحفيظ القرآن دون فوائد لا سيما إذا توفرت المستلزمات البشرية والمادية في ذلك.أما الذين اتخذوا من المفارقات المعرفية الكامنة في كل النصوص الدينية التوحيدية دون استثناء تعلة لاتهام الوزير بإضفاء الشرعية على المساجد التي لا تسيطر عليها الدولة أو لتقسيم المصحف أو للتساؤل عن الآيات القرآنية التي تحفّظ والتي لا تحفّظ فلو أمسكوا عن بعض ما تكلّموا فيه لكان الأمر أقرب إلى السلامة لهم.فلا يمكن أن تزول يوطا من القرآن من جهة العلم لا من جهة الإيمان .والمسألة هي بالأساس علمية متعلقة بالمياومة وبالقدرة على جعل القرآن متموائما مع قيم الحداثة ولا علاقة لها بقانونية الكتاب المقدّس.وقد اضطلعت المسيحية واليهودية بهذه العملية ونجحتا إلى حد ما وما زال الإسلام ينتظر من يقوم بتلك العملية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *