حكاية ثورة .. بقلم سعيد بحيرة

مرت عشرة اعوام بالتمام والكمال على ذلك اليوم المشمس الذي شهد تجمع آلاف التونسيين في شارع الزعيم بورقيبة الأنيق و كانوا في أغلبهم شبانا يافعين و الكثير منهم له عمر التحول…كانوا يشبهون تونس و نضارتها الدائمة…بنات و اولاد بازياء رياضية لبوا نداءات الشبكة الاجتماعية فجاؤوا يطلبون رحيل الرئيس…كانوا يحلمون بغد أفضل و بالحرية…و عندما ولجت إلى الشارع من ناحية الكارلتون قلت لصديقي…هذا عالم جديد..صورني لأخلد اللحظة!!
كانت تونس في نهاية شهر ديسمبر حزينة و كئيبة على غير عادتها…أخبار متواترة عن تحركات و احتجاجات في سيدي بوزيد و القصرين و كثير من المدن الأخرى…و إشاعات تنتشر بسرعة البرق عبر الهواتف و الفايسبوك..قيل إن رئيس الدولة أخذ عائلته و ذهب يقضي أعياد الميلاد و رأس السنة في دبي…في الوقت الذي كان فيه محمد البوعزيزي يصارع سكرات الموت..التونسيون فقدوا نكهة الحياة منذ مدة و تسرب إليهم شيء من الملل و القلق و التخوف من المستقبل..تعبوا من خطاب روتيني باهت و من التنكيت على السلطة و رموزها و لا سيما عائلة الرئيس و حكاياتها التي لا تنتهي…كانوا يتندرون بالمولود الجديد و المقطع التهكمي الذي أعده ولد باب ألله..و هذا الصهر..الولد الذهبي الذي اخترق المشهد السياسي فجأة…أخذه كبير المستشارين ليدربه على السياسة و بدأ يقدمه في المواقع المؤثرة حتى أغضب أهل الساحل فأعرضوا عن الاجتماع به في جوهرة الساحل…حتى بعض الوزراء و كثير من النخبة بأنواعها أصبحوا يتحرجون من علامات انحلال الدولة…تسمع تعاليقا لاذعة في الصالونات و في المكاتب بعد تشغيل جهاز التلفزيون خوفا من التنصت…ذلك المستشار الكبير عالج احتجاجات الحوض المنجمي باستخفاف…نعت المحتجين بالمشاغبين الذين يحركهم المتطرفون…حاول احتواء بعض القيادات و سخر لذلك امكانيات مادية و بعض النشطاء..تجاهل البعد السياسي للتحركات و تعنت في احتقار الجهات..لا بد أنه لم يقرأ تاريخ البلاد و إتحاف أهل الزمان…نظم اجتماعا بنزل في جهة البحيرة و دعا إليه أناسا يرتاح اليهم.. في ذلك الإجتماع حلل المستشار الوضع في البلاد و و نحا باللوم على العائلات التي تتقاعس في تأطير أبنائها…هكذا !! و قال بأن الحجاب دخيل على عاداتنا و يمكن تعويضه بالتقريطة و السفساري …هكذا مرة أخرى !!! و من الغد قدمت إحدى الطالبات إلى المركب الجامعي ملتحفة السفساري !!! يا له من عبث !! كان النظام يغرق كل يوم أمتارا إضافية و كانت البطانة تعتم على الأوضاع…و كان التجمعيون يبتعدون أكثر فأكثر عن دوائر الحكم..منهم عدد كبير من القيادات و الكوادر الوسطى و المحلية أصبحوا يستنكفون من حضور الحفلات التنكرية السياسوية…حتى صهر الرئيس الأكبر أصبح يكتب المقالات..كتب في إحدى الصحف مقالا يؤنب فيه الأمين العام للتجمع و يلمح إلى تخاذله ..هكذا اختلطت الأوراق و تبعثرت الأمور و سرى الوهن في مفاصل السلطة و بدأ العقد ينفرط…و ترنحت السفينة و بقيت ترفل في الحرير……إلى أن اهتزت مناطق التمرد الأزلية في هذه البلاد…حراس المعبد أعلنوا العصيان في ذات المناطق التي ثارت على قرطاج و روما و عقبة ابن نافع و البايات و فرنسا و حتى الدولة الوطنية التي شارفت على سن اليأس…تلك المناطق و أبناؤها في شارع الزعيم بورقيبة انتفضوا لتصحيح الوضع و التذكير بالحدود الفاصلة بين واجب الدولة و حقوق المواطن…لم يكن يقودها زعيم و لا ثوار و معارضين، و لم يكن لها خطة و برنامج. كانت تنشد الحرية والعدالة الاجتماعية و الإشتراك في رسم ملامح المستقبل…كانت بارقة أمل للبلادقبل أن تسطو عليها جماعات قدمت من الأحزاب الممنوعة و الحركات السرية و من المهجر…لهم رؤى متضاربة و برنامج متنافرة و لا يجمع بينهم سوى العداء للنظام و النقمة على الدولة الوطنية و الاعتقاد الساذج في أن خزائن تونس مليئة بالذهب و المال و قد حان زمن الغنيمة!!! و منذ ذلك اليوم و نحن شهود على تبخر شعار..شغل،حرية،كرامة وطنية

سعيد بحيرة
اكاديمي وسياسي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *