حقيقة “الإصلاحات” المهداة الى صندوق النقد .. الإجهاز على ما تبقى من الدولة .. بقلم جنات بن عبد الله

تعتبر الوثيقة – البرنامج التي تحول بها الوفد التونسي الى واشنطن يوم 3 ماي 2021 قصد التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4 مليار دولار لتمويل ميزانية الدولة لسنة 2021 ، من أخطر ما أعدته السلط التونسية ممثلة في السلطتين التنفيذية والنقدية لما تحمله من خيارات وتوجهات اقتصادية واجتماعية ترمي الى تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي والاجتماعي من خلال سياسة مالية عمومية تقشفية تقوم على الغاء الدعم نهائيا مع سنة 2024 والتفريط في المؤسسات العمومية من جهة، وخيارات وتوجهات نقدية ترمي الى تكريس استقلالية البنك المركزي وتحرير الخدمات المالية في اتجاه رفع القيود عن تدفق وانتقال راس المال الأجنبي والسماح ببعث بنوك أجنبية.

وعلى عكس ما ذهب اليه البعض من أن هذه الوثيقة هي برنامج انقاذ اقتصاد تضرر بجائحة كورونا وبحالة عدم الاستقرار السياسي، تحمل هذه الوثيقة استكمال أسس منوال تنمية كتب بأياد تونسية وبفكر صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والاتحاد الأوروبي.

وبعيدا عن التفاصيل المتعلقة بالمؤشرات التي جاءت في هذا البرنامج فان أهم ما يجب الوقوف عنده هو المرجعية الفكرية التي استند اليها لفهم الياته وحقيقته وطبيعته ونتائجه. فهو يندرج ضمن البرنامج الاقتصادي الذي وضعته “شراكة دوفيل” المنبثقة عن قمة مجموعة الدول الثمانية المنعقدة في باريس يومي 26 و27 ماي 2011 التي جاءت لاحتواء ثورات الربيع العربي، وترجمها برنامج الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي الذي يعتبر امتدادا للنسخة الأولى منه التي جاءت في سنة 1986 من جهة، وتم اقراره في رسالة النوايا الأولى لسنة 2013 ورسالة النوايا الثانية لسنة 2016 وبيان المجلس التنفيذي للصندوق الصادر في 26 فيفري 2021 من جهة ثانية.

وفي الوقت الذي تطلع فيه التونسيون الى القطع مع مسار الإصلاحات الهيكلية التي شكلت العمود الفقري لمنوال تنمية كرس الفقر والبطالة والتهميش والجهل، انخرطت جميع الحكومات المتعاقبة بعد الثورة الى اليوم في مسار يتضارب مع استحقاقات الشعب ويقوم على استكمال المرحلة الأخيرة من تفكيك الدولة الوطنية عبر تفكيك ميزانية الدولة التي تمثل الية تنفيذ سياساتها وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية من جهة، والمرحلة الأخيرة من مسار الانفتاح والتحرير ليشمل في باب السياسة النقدية تحرير الخدمات المالية وفتحها أمام رأس المال العالمي من جهة ثانية.

وباعتبار استكماله لأسس وجوهر نمط تنموي، غير معلن، من جهة، ودوره في إرساء مشروع مجتمعي جديد لتونس، غير معلن بعد، كان من المفروض أن يشكل هذا البرنامج موضوع حوار وطني عميق وجدي بعيدا عن التجاذبات السياسية، الا أن الحكومة اختارت التعتيم والتضليل وتجاوز الأطراف الاجتماعية التي دعتها الى بيت الحكمة لتوظيف حضورها كتأشيرة لانطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ليس من أجل الحصول على القرض من عدمه، فهذا أمر محسوم، ولكن من أجل وضع روزنامة واليات الإجهاض على مقومات الدولة الوطنية وتحويل الدولة (النقطة 5 من البرنامج) الى سوق تحتكم الى قوانين الدوائر المالية الداخلية والخارجية.

ففي الباب المتعلق بسياسة المالية العمومية كرس البرنامج مسار تقليص الدور التنموي والاجتماعي للدولة الذي تترجمه ميزانية الدولة التي حولها البرنامج الى أداة مالية فارغة من أي مضمون تنموي واجتماعي من خلال تغيير هيكلتها (النقطة 10 ) في اتجاه تفكيكها عبر احداث وكالة للجباية والمحاسبة العمومية والاستخلاص (النقطة 9 من البرنامج)، ووكالة للتصرف في الدين العمومي (النقطة 11)، ووكالة للمساهمات العمومية (النقطة 15)، والعمل على الغاء الدعم في اتجاه 0 دعم في سنة 2024 (النقطة 13 ) بما يختزل ميزانية التصرف في مهمة وحيدة وهي التأجير بعد ما تم القضاء، بصفة تدريجية، على ميزانية التنمية وذلك منذ سنة 1986 مع النسخة الأولى من برنامج الإصلاحات الهيكلية حيث كانت ميزانية التنمية تمثل حوالي 47 بالمائة من الميزانية قبل ذلك التاريخ لتتبنى نفقات التنمية منحى تنازليا منذ سنة 1986 لتستقر في معدل 20 بالمائة من مجمل النفقات العمومية وتصل الى 16.9 بالمائة في سنة 2019 ، دون التنفيذ، و0 بالمائة في مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2021 .

أما بالنسبة للمؤسسات العمومية، حيث طال الحديث عنها مؤخرا مع تشبث الحكومة بنفيها لآلية الخصخصة، فقد جاء الكتاب الأبيض الصادر في سنة 2018 الذي كتبته أيادي تونسية وبتمويل من الصندوق والبنك العالمي واستند الى مرجعية نيو ليبرالية تؤمن بحياد الدولة (تخلي الدولة عن توجيه الاقتصاد من خلال السياسات القطاعية)، ليعكس حجم التضليل والتعتيم الذي تصر على تكريسه حكومة المشيشي في تعاطيها مع ملفات حارقة ومصيرية، على غرار المؤسسات العمومية، من خلال تبني مصطلحات ومفاهيم تصب في الأخير في خانة التفريط واستحواذ رأس المال الأجنبي والشركات الأجنبية على أنشطة وقطاعات سيادية مثل انتاج الكهرباء والغاز والخدمات المائية وخدمات الاتصال والنقل بمستوياته الثلاث…

أما في مجال السياسة النقدية، فإلى جانب تجديد الالتزام باتباع سياسة نقدية متشددة أدت الى تدمير كل محركات النمو، وسياسة صرف مرنة أدت الى تدهور قيمة العملة الوطنية، وتكريس لاستقلالية البنك المركزي أدت الى قذف ميزانية الدولة في قبضة البنوك المحلية، بشر البنك المركزي في هذه الوثيقة –

البرنامج بوجود مشاورات مع الحكومة من أجل التحرير الكامل للعلاقات المالية مع الخارج بما يعني رفع كل القيود أمام حركة راس المال الأجنبي، والسماح للبنوك الأجنبية من الدخول الى الساحة المالية المحلية، وخصخصة البنوك العمومية، وتحرير السوق المالية من خلال إزالة القيود والعراقيل المفروضة على امتلاك المستثمر الأجنبي للأوراق المالية للمنشآت والمؤسسات العمومية المدرجة بالبورصة، وغيرها من الإجراءات التي تفتح الطريق أمام تغول القطاع البنكي والبنك المركزي على حساب الدولة الوطنية.

وبعيدا عما روجت له الحكومة بخصوص أهمية الاقتراض من صندوق النقد الدولي للخروج من الأزمة المالية، فقد حملت هذه الوثيقة برنامج تفكيك الدولة الوطنية من خلال سياسة مالية عمومية حولت ميزانية الدولة الى أداة لجمع الضرائب لضمان تسديد الديون الخارجية بعد إحالة صلاحيات الدولة الوطنية، التي تنفذها عبر الميزانية، الى وكالات وهيئات وأجهزة تكنوقراط مستقلة تحتكم الى منطق السوق الذي وضع رأس المال العالمي قوانينه بعيدا عن الطرح الاجتماعي والتنموي.

لقد أعلنت هذه الوثيقة (النقطة 1) عن البديل الاقتصادي الذي سيعمل هذا البرنامج على استكمال مقوماته مع سنة 2024 من خلال التعريف بتونس على الصعيد الاقتصادي على أنها تتميز بتوفر يد عاملة ذات كفاءة بأجر تنافسي، وبقربها من أوروبا، لنقف عند حقيقة وطبيعة هذا البرنامج الإصلاحي الذي سيقضي على القطاعات المنتجة، في غياب سياسات قطاعية في ظل حياد الدولة (الذي يكرس اللادولة)، الا تلك التي ستنشط في اطار المناولة (النقطة 2 ) لتحويل تونس الى خزان لليد العاملة الرخيصة والى مقاطعة في خدمة رأس المال الأوروبي، أساسا، بحكم القرب الجغرافي.

وفي الوقت الذي يقف فيه الشعب التونسي الى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الكيان الصهيوني دفاعا عن أرضه، تحول وفد تونسي الى واشنطن وفي حقيبته سيناريو الإجهاض على الدولة الوطنية لتحويلها الى مقاطعة في خدمة رأس المال العالمي المعروف بمناصرته لهذا الكيان الغاصب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *