حقائق… من فرص أهدرت على وطن وشعب .. بقلم فتح الدين البودالي

بكل صراحـــة

حقائق… من فرص أهدرت على وطن وشعب

بقلم فتح الدين البودالي

رجل دولة سابق وكاتب مستقل

تونس بلاد الحضارات، ففوق ترابها :

* تأسست إمبراطورية قرطاج عام 814 ق.م فأنتجت دستور قرطــاج الأول في العالم يوم كان لها إشعاع بالغ في أرجـاء البحـر الأبيـض المتوسط وخارجه.

* انتشر منها الإســـلام في الشمــال الافريقــي في فرصة تاريخية للتطور الحضاري غربي أوروبا وافريقيا.

الاستعمار الفرنسي والاختراق التاريخي

إن وصية ملك فرنسا لويس التاسع عام 1250 م التي أكد فيها بعد تجاربه الخائبة في الحروب الصليبية ضد مصر وتونس أنه لا يمكن الانتصار على المسلمين بالحرب وحدها إنما بالخصوص : – إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين (فتن – خيانات)، – عدم قيام حكم صالح، إفساد أنظمة الحكم بالرشوة والمال والتحلل الأخلاقي، – منع قيام جيوش مؤمنة بأوطانها، -ألا تقوم وحدة عربية إسلامية، – غرس دولة غريبة في المنطقة العربية (فيما بعد زرع الكيان الصهيوني في فلسطين).

إحباط أول مشروع دستوري

ويدور الزمان ويتفق امبراطور فرنسا (نابليون الثالث) مع قنصله بتونس على احباط حركة مشروع دستور عهد الأمان سنة 1861 التي قام بها رجالات الإصلاح آنذاك ودام العمل به 3 سنوات أي قبل انتصاب الحماية بـ 20 سنة والذي طمح الى الغاء الحكم المطلق فإذا بالمؤامرة الخارجية تنجح في انتهاج سياسة المراوحة بين الإخضاع والادماج والسيادة المزدوجة كتمهيد للاحتلال.

الاستقلال المغشوش

على مدى عقود عرفت البلاد :

· حركة طلابية زيتونية قادت أول اصطدام مع الاستعمار في موقعة مقبرة الجلاز عام 1911 دفاعا عن الهوية الوطنية.

· تأسيس الحزب الحر الدستوري من قبل النخبة الزيتونية سنة 1919. (وقع افتكاك المشروع اثر وانشقاق سنة 1934).

· تلاها تأسيس المنظمات النقابية والجمعياتية الخيرية والشبابية والرياضية وتنامي الثقافة والإعلام.

كلها أدت بفضل تضافرها وتكامل مكوناتها الى الاستقلال وبناء الجمهورية سنة 1959 فتحقيق مكاسب تاريخية عبر سياسات تنموية قدم الشعب فيها تضحياته في وطنيّة عالية.

ومع هذا فإن ما يخفيه البعض ويتناساه كثيرون أن تونسنا كانت مؤهلة للمضي على درب التنمية الشاملة بهدف تحقيق التقدم على غرار الأمم الناهضة. لكننا أضعنا الفرص جراء توالي الأخطاء دون نقد وتقييم بنّاء وضمن سياقات التبعيّة وقبضة مخالبها، فقد ظلّ يتصارع في بلادنا نقيضان صراعا مريرا كان السبب الأصلي في تأخّرنا وانهيارنا، صراعا مسنودا من أذى المحيط العائلي لمراكز السلطة مدعوما باختراق الاستعمار بكل معاني الكلمة والذي لم يكن مجرد “حماية”، وهذا باتباع سياسة قائمة على المكر والمراحل من ذلك :

1- الاكتشاف التوثيقي والصادم بما يفيد ان تونس لم تحصل فعليا على استقلالها كاملا الى جانب انتهاك السيادة بالغزو الفكري والإعلامي والثقافي واللغوي بإعلاء راية العلمانية وتغذية النزاعات وتصفية الوطنيين والعلماء وضرب الأخوة بافتعال الإرهاب الوظيفي. ففرنسا هي الدولة العميقة للسياسة التونسية وهي التي اشترطت بأن يكون النظام السياسي برأس واحد للتحكم فيه واستدامة نهب ثروات البلاد.

2- انقلاب “حزب التحرير والاستقلال” الى “حزب السلطة مدى الحياة”.

3- تهميش فعالية الدين بتجفيف منابع الشخصية، وإلغاء التعليم الزيتوني وحصر التعاليم الإسلامية عند أضيق نطاق وبمظاهر فولكلورية.

4- تهميش التربية الدينية وخنقها لصالح الانزياح الحثيث، الى العلمانية المناهضة للدين والانحلال والتسيب وصولا الى تفكك مؤسسة الأسرة.

5- استحثاث التجريف للوحدة الوطنية القائمة على الوفاء والتضامن والتضحية نحو غوائل الفتنة والظلم وبتصفية الوطنيين الأحرار والتضحية بأكباش فداء لطمس الأسباب الحقيقية والفاعلين الحقيقيين.

6- من أجل سد الفراغ الذي خلقه الاستعمار وعلى درب الستينيات (1960 – 1970) ومبدأ الاشتراكية وتعايش القطاعات الثلاثة : (العام والتعاضدي والخاص) لخلق أمة وسط وتوفير العدالة للنهو ض بالبلاد كحلم منشود، جاءت أزمة تعميم التعاضد المفتعلة والتراجع الكلي بدون تقييم أو استشارة (المنعرج الخطير) سببها تقرير السفير الفرنسي آنذاك “سوفانيارغ” حين تدنى الميزان التجاري مع فرنسا سنة 1968 من 76 بالمائة الى 36 بالمائــة فأطلـق السفير بتقرير “صيحة فزع” مفادها أن تونس باتت على أبواب “كارثــة سياســة التعاضــد” اغتيــاظا من النجــاح رهن التحقـيـق ومكـرا للتخلص من رمــوز البلاد والإبقــاء على التبعية.

وهكذا أبعدت التجربة الرائدة عن مسارها الإصلاحي الزراعي والصناعي والتجاري والخدمات، فبعد 45 عاما (1970 – 2015) استفاقت البلاد مجددا على أهميتها القصوى والاشادة بنجاحها من خلال الندوة الثلاثية حول قانون الاقتصاد التضامني الاجتماعي محركا للتنمية والتشغيل بتونس يوم 19 ماي 2015.

7- من التوجـه الاجتماعي الإنساني الى المجتمع الأناني المجحف.

8- من العناية الضخمة بالتنمية الشاملة لولايات الساحل خاصة (المنستير – سوسة – المهدية) الى عدم التوازن للجهات الغربية والداخلية بالخصوص المهمشة والأقل حظا، كل ذلك ما كان ليحصل لولا فقدان العدالة وانتشار الظلم والتمييز السلبي.

9- من آفاق البناء والإصلاح والأمن والاستقرار الى حضيض الكذب والنفاق والحقد والمحسوبية والمطامح والتواكل والغدر والغش والخـداع والانحـراف السلوكــي تحت تأثير المخدرات والملهيات وصولا الى الفسـاد والكسب غير المشـروع والهجـرة اليـائسـة وأخيرا الإرهاب وهي أمراض يبتلى بها المجتمـع كلما أصابه الاختلال.

ثورة الربيع العربي

ومع تفاقم السوء وتدهور الأوضاع تعاظم بالمقابل النضج السياسي للشعب الذي أبهر العالم ففاضت كأس الغضب وانفجرت الثورة فيما يعرف بشرارة الربيع العربي 17 – 14 جانفي 2011 ثورة مهدت سهّلت طريق افتكاك الحقوق والحريات والديمقراطية بعد الجرم في حق الوطن والأسى الشديد مما خلفه الماضي من تراكمات وتخلف وتبعية. أي بعد 150 سنة من احباط دستور عهد الأمان.

الانتقال الديمقراطي

كان الانتقال الديمقراطي، رغم الصعوبات، فبتضافر قوى المجتمع المدني والسياسي أمكن التدرج في بناء الانتقال عبر سنّ دستور 2014، دستورا تقدميا يضاهي أرقى دساتير العالم رغم التقصير بالنتيجة والواقع في تغيير تشريعات أخرى كان من الضروري والحيوي أن لا تبقى قائمة وأسندت إليها النظم الحاكمة البائدة ثم استغلتها الثورة المضادة والنظام الحالي في اعطاب المسار ومكتسباته.

وإرساء معظم المؤسسات والهيآت الدستورية ومراجعة كثير من التشريعات البالية كما أن الانتقال الديمقراطي رسّخ حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية والمشاركة والمبادرة وحق الاعتراض ودعم أركان الدولة المدنية بقوانين راقية وأتاح للنخب السياسية تداولا سلميا على السلطة وتنظيما للتنافس الانتخابي على المستوى الوطني والجماعات المحلية مع سعي الى ترتيب العلاقات مع الماضي أملا في المصالحة والتجاوز. ولكن الصعوبات المضادة عطلت الطموحات.

تدمير ممنهج بمظاهر فوضوية

غير ان تعطيل المسار كان – كالعادة – في الموعد بأوامر فرنسا رأس حربة الثورة المضادة، فكان على الثورة أن تواجه الصعوبات والمخاطر والأنانيات التي لم تراع الأولويات والاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية بل نشأ جوّ من التخويف والمساومة تحت أجندات سياسية تعمل بدهاء لإجهاض الثورة ومعاداة كل ما له علاقة بالإسلام… مع تورط غريب بالتمويل لدوائر عربية ثرية :

‌أ- التدخل الاستعماري الصارخ والماكر على عديد الواجهات للتأثير على كل المسارات بغطاء الفرنكفونية والإبقاء على الامتيازات وفلك التبعية، سواء بالمكر والإغراء وبالحظوة وحتى بالعنف مثل الاغتيالات السياسية.

‌ب- ممارسات أحزاب الثورة المضادة والالتفاف على الثورة وضربها بالعصيان المدني والنزعة الانتقامية والاعتصامات الفوضوية وترذيل البرلمان وإجهاض كل برامج الإصلاح والتنمية.

‌ج- التحركات الاجتماعية والتي لم ينج منها مستوى ولا قطاع بما يساوي أكثر من 35 ألف اضراب مما تسبب في نزيف عميق مهول ومدمّر ومستديم لم ينته ولا يمكن البرء منه بسهولة.

‌د- إعلام غسل الأدمغة وقصف العقول وتضليل الجماهير وغموض المسار من خلال إلهاء الشعب بصناعة الكذب وتشويه الحقائق وتخليط الأوراق وقلب القيم وتثبيط الهمم.

‌ه- التضخم العجيب في عدد الأحزاب بشكل مستراب وعبثي إلى 230 دون مضمون ولا هياكل ولا برامج ولا رؤى، وهو ما تسبب في التشتت والتذبذب وعزوف الجماهير.

‌و- انعكاسات الأزمة الحدودية والتداعيات المعقدة للثورة الليبية .. اقتصاديا واجتماعيا وأيضا سياسيا.

‌ز- التضخم والعجز بالالتجاء الى الاقتراض الحاد والاستثمار المهتزّ، في جهد لاهث لخلق توازنات مالية صعبة وهشّة، خطير العواقب.

تلك هي عشرية ثورة الحرية والديمقراطية فلا بد من المراجعة السليمة الصادقة لتحديد مسؤوليات العوامل التي آلت إلى تعطيل المسار.

المنعرج الخطير

مثلت منظومة 25 جويلية 2021 والهروب الى الأمام خرقا جسيما واستيلاء على كامل السلط وذريعة للانفراد بالحكم غير مسبوق في تاريخ تونس بنوايا الانقلاب على الدستور بجهالة وإجرام في حق الإنسان والأجيال والوطن وهو ما رفضه عموم المجتمع والشعب التونسي وكذلك القوى العظمى في الخارج والهيآت الدولية مما أدى إلى عزلة دبلوماسية حادة ومنذر بالأسوأ إذ وضعت البلاد على شفير الإفلاس ومعاودة كوارث “الكومسيون المالي” قبيل استعمار 1881 لتونس. وصولا إلى استفتاء الشرخ ولانقسامه حول دستور البلاد الجديد مشحون بمخاطر جسيمة :

· عودة الدكتاتورية والسيطرة على كافة دواليب الدولة والانفراد بالحكم.

· عدم وجود توازن بين السلط بل ستكون سلطة التشريع برأسين جهوي وإقليمي عوضا عن البرلمان.

· السلطة القضائية والمحكمة الدستورية تحولتا إلى وظيفة تابعة غير مستقلة.

· إلغاء الإشارة لدين الدولة وهويتها العربية وكذلك الحريات.

· انتهاء ظاهرة المجتمع المدني (أحزاب – منظمات – جمعيات) ونبذ كلمة “الديمقراطية” من الخطاب نبذا تاما.

· الاختراق الجديد المتصاعد نحو توجه بديل شيعي ايراني بدعم من المحيط الإقليمي الشيوعي.

وقد تفاقمت مظاهر الانعطاف الخطير ذاك، بنسق متواتر كانت من محطاته على وجه الخصوص كلّ من تلك “الاستشارة الشعبية” ثم “الاستفتاء على دستور الواحد الفرد”، فالقمة الاقتصادية اليابانية الإفريقية وأزمة البوليزاريو…

إلى ذلك كله، التفاقم المُفجع لموجات مغادرة البلاد بأي طريق من الطرق، بسبب البطالة والعوز والارتفاع غير المسبوق لتكاليف المعيشة، مقرونا بالتضخم المالي والتدهور الاقتصادي وانتشار الشعور بالإحباط وانسداد الآفاق.

وبهذا ضاع عام كاملا من العمر دون حلول اقتصادية واجتماعية وبناء سليم وخطاب سياسي صادق ومسؤول بل تفاقم الوضع على جميع الأصعدة وحالة اللااستقرار.

الدرس والأفاق المستقبلية

واليوم بعد حراك جبهة الخلاص وائتلاف المجتمع للتصدي للانقلاب ولتجاوز التركة الثقيلة لفائدة خيار الثورة درسا وعبرة.

أولا : انقاذ الدولة من الانهيار والعزلة والإفلاس.

ثانيا : ترسيخ الحرية والديمقراطية استنادا لأهداف الثورة تحت خيمة دستور 2014 مع مراجعة وتوضيح بعض الفصول الملغومة أو المشكلة في ضوء دروس أزمة الانقلاب.

ثالثا : استكمال إرساء بقية المؤسسات الدستورية وخاصة المحكمة الدستورية، وعموم الهيئات التعديلية ومزيد ترشيد أدوارها.

رابعا : الانعطاف القوي الفعال لمعالجة تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإعطاء الأولوية للجهات الداخلية والغربية والخروج بالبلاد من مخالب المديونية والهشاشة الاجتماعية ووباء التسيّب الإنتاجي والشغلي الى جانب التصدي من استغلال الثروات الباطنية اجنبيا مجانا.

خامسا : احقاق الحقوق وفرض الحريات والعودة إلى معين الوحدة الوطنية والمصالحة الشاملة والاستفاقة الدائمة بالعودة الى الذات ومقومات القوة منها النهوض والاصلاح.

سابعا : تثبيت التداول السلمي على السلطة وحسن اختيار الإطار بشروط قوامها الأمانة والكفاءة في ظل المراقبة والمحاسبة.

ثامنا : ترتيب العلاقات الدولية على أساس المشترك والمصلحة والرؤى ومبدأ الاحترام المتبادل.

تاسعا : مراجعة تاريخية وسياسية وثقافية واقتصادية دولية لرد الاعتبار وجبر الضرر على ضوء تقرير هيأة الحقيقة والكرامة ترسيخا لمبدأ السيادة الوطنية.

وخلاصة القول

إنّ الأمانة جسيمة أمام الله وتجاه الوطن وإزاء التاريخ في استعادة فعالية الإنسان وبناء مجتمع الوسط وتحقيق ما حلمت به أجيالنا في العدل والحرية والكرامة والديمقراطية والمناعة والتقدم، وليس ذلك بالمستحيل على أمة تريد وتفعل، وليس ذلك ببعيد المنال على غرار الدول المتقدمة في عالمنا اليوم ونجحت بالعلم والعمل والأخلاق وفرض الوجود ونكران الذات بفضل اختيار القدوة الحسنة والقيادة الكفءة المسؤولة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *