جزيرة جربة: مظلمة الماضي وحيف الحاضر وحتمية المطالبة بالإنصاف .. بقلم فتحي بن حميدان

خلال الأيام القليلة الماضية كثر الحديث عن جزيرة جربة التي أصبحت محط اهتمام وسائل الإعلام السمعية والبصرية وشبكات التواصل الاجتماعي. تواترت الكتابات والدردشات وتنوّعت المقالات والتعليقات. لكن الرأي واحد: إجماع تام على المطالبة بإنصاف الجزيرة. ما السبب يا ترى؟

قريبا إدراج جزيرة جربة بصفة رسمية ضمن قائمة التراث الثقافي ...
فيما يلي محاولة متواضعة، في سطور، للتذكير بإيجاز ببعض الحقائق عن الماضي والحاضر.
في سبعينات القرن الماضي، قدّم المستشار الألماني آنذاك فيلي برانت – الذي كان صديقاً لتونس ومُحباً وفياً لجربة – هدية للجزيرة تمثلت في معدات طبية عصرية قيّمة موجّهة خصيصاً إلى المستشفى الجهوي بحومة السوق. لكن السلطات المركزية في ذلك الحين عمدت إلى وضع يدها على هذه الهبة ونقلها إلى مدينة المنستير، متعللة بكون هذه المعدات ستكون أكثر نفعاً وفائدة في مستشفى المنستير الجامعي.
هذا الأمر يقود حتماً إلى الحديث عن مدى تعسّف هذه السلطات تجاه جربة إذ كانت تحوّل بلا وازع أو رادع عائدات السياحة وإيراداتها إلى خارج جربة محاباة وتبجيلاً لمناطق أخرى من البلاد. وقد تجلّت هذه السياسة المجحفة بشكل واضح من خلال عمليات نزع ملكية العديد والعديد من الأراضي الشاسعة الواقعة بالأساس على شاطئ البحر وتجريد أصحابها من ملكيتها “من أجل المنفعة والمصلحة العامة”، مانحة إياهم في المقابل “تعويضات” بمبالغ زهيدة تكاد تكون رمزية. هكذا كانت الدولة تنتزع الملكية من الأهالي وتسند الأراضي إلى مقاولين ورجال أعمال من خارج المنطقة.
من الحقائق الأخرى التي تستحق الذكر، لكونها واقعاً مريراً ومُزرياً بالنسبة لجربة والمنطقة ككل، الوضع فيما يتصل بالبطّاحات الرابطة بين الجرف وجربة: وصمة عار وخزي لتونس القرن الحادي والعشرين. فعلاً فإنّ الأوضاع والظروف في هذا المجال لم تتغير قطّ منذ عقود وعقود. مستعملو البطّاحات ومرتادوها يعامَلون معاملة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها معاملة كلها احتقار للمواطن والزائر وانتقاص من حق الإنسان في خدمة تليق به وتحفظ كرامته وتحمي مصالحه. وإلاّ فما معنى أن تنتظر عائلات بأكملها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، على الجانبين، الجرف وأجيم، لساعات طويلة ولا شيء يقيها من القيظ والزمهرير، أياً كانت ساعة النهار أو الليل وعلى مدار الفصول الأربعة. الناس ينتظرون بهدوء واستكانة في طوابير وظروف لا تليق بالبشر. وهل لهم من خيار؟ الويل كل الويل لمن يجرؤ على الاحتجاج، فمشغلو البطّاحات بيدهم الحل والربط … في جميع الأحوال.
أما عن الصورة التي يعطيها هذا الوضع للزائرين من مواطنين وأجانب فحدّث ولا حرج! هذه جزيرة ومنطقة تستقطبان الملايين من الزائرين عاماً بعد عام، وبالتالي هل يُعقل التذرع بمحدودية الإمكانات ورداءة ظروف العمل وتقادم البطّاحات؟
الحقيقة التالية فتتمثل في كون أ هالي جربة ومتساكنيها، دون الخوض في جدل عقيم ونأياً منهم عن النزعة الجهوية التي لطالما كانوا يظنون أنّ عصرها ولّى وأدبر، يتساءلون عن المنطق والحكمة وراء تسمية مطار جربة الدولي “مطار جربة – جرجيس” والإحجام في نفس الوقت عن تسمية ميناء جرجيس التجاري الذي هو، والحق يقال، مفخرة لتونس، “ميناء جرجيس – جربة” عملاً بمبدأ القياس وعدم الكيل بمكيالين. فعلاً، إذا أريد إعمال المنطق والعقل، للمرء أن يتساءل عن سبب عدم تسمية مطار المنستير الدولي “مطار المنستير – سوسة”، علماً وأنّ كلتا المدينتين سياحيتان ولا يفصل بينهما سوى عشرون كيلومتراً

حقيقة رابعة: ما حصل مؤخراً في السياق الأليم لجائحة فيروس كورونا قد آلم أيّما ألم أهل جربة في الداخل والخارج وزادهم حسرة وأسى إذ أصبح يُنظر إليهم كموبوئين وصاروا يُتهمون بكونهم أصل الداء والبلاء، بدرجة وصلت إلى حدّ رفض مستشفى مدنين الجامعي قبول مريضين مصابَيْن بالفيروس قادمين من مستشفى حومة السوق، ناهيك عن علاجهما وإغاثتهما ومدّهما بالرعاية اللازمة. إنّ عدم توفير الرعاية وعدم تقديم المساعدة ورفض إغاثة شخص في حالة خطر، أياً كان أصله أو مكان إقامته أو مركزه الاجتماعي، جريمة يعاقب عليها القانون في جميع أنحاء العالم. وما زاد الطين بلّة أنّ سائق سيارة الإسعاف قوبل بعبارات وهتافات جارحة ومُذلّة (كورونا – إرحل) !!! أليس في التصرفات من هذا القبيل ما ينمّ عن مواقف تقوم على نزعة جهوية؟ في سياق الحديث عن النزعة الجهوية، لم ينسَ سكان جربة أيضاً موقف أهالي جرجيس الذين كانوا قد رفضوا، منذ بضعة أعوام خلت، إقامة محطة لمعالجة ما أسموه “نفايات جربة” عندهم و”على أرضهم”. هذه التصرفات المشينة كانت بالنسبة للجرابة طعنة موجهة من إخوانهم وجيرانهم في جرجيس ومدنين الذين تربطهم بهم علاقات صداقة ومودة، بل وعائلية في العديد من الحالات. سكان جربة يتساءلون ويسألون بكل عفوية وبكل صراحة: أليست جزيرة جربة جزءاً من ولاية مدنين؟ هل هناك مبرّر مشروع ومنطقي لهذا النبذ؟
إنّ أهالي جربة يرون في كلّ ما تقدّم أعلاه من معطيات وحقائق ومواقف مساساً بكرامتهم واعتداء على حقهم في المعاملة على قدم المساواة مع سائر أبناء بلدهم. أولاً وقبل كل شيء هم لا يدركون السبب الكامن وراء عدم السماح لجزيرة جربة بأن تصبح ولاية. في هذا الصدد، يستشهد البعض بالأرقام مشيرين إلى أنّ مدنين، مقر الولاية، تعد 000 80 نسمة فيما يناهز عدد سكان جربة 000 163 نسمة. كما يوجهون النظر، بخصوص معياري المساحة وعدد السكان، إلى أنّه توجد في العالم كيانات أصغر حجماً من جربة ويذكرون، على سبيل المثال، جزيرة مالطة التي هي دولة تبلغ مساحتها 316 كيلومتراً مربعاً، وهي مساحة أصغر من مساحة جربة (514 كيلومتراً مربعاً).
الانتماء إلى ولاية يعني ضمنياً وجود علاقة نفع متبادل ومصالح مشتركة وتضامن. ومن ثم حتمية التساؤل عمّا تجنيه جربة على أرض الواقع من منافع بارتباطها إدارياً بمدنين. إنها علاقة في اتجاه واحد: الجزيرة توفر فرص شغل لليد العاملة ومصدر موارد مالية محترمة ومساهمة لا يُستهان بها في ميزانية الدولة، فضلاً عن إسهامها القيّم في إشعاع المنطقة وسمعتها وكذلك تنميتها. لكن في المقابل كلّ ما تجنيه من هذا الارتباط هو فقط المضايقات الإدارية والتعقيدات الإجرائية والقانونية بمختلف أشكالها التي تزداد تفاقماً نتيجة للبعد والمركزية، إلخ … !!!
في الختام، لا بد من الإشادة بالإخوة من أهل الاختصاص وغيرهم، من جربة ومن خارج جربة، الذين لم يبخلوا بمواقفهم وآرائهم التي أجمعوا فيها على مشروعية مطالبة جربة بأن تكون ولاية الجمهورية التونسية الخامسة والعشرين، منوّهين بالخصوص بأنّ “وقت السكوت عن الحق قد انتهى”.

فتحي بن حميدان
موظف دولي وأستاذ جامعي سابق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *