جاء بها رئيس من الشعب .. حكومة سحق الطبقة الوسطى وتغول اللوبيات .. بقلم جنات بن عبد الله

لا يزال الجدل قائما حول مرور حكومة رئيس الحكومة المكلف من عدمه في جلسة منح الثقة لمجلس نواب الشعب المنتظر عقدها يوم الثلاثاء غرة سبتمبر 2020.


فقد جاءت هذه الحكومة التي أطلق عليها حكومة الرئيس 2 ضاربة إرادة شعب في بناء مرحلة حاول المساهمة في بلورة شروطها من خلال صندوق الاقتراع باختياره لأحزاب منحها ثقته على أساس برامج وخيارات وقناعات شخصية.
وبقطع النظر عن قيمة مضمون البرامج الانتخابية لكل الأحزاب التي تقدمت لكسب ود الشعب، وبقطع النظر عن قدرة هذه الأحزاب على ترجمة استحقاقات المرحلة الى واقع معاش، فانها تبقى الضامن الوحيد للحد الأدنى من شروط مرحلة الانتقال الديمقراطي في بلادنا.
ولئن تؤكد الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية عن فشل هذه الأحزاب التي حكمت تونس منذ سنة 2012 الى اليوم من وجهة نظر أغلبية الشعب التونسي من الطبقة الوسطى والفئات الفقيرة، فان ذلك لا يبرر اقصاءها من ممارسة حقها في السلطة في بلد وظفت فيه هذه السلطة لخدمة عائلات ولوبيات استعادت اليوم سيطرتها على مقدرات البلاد من خلال فرض حكومة كفاءات.
هذه العائلات واللوبيات وضعت نفسها في تقاطع مع وصفات صندوق النقد الدولي وبرامج البنك العالمي لتكون الراعية والمستفيدة الوحيدة من التمويلات والقروض الخارجية التي تمنح للبلاد على خلفية انقاذ اقتصادنا الوطني على حساب شعب حولته الى رهن لمزيد ثراءها على مر عقود ماضية ولاحقة بتوظيف أنظمة سياسية وحكومات تنصبها على مقاصها.
ما يلفت الانتباه في حكومة المشيشي المقترحة أن هيكلتها، التي اعتمدت دمج وإلغاء عدد من الوزرات، جاءت في غياب برنامج حكومي يرسم توجهاتها وخياراتها واجاباتها لتحديات استحقاقات شعب طالما انتظر الانتقال الديمقراطي ليستفيد من منظومة حكم كانت دائما في خدمة عائلات معينة ولوبيات في خدمتها.
إجابة رئيس الدولة للشعب التونسي، ومن خلال هيكلة حكومة المشيشي، جاءت واضحة من خلال دمج ثلاث وزارات وهي الاقتصاد والمالية والاستثمار وتكليف شخصية تعمل في المجال البنكي بالحقيبة، مفادها أن أجندة المرحلة جاهزة ولا تنتظر أحزابا لضبطها بل ان الأحزاب ستعطل تنفيذها وستطالب بنصيبها من الغنيمة.
ان ما تمر به التجربة الديمقراطية في تونس، بانعكاساتها على الاقتصاد الوطني، هي وليدة حسابات عائلية ضيقة تختفي وراء لوبيات، لا مجال فيها لتطلعات الشعب في التشغيل والصحة والتعليم والكرامة والسيادة الوطنية.
ان اختيار شخصية تعمل في المجال المصرفي ولها شبكة علاقات واسعة عربيا وفرنسيا في المجال، ومنحها صلاحيات ثلاث وزارت، يكشف أن عملها سيركز على تحرير قطاع الخدمات بما في ذلك الخدمات المالية الذي وضع اطاره القانوني القانون عدد 47 لسنة 2019 مؤرخ في 29 ماي 2019 يتعلق بتحسين مناخ الأعمال، والقانون عدد 71 لسنة 2016 مؤرخ في 30 سبتمبر 2016 يتعلق بقانون الاستثمار الى جانب القانون عدد 35 لسنة 2016 مؤرخ في 25 أفريل 2016 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي.
فتحرير الخدمات المالية، حسب النصوص القانونية الجديدة، يمر عبر إقرار مجموعة من الإجراءات التي ترمي الى خفض درجة ما يسميه رأس المال العالمي ب”القيود” المفروضة على القطاع البنكي، وتقليص ما يسمى أيضا ب”احتكار” الدولة له من خلال بنوك عمومية، وفتحه أمام المنافسة بما يعني السماح للبنوك الأجنبية بالدخول الى السوق المالية المحلية.
هذه “القيود” هي في الحقيقة ضمانات لحماية الدولة من تغول البنوك المحلية والأجنبية، واستحواذها على الاقتصاد الوطني وذلك من خلال توجيه الاستثمار نحو قطاعات معينة لا تستجيب لأولويات الشعب وتهريب الأموال الى الخارج وتحويل الأرباح.
ولئن تعمل البنوك المحلية التونسية على تحرير الخدمات المالية فذلك لن يحميها من تهديد افلاسها أو استيعابها باعتبار القدرات المالية الضخمة للبنوك الأجنبية مقارنة بقدرات البنوك المحلية الخاصة منها والعمومية التي يرتكز النظام المالي الجديد على خصخصتها.
تحرير الخدمات المالية الذي جاء به قانون الاستثمار وقانون تحسين مناخ الأعمال والذي هللت له الأحزاب الحاكمة، عن جهل وإدراك في نفس الوقت، يمثل تهديدا حقيقيا للسيادة المالية للدولة. هذا التهديد يتعمق أكثر بتطبيق النظام الأساسي للبنك المركزي الذي منع البنك المركزي من تمويل ميزانية الدولة مباشرة ومنح هذه المهمة للبنوك المحلية التونسية والأجنبية بما يحول ميزانية الدولة الى رهينة لدى هذه البنوك لتوظفها حسب أولوياتها التي تتضارب مع أولويات المواطن والفلاح والمؤسسات الصغرى والمتوسطة وبصفة عامة مع مقومات السيادة الوطنية.
ان ما يعبر عنه بالفجوة بين الشعب والحكام أو بين الشعب وحكوماته هو حقيقة وترجمان لوضع تعمل قوى لا وطنية على مزيد تكريسه وتثبيته في مرحلة تختلف في مقوماتها عن المراحل السابقة بما يرشح بتصادم حتمي بين الطرفين الشعب والحكومات أو الشعب ومن نصب الحكومات باعتبار أن تحرير الخدمات المالية سيؤدي الى سحق الطبقة الوسطى وتدمير القطاع المنتج ويقوي نفوذ العائلات واللوبيات في البلاد.
ان دمج وزارات الاقتصاد والمالية والاستثمار يكشف عن تفاصيل أجندة السنوات القادمة المتمثلة في تنفيذ ترسانة القوانين التي مررتها حكومتا الحبيب الصيد ويوسف الشاهد وصادقت عليها أحزاب سياسية انتهى دورها اليوم بل أن تواجدها يشكل تهديدا مباشرا أمام تنفيذها باعتبار أن الأحزاب تستمد شرعيتها وقوتها من الشعب الذي تتضارب مصالحه مع مصالح العائلات واللوبيات، وباعتبار أن هذه القوانين التي مولتها الجهات الأجنبية جاءت على مقاس راس المال العالمي الذي وجد في العائلات واللوبيات سندا له لنهب ثروات وقدرات الشعوب في اتجاه تركيعها وتفكيك الدولة الوطنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *