ثورة الصندوق في تونس: حسابات الربح و الخسارة .. بقلم الأستاذ خميس الشايب

لقد عاشت تونس مساء يوم 15 سبتمبر 2019 زلزااأ مذهلا ورهيبا. فالنتائج الأولية للانتخابات الرئاسية السابقة ﻷوانها في ذلك اليوم المشهود زعزعت كل اﻻنتظارات والتوقعات. باختصار، اتضح جليا أن الحسابات والتحاليل والتطلعات لما ستكون عليه النتائج لم تكن إﻻ تخمينات صبيانية قاصرة.

وقد جرت العادة في أوطان أخرى أن يعمل المتابعون للشأن السياسي في مثل هذه اﻷحداث الكبرى على تحديد قائمتي الرابحين والخاسرين مما حصل، لمحاولة فهمه وتحسس معالم المشهد الجديد وشبه المجهول، ﻷنه غير مسبوق، وللسعي إلى استقراء ما سيؤدي إليه حتما من تطورات في المستقبل المباشر. وهذا ما سنعمل على توليه في الأسطر التالية:

1. الرابحون من اﻻنتخابات:

• الناخب التونسي — سوف لن نخطئ بالتأكيد حين نقول إن الشعب التونسي عموما، وجموع الناخبين باﻷساس، يتصدرون قائمة الرابحين. فنتيجة تصويتهم تؤكد دون أدنى شك أن هذا الشعب ﻻ تخيفه المنظومة الحاكمة مهما بلغ فسادها وسطوتها واستحواذها على كل مكامن القوة والتسلط، من إعلام جائر، ومال فاسد، وتمكن من مفاصل الدولة، وتحريك جزء من قضاء خانع أو طامع، وإدارة مترهلة وغير مكترثة، وارتباط بمصالح ومخابرات أجنبية. للمرة الثانية، أذهل الشعب التونسي المتابعين حين أثبت أنه قادر على التغلب على كل تلك الصعاب المهولة بالثورة أو التمرد في 2011 وبثورة صندوق اﻻقتراع في 2019. في المناسبتين، أسقط الشعب المنظومة، أو ما يعرف بالنمط، سقوطا مذهلا ومدو، دون الحاجة إلى دفع ثمن باهظ.

• قيس سعيد – هو أكبر المستفيدين من بين المرشحين دون منازع. فالرجل قاد حملة انتخابية صامتة تماما. لم يكن له مقر للحملة، ورفض التمويل العمومي الممنوح للمترشحين، ولم يقبل التبرعات المالية أيا كان مأتاها، مكتفيا ببعض المساعدات العينية البسيطة دون غيرها، والتي مأتاها مجموعة من الشباب المتحمس الذين دفعوه دفعا إلى الترشح. كما أنه رفض كل ظهور إعلامي تقريبا على امتداد الحملة، باستثناء المناظرة التلفزية بين كافة المترشحين للانتخابات الرئاسية. وهو لم يقبل، بكل حزم وبكثير من الأدب، الدعوات التي تهاطلت عليه من القنوات الإذاعية والتلفزية للحديث على موجاتها والظهور أمام كاميراتها. كذلك، لم يعقد اجتماعات شعبية انتخابية حاشدة، أو ندوات صحافية صاخبة، أو حفلات استقبال سخية. كل ما فعله هو أنه اكتفى بالتجول بين المقاهي والأسواق والساحات العمومية، والحديث مع من صادفه من روادها، وهو يحمل باستمرار ملفه الأزرق تحت إبطه… ومع ذلك فاز بأكبر عدد من الأصوات وتصدر مجموعة ال26 مترشحا بكل استحقاق.
• نبيل القروي – حقق هو الآخر نجاحا أسطوريا، لأنه لم يخض حملة انتخابية أصلا، بحكم وجوده وراء القضبان. وأكد بذلك ما أثبته المرشح قيس سعيد بأن الحملة الرئاسية في تونس لم تستفد البتة من كثرة الصخب الدعائي والإعلامي، ومن سخاء الموارد المالية المشبوهة، ومن عقد التجمعات الكبرى وإلقاء الخطب العصماء، أو من مساندة ركائز المجتمع ومراكز القرار المعروفة والخفية. لكن هذه الصورة المثالية لا ينبغي أن تنسينا الحملة المدوية التي قادتها قناته التلفزية “نسمة” لفائدة صاحب القناة المحبوس.

والغريب في ظاهرة المترشح نبيل القروي أنه في الحقيقة يمثل أحد أبرز مهندسي المنظومة القائمة ورعايتها على امتداد السنوات الثماني التي عقبت ثورة 2011. جاء ذلك من خلال ما لعبته قناة “نسمة” من أدوار رائدة في تركيز نفوذ منظومة ما بعد جانفي 2011، ومن خلال دوره الشخصي الحاسم في تنظيم لقاء باريس المشهور بين شيخي السياسة التونسية، المرحوم الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، وما أدى إليه هذا اللقاء من تدشين بدعة تونسية أخرى هي “سياسة التوافق” بين الإخوة الأعداء. كما لعب القروي دورا محوريا حاسما حين تولت إحدى شركاته، “قروي اند قروي”، الملف الدعائي والإعلامي لحملة الباجي قائد السبسي وحزبه “نداء تونس” في انتخابات 2014. لكن ذكاء نبيل القروي وخبثه السياسي برزا للعيان حين فهم قبل غيره أن المنظومة التي ساهم في تركيزها ترهلت قبل الأوان بسبب موجات الانشقاق، وأن مآلها هو الزوال لا محالة. وجاء جوابه في مرحلتين: الأولى حين تحول فجأة إلى مدافع عن المهمشين وإلى لسان حالهم يقدم لهم فتات المساعدات ويصورهم وهم يتهافتون عليها لتستغل قناته نسمة تلك الصور للدعاية إلى سخائه الحاتمي. أما المرحلة الثانية، فقد جاءت حين أدرك بذكاء ثاقب أن سفينة النمط تغرق، تغرق، فقفز خارجها للنجاة بنفسه وإن كلفته تلك الحركة الدخول إلى السجن والتحول من لعب دور الجلاد إلى إتقان دور الضحية. وكعادة الشعب التونسي، فإنه ناصر مرة أخرى المغلوب (underdog) على الغالب أو الضحية على الجلاد.

• حزب النهضة – سيستغرب الكثيرون من اعتباري حزب النهضة من الرابحين، رغم اعتبار الكثيرين أنها جزء من المنظومة المطاح بها. لكن وضعية النهضة في الأوساط التونسي والإقليمي والعالمي حرجة جدا. فأعداؤها كثيرون وفاعلون، يهددون حتى وجودها نفسه. هي تحت مجهر الجميع، يتصيدون هفواتها ويعدون العدة لضربها. لقد فهمت النهضة هذا الأمر وتعاملت معه بواقعية كبيرة منذ فشلها في الحكم خلال تجربة 2012 – 2013. وأظهرت منذ تلك التجربة أنها تجد راحتها وتضمن تواصلها باحتلال الموقع الثاني من المشهد السياسي والاجتماعي، فلم تسع جديا إلى استرجاع موقعها الأول. وقد مكنتها تلك السياسة من تجنب كل السهام والسيوف الموجهة إليها من القوى السياسية والاجتماعية التونسية، حين كانت تتصدر المشهد في تونس. كما ساهم احتلالها للموقع الثاني في طمأنة العديد من القوى الإقليمية والدولية وصرف نظرها على الإطاحة بحزب النهضة، خاصة بعد سوء مآل تجربة الإخوان في مصر.
ويتمثل نجاح النهضة في الانتخابات الرئاسية التونسية في تدعيم موقعها في الصف الثاني داخل المشهد السياسي التونسي باختلال مرشحها المرتبة الثالثة، في انتظار الانتخابات التشريعية بعد أقل من شهر. على الأقل لحين، سوف لن تكون حركة النهضة تحت المجهر فتتجه إليها كل الأنظار والسهام.

• اﻹيزي أو الهيئة المستقلة للانتخابات في تونس – رغم كل خلافاتها وصراعاتها الداخلية والتناقضات الصارخة بين أعضائها، نجحت الهيئة مرة أخرى في تنظيم انتخابات ديمقراطية وشفافة، عكست نتائجها اختيارات الشعب بكل متناقضاتها. هي لم تدلس، ولم تغير، ولم تجمل ولم تجامل، بل سعت بكل جهد إلى تمكين الجميع من الاختيار وإلى إيصال هذا الاختيار بكل شوائبه إلى صاحبه، وهو الشعب التونسي.

2. قائمة الخاسرين:

• المنظومة أو النمط – لم تشفع لمنظومة الحكم في تونس، بكافة مكوناتها الظاهرة والخفية، سيطرتها المطلقة منذ ثورة 14 جانفي على مقادير البلاد من تحكم في مفاصل الدولة، وتدجين للإعلام، واستعمال للقضاء، أو لجانب كبير منه، واحتكار لمصادر الثروة، وتحكم في تكون الرأي العام، إلى جانب ارتباطاتها الوثيقة بالمصالح الخارجية، وسكوتها على الأنشطة المفضوحة للمخابرات الأجنبية. ومع ذلك، جاء سقوطها مساء 15 سبتمبر مدويا إلى أبعد الحدود، وخسرت الانتخابات الرئاسية خسارة مذلة. والواقع، أنها ساهمت عن وعي وبدونه، في هذه الخسارة بتقديمها لعدد كبير من المترشحين، مما ساهم إلى حد بعيد في تشتيت الأصوات المتحصل عليها، ودفع بهم إلى نهش بعضهم البعض وإلى تعرية مساوئهم ونقاط ضعفهم.
• المنظومة القديمة – وهي المتكونة من بقايا التجمع، وقبله الحزب الدستوري، التابعين لحكم الرئيسين الأسبقين زين العابدين بن على والحبيب بورقيبة. فبعد فترة من التستر عقبت ثورة 2011 مباشرة، عاد أنصار هذه المنظومة القديمة إلى البروز مجددا، ثم إلى اتخاذ المبادرات وتصدر المشهد السياسي مجددا، رغم فشل رموزها، على غرار عبد الرحيم الزواري والعديدين الآخرين، في انتخابات 2014. لكن يبدو أن تلك المنظومة اعتقدت أنها وجدت اليوم ضالتها في المترشحة عبير موسي، التي لم تخف يوما دفاعها المستميت عن منظومة بن علي وسياسته المستبدة ومهاجمتها الشرسة لثورة 2011 ولكل ما جاءت به، مما جعلها تعد صراحة باستنساخ تجربة بن علي وإحيائها والذهاب بعيدا في تجسيدها. لكن الناخب التونسي أظهر يوم 15 سبتمبر أن له رأيا آخر وعبر عنه بوضوح من خلال مسك صوته عن المترشحة عبير.

إن قائمة الخاسرين في الامتحان الانتخابي لا تقف عند هذا الحد، بل هي تشمل أيضا اليسار التونسي وبقية الأحزاب الإيديولوجية باستثناء النهضة، وأنصار الفرنكوفونية، ومن يدافعون على التقدمية والحداثية ويتكلمون باسمهما، وحتى العديد من الوجوه الحقوقية.

بعد نشوة الانتصار وذهول الخسارة، سيكتشف التونسيون أن الخطأ قد تكرر مرة أخرى: في 2011، جاءت الثورة دون قيادة أو إيديولوجية أو هياكل تتولى القيادة وخلافة المنظومة المطاح بها، واعتقد القائمون بالثورة أنهم أتموا عملهم بنجاح باهر بهروب بن علي، دون الوعي بأن العمل الحقيقي يبدأ يوم أصبحت تونس دون رئيس. لذلك سارع عدد هائل من الوصوليين والمفلسين سياسيا إلى الركوب على الثورة والتظاهر بتبني شعاراتها ومبادئها مما مكنهم من افتكاك قيادتها وبناء المنظومة الجديدة لمدة ثماني سنوات. وفي 2019، يبدو أن ثورة الصناديق ستتوقف عند الإطاحة بكل رموز المنظومة، إذ أنه لا قيس سعيد ولا نبيل القروي يبدوان، على الأقل في الوقت الراهن، قادرين على تركيز منظومة حكم جديدة. الأدهى من ذلك أن الخلافات لن تتأخر في نسف أية علاقة تعاون مستقبلية ممكنة بين أستاذ القانون (قيس سعيد) وبين خارق القانون (نبيل القروي)، وذلك حتى قبل تنظيم الدور الثاني من الانتخابات الفاصلة بينهما خلال الشهر القادم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *