تيار الهوية في البلدان المغاربية.. «سلفي – مشرقي» أم « وطني تحديثي»؟ .. بقلم كمال بن يونس

هل أفرزت حركات الإصلاح والنهضة في القرنين 19 و20 وعيا سياسيا حداثيا وتحديثيا أم انتصر تيار «السلفيين – المشارقة» التقليدي تحت تأثير تلامذة المصلحين (جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا) من قيادات تيارات «الإسلام السياسي المعاصر» وبينها جماعة الإخوان المسلمين والحركات التي خرجت من رحمها؟
وهل لا يمكن الحديث عن «الاستثناء التونسي والمغاربي» عربيا وإسلاميا نتيجة تميز شمال أفريقيا بسياسيين ومثقفين ومفكرين «ليبراليين وحداثيين» حاولوا منذ القرنين الماضيين الانخراط في تيار المعاصرة الأوروبي العالمي مع الاستفادة من الرصيد العقلاني للتراث العربي الإسلامي ومكاسب التحديث التي سبقت الاستعمار، ثم تعززت خلال مرحلتي الصراع معه وبناء الدولة الحديثة المستقلة؟

الدولة الحسينية

من خلال قراءة تطورات المشهد الفكري والسياسي في تونس والبلدان المغاربية منذ القرن 18 يتضح بروز مبكر لتيارات التجديد والتحديث في مفهوم نظم الحكم ودور الدولة «الوطنية».
فقد كان عام 1705 – تاريخ تأسيس الدولة الحسينية التي حكمت تونس حتى 1957 – محطة حاسمة في تأسيس «نواة» الدولة الوطنية.. التي تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية عن «الباب العالي» في اسطنبول.. وكان مؤسسها عسكريا من أصول يونانية ومن أم تونسية (كورغلي)، وليس تركيا بنسبة مائة في المائة.. واختاره أعيان العاصمة التونسية ورجال أعمالها وليس قادة الجيش العثماني.. مثلما أوضح المؤرخ التونسي الكبير محمد الهادي الشريف الذي قضى 20 عاما في إعداد رسالة دكتوراه عن الدولة الحسينية.. تحت عنوان «السلطة والمجتمع في تونس في عهد حسين بن علي 1705 – 1740».
وفي المغرب والجزائر وليبيا برزت ظواهر «استقلالية وطنية» مبكرة مماثلة.. فضلا عن كون المملكة المغربية لم تكن أبدا «إيالة (أي ولاية) عثمانية».. مثلما أوضح المؤرخ سعيد بحيرة في رسالته الجامعية عن «قراءة أخرى في الهوية التونسية».

تأثيرات جغرافية وتاريخية

ويعتبر عدد من الخبراء في الأنتروبولوجيا والعلوم الاجتماعية والتاريخية والحضارية أن عوامل جغرافية وتاريخية كثيرة تفسر «خصوصيات» النخب والمثقفين والمصلحين الدينيين والسياسيين في تونس والمنطقة المغاربية.. وانخراطهم المبكر في قيم الحداثة والمواطنة والتأويل العقلاني للتراث مع التفاعل الإيجابي مع تيار النهضة والتنوير في فرنسا وأوروبا.. بفضل القرب الجغرافي والانفتاح الثقافي المبكر في بلدان شمال أفريقيا على أدبيات الفلاسفة والمثقفين الفرنسيين.
في هذا السياق يتحدث الجامعي فتحي القاسمي، صاحب رسالتي دكتوراه عن الفكر التونسي والمغاربي في العهدين الحديث والمعاصر عن تأثيرات موجة هجرة الأندلسيين إلى تونس وشمال أفريقيا منذ مطلع القرن 17.. خاصة بعد ترحيلهم النهائي عام 1609.

كما كشف القاسمي في رسالته الجامعية عن تفاعل علماء جامع الزيتونية التونسي، الذي تخرج منه جل علماء وساسة شمال أفريقيا وبعض كبار المصلحين في مصر منذ القرن 18 مع تيار الإصلاح والتجديد الأوروبي «ثم مع مضامين الثورة الفرنسية قبل عقود من احتلال نابليون لمصر واحتلال فرنسا للجزائر وتونس والمغرب وإيطاليا لليبيا».
وينفي غالبية المؤرخين التونسيين، مثل عبد الحميد هنية والهادي التيمومي، أن يكون «الاستعمار سبب نشر القيم الحديثة والإصلاحية في دول شمال أفريقيا».. ويؤكدون على البروز المبكر «للبعد الوطني والإصلاحي» في مؤلفات أبرز المثقفين والأدباء والمصلحين التونسيين والمغاربيين مثل أحمد ابن أبي الضيف مؤلف الكتاب السياسي المرجع عن إصلاح نظم الحكم في الدولة الحديثة «أقوم المسالك».

[inset_right]مفهوم «الأمة» بمفهوم «الوطن الصغير» و«المواطنة» ظهر مبكرا في تونس وبلدان شمال أفريقيا لدى جمعيات أساتذة الجامعة والمصلحين وزعماء الحركات الوطنية المقاومة للاحتلال الأجنبي[/inset_right]

وينفي كثير من الباحثين الوطنيين المغاربيين أن يكون مفهوم الدولة الوطنية وتيارات الإصلاح من ثمرات الاستعمار وتمركز البواخر الحربية الأجنبية في سواحل بلدان جنوبي البحر الأبيض المتوسط.. وقد نشر الخبيران في الدراسات الحضارية؛ فتحي القاسمي وكمال عمران، دراسات جامعية معمقة حول دور مصلحين مستنيرين بارزين من الجامعة الزيتونية منذ النصف الأول من القرن 19 من أمثال الشيخ سالم بو حاجب (1824 – 1924) الأب الروحي والأستاذ المعلم لكبار المصلحين الوطنيين والليبراليين والزيتونيين في كامل شمال أفريقيا، مثل محمد الخضر حسين، وبيرم الخامس، وخير الدين باشا التونسي.. ثم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وجمعيات علماء المسلمين في الجزائر والمغرب، وجمعية طلبة شمال أفريقيا المسلمين، وجمعية صوت الطالب الزيتوني، وحركة «تونس الفتاة»، وجمعية الشبان المسلمين التونسية، وزعماء الإصلاح السياسي، والحركة الوطنية في ليبيا، مثل الشيخ سليمان الباروني، مؤسس أول جمهورية مدنية عربية في مرحلة بين الحربين في القسم الغربي من ليبيا «الجمهورية الطرابلسية».

دساتير عصرية وصحافة قبل الاحتلال

وكانت الأدبيات «الوطنية» للمصلحين والوطنيين التحديثيين والزيتونيين (نسبة إلى جامع الزيتونة) سبقت الاحتلال الفرنسي لتونس وليبيا وأفرزت منذ النصف الأول للقرن الـ19 عن تأسيس صحافة وطنية في ليبيا (صحيفة المنقب الأفريقي عام 1827)، وتونس (صحيفة الرائد التونسي في 1860)، وإلغاء الرق في تونس (في 1846).. ثم إعلان دستور «عهد الأمان» للتعايش بين المواطنين التونسيين من مختلف الأديان والجنسيات (1857) وصولا إلى إصدار دستور تونسي مدني حداثي شامل (1861).

الشيخ محمد عبده الشيخ محمد عبده

وقد نصت وثيقة «عهد الأمان» – التي أصدرها الملك محمد باي في شكل مقدمة و11 مادة – على المساواة بين «سائر سكان المملكة» في الحقوق والواجبات.. وتعهد الملك المصلح في نص دستور «عهد الأمان» بضمان المساواة بين جميع سكان تونس مهما كانت دياناتهم وأجناسهم وجنسياتهم. كما جاء في مادته الأولى: «تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا (أي دولتنا) على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرمة، وأموالهم المحرمة، وأعراضهم المحترمة، إلا بحق يوجبه نظر المجلس بالمشورة، ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن، أو الإذن بإعادة النظر».
ونص «عهد الأمان» على مساواة الجميع في مسائل الضرائب والرسوم الجمركية، وأقر كذلك بـ«حرية مزاولة التجارة وحرية العمل في المملكة وتملك العقارات وشراء الأراضي الزراعية للوافدين على البلاد من الأجانب بشرط التزام الجميع بالقوانين المتداولة».

والتزم دستور «عهد الأمان» بإحداث مجالس قضائية «للنظر في أحوال الجنايات من نوع الإنسان والمتاجر التي بها ثروة البلدان».. وأوضح النص الحرفي بتعهد الملك بأن تكون «فصوله السياسية بما لا يصادم إن شاء الله القواعد الشرعية (أي الشريعة الإسلامية).

المواطنة.. و«القومية الملية»

وتؤكد دراسات الخبراء المستقلين وكبار المؤرخين التونسيين والمغاربيين، مثل محمد الهادي الشريف، والبشير التليلي، وعبد الجليل التميمي، ولطفي الشايبي، وسعيد بحيرة، أن مفهوم «الأمة» بمفهوم «الوطن الصغير» و«المواطنة» ظهر مبكرا في تونس وبلدان شمال أفريقيا.. لدى جمعيات أساتذة الجامعة والمصلحين وزعماء الحركات الوطنية المقاومة للاحتلال الأجنبي من محمد وعلي باش حانبة، والطاهر والبشير صفر، وعبد العزيز الثعالبي في تونس إلى سليمان الباروني، وعمر المختار، رمضان الشتيوي السويحلي، وأحمد المريض، وعبد النبي بالخير، في ليبيا إلى مصالي الحاج، وفرحات عباس، وعبد الحميد بن باديس، والبشير البراهيمي في الجزائر وعبد السلام بنونة، وأحمد بلافريج، والمختار السوسي، والمكي الناصري، وعلال الفاسي، وعبد الكريم الخطابي، وعبد الكريم غلاب في المغرب. واتضح المضمون «الوطني» أكثر ما بين الحربين العالميتين بعد بروز منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والنقابات والأحزاب العصرية.. التي كانت جميعا تنتسب إلى «الوطن» وإن أعلنت اعتزازها بالانتماء الثقافي إلى فضاء أوسع مثل «الجامعة الإسلامية» أو «الأمة الإسلامية» وروادها بزعامة جمال الدين الأفغاني ثم «الجامعة العربية» بمفهوم «الوطن العربي الكبير».. التي تبلورت خاصة بعد «الثورة العربية الكبرى» (1936 – 1938) في فلسطين بزعامة الحاج أمين الحسيني.

[inset_right]بدأ التجديد الفكري والسياسي في تونس مع تيار هوية إصلاحي من داخل الحزب الدستوري الحاكم وتيار داخل «اتحاد الكتاب التونسيين» بزعامة محمد مزالي وزير التربية
[/inset_right]

وفي هذا السياق ظهرت في الصحافة وأدبيات الأحزاب الوطنية المغاربية كتابات مصلحين ووطنيين إسلاميين وليبراليين وزعماء سياسيين يستعملون مصطلح «القومية الملية»؛ (من الملة بكسر الميم وفتح اللام وتشديدها).
وكانت القيادة الوطنية للحزب تسمى «الهيئة الملية».. أو «المجلس الملي»؛ أي «المجلس الوطني».
وفي كل تلك الأدبيات برز حديث عن الوطنية والقومية معا.. مع عدم تمييز في أدبيات جل الساسة والكتاب والمصلحين المغاربيين بين النضال ضد الاحتلال الأجنبي ومشاريع بناء «دولة عصرية» و«إصلاح التعليم» و«قيم العروبة والإسلام».. لأسباب كثيرة من بينها انتساب أكثر من 99 في المائة من المواطنين في شمال أفريقيا للإسلام وللمذهب المالكي وعدم وجود طوائف دينية ومذهبية.

ومن خلال مختلف التعريفات التي قدمت للوطن و«الملة» – من قبل الزعماء الوطنيين العلمانيين والليبراليين أنفسهم مثل عبد الكريم الخطابي، وعبد الكريم غلاب في المغرب، وعبد العزيز الثعالبي، ومحمود الماطري، والحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف في تونس – يتضح أن الهاجس كان التوفيق بين «الوطن الصغير» والأمة العربية كانتماء ثقافي حضاري.. بين مكاسب الحداثة في أوروبا والجوانب المستنيرة في التراث وفي أدبيات المجددين، ومصلحي القرن 19.. الذين أكدوا على أن التقدم يبدأ ببناء دولة عصرية لديها مؤسسات سياسية حديثة على غرار تلك التي برزت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية في 1789.

الاتجاه الوطني الإسلامي

ويعتبر الباحث الجامعي والكاتب سعيد بحيرة أن «أحزاب الحركة الوطنية في تونس والدول المغاربية تميزت مبكرا بطرحها لفكرة المواطنة والهوية الوطنية».. وفي هذا السياق كانت قيادة الحزب الدستوري تسمى «المجلس الملي» (أي المجلس الوطني). وكان الحزب الحر الدستوري التونسي الذي تأسس في 1920 بزعامة الشيخ المستنير والعلامة المصلح عبد العزيز الثعالبي ألف مع نخبة من رفاقه في فرنسا وتونس كتاب «تونس الشهيدة» بالفرنسية لمحاولة البرهنة على وجود هوية وطنية تونسية تختلف عن «هوية شعب فرنسا».. كما برزت في أدبيات عبد الكريم الخطابي، وعبد الكريم غلاب في المغرب أدبيات تتمسك بـ«الخصوصيات الوطنية» وتعترض على «ذوبان» الشخصية الوطنية المغربية في «هوية شعب فرنسا».. مع الرد على حملات «التجنيس الإجبارية» – أي إسناد الجنسية الفرنسية لكل من يتنازل عن جنسيته الوطنية – لسكان الدول المغاربية، وخصوصا ما كانت تسميه «الجزائر الفرنسية».

الشيخ الخضر حسين الشيخ الخضر حسين

نفس الطرح برز لاحقا في أدبيات «الحزب الدستوري الجديد» بزعامة الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف ومحمود الماطري.. الذين كان خطابهم في المحافل الثقافية والسياسية وفي جامعي الزيتونة وصاحب الطابع يؤكد على «التوفيق بين الحداثة والهوية الوطنية».

وتجلى هذا «التوجه الوطني الإسلامي» في قيادة الحركة الوطنية الجزائرية والمغربية والليبية؛ حيث حاولت «التوفيق» بين مرجعياتها الفكرية الإسلامية الإصلاحية وبرامج حركات التحرر الوطني المعاصرة.

ويعتبر عبد العزيز بالخادم، الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني الجزائرية، أن حزبه يضم تيارين: الأول «وطني إسلامي»، يتزعمه هو شخصيا والأمين العام السابق عبد الحميد المهري. والثاني ليبرالي اجتماعي يضم شخصيات أكثر اقتناعا بالمرجعيات الغربية.. لكنها لا تعادي مقومات «الهوية الوطنية للجزائر»، ومن بينها اللغة الوطنية العربية والتراث الثقافي الإسلامي وجغرافية الجزائر وخصوصياتها البشرية.

وإذا كانت جامعتا الزيتونة في تونس والقرويين في فاس، مركزا العلوم، اللتين تخرج منهما غالبية ساسة المنطقة من بنغازي وبرقة إلى مراكش، فإن من بين مميزات «الدولة الحديثة» في الدول المغاربية أن نفس النخب تخرجت كذلك من مدارس «مشتركة» عربية فرنسية، ومن جامعات علوم قانونية أوروبية بارزة في فرنسا وبرلين ولندن.. حيث أعرق مدارس «الدولة الوطنية» بمفهومها المعاصر.

الدفاع عن الهوية

ولكن ماذا عن الحقبة الحالية؟ وماذا عن الغموض السياسي والفكري الذي يزداد تعقيدا منذ تضاعف تأثير «الإسلام السياسي» بتعبيراته السلمية العقلانية المدنية حينا، و«السلفية الجهادية المتشددة» و«الجماعات المتطرفة» حينا آخر؟
إذا سلمنا جدلا بحتمية التركيز على حقبة «بناء الدولة الوطنية الحديثة»؛ أي العقود الأربعة التي تشكلت خلالها البنية الأساسية لـ«الاتجاه الإسلامي التونسي – المغاربي» الجديد، فإن من بين الأسئلة التي نسعى للإجابة عنها:
إذا كان من المسلم به أن المجتمعات تدافع عن نفسها وعن هويتها ومصالحها، هل كان «الاتجاه الإسلامي الجديد» أحد التعبيرات التونسية – الشمال أفريقية (أو المغاربية) عن مطالب التحرر الوطني والاجتماعي، وبناء الدولة الوطنية الحديثة، والدفاع عن الهوية، وعن مصالح الفئات الشعبية والوسطى؟

أم كان مجرد «موضة» روج لها عدد من الشباب والسياسيين كان بعضهم متأثرا بتجارب برزت في المشرق العربي الإسلامي مثل جماعة الإخوان أو الثورة الإيرانية ثم ببعض المفكرين الذين أسسوا تيار «اليسار الإسلامي» (أو الإسلاميين التقدميين) في المشرق العربي مثل د.حسن حنفي وكتاب مجلة «المسلم المعاصر» في مصر أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات؟
وهل كان هذا «الاتجاه الإسلامي» التونسي – الذي شكل بعض زعمائه نواة «حزب حركة النهضة» بعد فيفري 1989 – امتدادا لتيار النهضة والإصلاح الأوروبي والعربي والمغاربي منذ القرن 17 بما في ذلك «تيار الإصلاح والتجديد داخل الزيتونيين والصادقيين»، أم أن العكس هو الصحيح أي أنه شكل قطيعة معه.. ثم أسس تيارا سلفيا محافظا ومتشددا معارضا للتجديد والاجتهاد والحداثة وروج لمرجعيات «أشعرية» حينا ومدارس «حنبلية – وهابية» حينا آخر؟

وإذا سلمنا بانفتاح المكتبة التونسية (والمغاربية) في السبعينات والثمانينات على أدبيات بعض رموز الإخوان المسلمين المصريين، الذين قمعهم جمال عبد الناصر في الخمسينات والستينات، (مثل سيد قطب وعبد القادر عودة والخطيب عبد الحميد كشك) أو الذين استضافتهم السعودية مثل محمد قطب، فهل يعني ذلك أن المرجعيات الرئيسة لغالبية مؤسسي «الاتجاه الإسلامي» الجديد في البلدان المغاربية كانت «إخوانية» وليست تونسية مغاربية عربية؟
وإذا سلمنا أن التيار السائد داخل طلاب «الاتجاه الإسلامي» في الجامعات المغاربية» كان في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات التعاطف مع الثورة الإيرانية ومنهجها في قراءة الإسلام وفي التغيير السياسي، فهل يعني ذلك أن «ظاهرة الإسلام السياسي» «انقلبت» بسرعة من مشروع وطني إلى «مشاريع ثورية عالمية» أو «أممية» وأنصارها إلى «خمينيين» مثلما جاء في أوراق المتهمين في قضية 1987 أمام محكمة أمن الدولة التونسية؟

أم كان «الاتجاه الإسلامي» الجديد في تونس والبلدان المغاربية مشروعا سياسيا وطنيا «قطريا» (بضم القاف وسكون الطاء) للتغيير السياسي والثقافي والاجتماعي جمع بين «فسيفساء» من أنصار «تيار الهوية» الذين تشقهم تناقضات جوهرية مع تأثر متزايد بعلماء العصر في شمال أفريقيا والعالمين الغربي والعربي.. مثل مالك بن نبي، ومحمد أركون، والطاهر حداد، وعلي شريعتي، ومحمد باقر الصدر، ومحمد عابد الجابري، ومحمد عمارة (عندما كان يساريا)، وعبد الله العروي، وسمير أمين، وجورج غارودي (قبل إعلان إسلامه)، وفتح الله ولعلو، وأنور عبد الملك، وحسن حنفي، ومحمد الطالبي، وعبد المجيد الشرفي، والحبيب الجنحاني، وأحميدة النيفر، وصلاح الدين الجورشي وغيرهم.

التأثيرات المحلية حاسمة

ولا بد أن نسجل هنا تأثيرات المستجدات الإقليمية والدولية مثل الهزائم العربية في الحروب مع إسرائيل وقوى «الاستعمار الجديد».. وقبل ذلك انتصارات الدول المستعمرة على «الإمبراطورية العثمانية» وحلفائها في الحرب العالمية الأولى، وما أعقب ذلك من هزائم نفسية بالنسبة لمواطني الدول المغاربية والعالم الإسلامي.. ثم انتصاراتها مجددا في الحرب العالمية الثانية على دول «المحور» بزعامة ألمانيا التي سبق أن تحالف معها بعض زعماء حركات التحرر الوطني العربية والمغاربية ووظفوا «إذاعة برلين» للتعريف بمطالبهم وقضاياهم.
ومنذ مطلع النصف الثاني من القرن الـ20 بدا مسار جديد أثر على أدبيات كل رموز تيارات «الهوية الوطنية» بمكوناتها العروبية والإسلامية.

الامين باي الامين باي

فقد شكل منعرج إعلان استقلال الدول المغاربية نقطة انطلاق المراحل الملموسة لبناء «الدولة الوطنية الحديثة»، البداية كانت في ليبيا مع الزعيم الوطني الملك إدريس السنوسي زعيم «الحركة السنوسية» (تيار وطني إسلامي معتدل) منذ عام 1951.. ثم تونس التي استلم مقاليد الأمور فيها إلى جانب الملك محمد الأمين باي زعماء وطنيون ليبراليون من خريجي جامعات فرنسية، مثل السوربون برئاسة الحبيب بورقيبة.. والمغرب التي تحالف فيها الملك المغربي محمد الخامس ثم نجله الحسن الثاني مع زعماء الحركة الوطنية وحزب الاستقلال.

الإخفاقات والتباينات

لكن مرحلة بناء الدولة الوطنية الحديثة من قبل الزعماء السابقين لحركات مقاومة الاستعمار سرعان ما أفرزت تناقضات علنية وعنيفة بين رفاق الأمس الإسلاميين والعلمانيين (الزيتونيين المشرقيين) و(المتغربين) أو (المتفرنسين).. خاصة في تونس التي سعى فيها الحبيب بورقيبة ورفاقه إلى بناء دولة وطنية عصرية على الطريقة الأوروبية تقطع مع الشرق على غرار ما فعل مصطفى كمال أتاتورك بعد سقوط الخلافة العثمانية.
ولئن لم يتبن بورقيبة علنا كل مرجعيات مصطفى كمال أتاتورك «العلمانية» وقدم «اجتهادات وقراءات عقلانية» للإسلام من داخل «المنظومة العربية الإسلامية» فقد أسهب في خطبه في التنظيم «للأمة التونسية» و«الوحدة القومية التونسية» و«الجبهة الوطنية».. وقضى في وقت قياسي على القبلية والعشائرية وهمش اللغة البربرية، وخصص ثلث ميزانية الدولة للتربية والتعليم لنشر قيم الدولة الحديثة، وتعميم استعمال اللغتين العربية والفرنسية، وتشجيع تعلم بقية اللغات الأوروبية من إنجليزية وإسبانية وإيطالية.

أما في ليبيا والمغرب والجزائر فقد حرص حكام الدول الوطنية على التوفيق بين الخصوصيات الثقافية والدينية وقيم الدولة الحديثة.. واعتبر التراث الإسلامي عنصر إثراء وأداة من أدوات الحكم بالنسبة لـ«أمير المؤمنين» في المغرب والزعيم السنوسي في ليبيا.. وكذلك في الجزائر التي كان نشر القيم العربية والفرنسية فيها مطلبا أكثر إلحاحا بسبب سياسات «الاستئصال الثقافي» التي اعتمدتها فرنسا الاستعمارية فيها.
هذا الاختلاف في التعامل مع مكونات «الهوية الوطنية» جعل تونس مرشحة أكثر عرضة لبروز تيارات «الإسلام الاحتجاجي».. بينما كانت «الظاهرة الشبابية الإسلامية» موالية للسلطات (أو مخترقة) في كل من ليبيا والمغرب والجزائر.. إلى حدود التسعينات من القرن الماضي عندما نشأت فيها جماعات شبابية «احتجاجية» مرجعياتها عروبية إسلامية.

مواجهات.. وتجديد فكري؟

تراوحت العلاقة بين زعماء الدولة الوطنية الحديثة في تونس ورموز «الإسلام الاحتجاجي» ثم الحركات الشبابية والسياسية من ذوي «الاتجاه الإسلامي» بين الصدام والحوار.. بين المواجهات ومحاولات الاندماج في «المنظومة الوطنية».
المواجهات بدأت عام 1961 ردا على دعوات بورقيبة للإفطار في شهر رمضان «حتى يتفرغ المسلمون للجهاد الأكبر: جهاد بناء الدولة الوطنية».. وتزعمها إمام جامع عقبة بن نافع في القيروان، الشيخ عبد الرحمان خليف.. وانتظمت مظاهرة حاشدة معارضة لاعتقاله عرفت بتسمية «مظاهرة الله أكبر ما يمشيش».. وتواصلت في الساحل التونسي بزعامة الزيتوني محمد موه قائد احتجاجات شعبية ضد «الاستبداد والسياسة الاشتراكية» وضد افتكاك أراضي الفلاحين لإقحامها في «تعاضديات اشتراكي»..
وبدأ التجديد الفكري والسياسي مع تيار هوية إصلاحي من داخل الحزب الدستوري الحاكم وتيار داخل «اتحاد الكتاب التونسيين» بزعامة محمد مزالي وزير التربية الذي قاد تيار «تعريب التعليم» ومدير مجلة «الفكر».. وتيار إسلامي مستنير نشر «مجلة جوهر الإسلام» بزعامة الشيخ الزيتوني الحبيب المستاوي، القيادي في الحزب الحاكم.. وكانت منبرا لعدد من الخطباء الوطنيين المعتدلين في الإذاعة الوطنية مثل محمود الباجي والبشير العريبي.. وبرز في نفس السياق أئمة وخطباء في جل المدن والقرى، وخصوصا في جامع الزيتونة وبعض جوامع العاصمة (الحجامين والصباغين والقصبة وسيدي يوسف).. ساهموا تدريجيا في بناء جيل من الشباب و«الصحوة الإيمانية».. انخرط تيار منه في مسار «الإسلام الاحتجاجي».. وفي تأسيس «الاتجاه الإسلامي في الجامعة» ثم «حركة الاتجاه الإسلامي» التي خرجت من رحمها «حركة النهضة» عام 1989.

تيار وطني واسع

تراكمت أواخر الستينات وأوائل السبعينات خلافات خريجي الجامعات والمثقفين والنقابيين مع نظام بورقيبة تحت يافطات يسارية وقومية ووطنية وإسلامية.
ولئن كانت مرجعيات الخطاب السياسي لبعض الفصائل المعارضة «كونية» و«تقليمية» فقد كانت في شواغلها أساسا وطنية وتونسية.
وقد ساهم في بلورة الخطاب السياسي «الوطني» لشباب «الإسلام الاحتجاجي»، علماء زيتونيون وصادقيون كان لبعضهم دور كبير في الحركة الوطنية مثل محمد الصالح النيفر وحسن الخياري والشاذلي النيفر.. فضلا عن خريجي المدارس العصرية من الإخصائيين في الفلسفة والقانون والدراسات الحضارية مثل راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وأحميدة النيفر وحسن الغضبان وصلاح الدين الجورشي.

[inset_right]تراوحت العلاقة بين زعماء الدولة الوطنية الحديثة في تونس ورموز «الإسلام الاحتجاجي» ثم الحركات الشبابية والسياسية من ذوي «الاتجاه الإسلامي» بين الصدام والحوار[/inset_right]

وفي الجهات، برز أساتذة تعليم عصري و«وعاظ» مثل د. فرحات الجعبيري، وقاسم قوجة، والهادي الحاج إبراهيم في جربة وتونس، والصادق الجدي في الكاف، وعبد المجيد الصكلي في خنيس من ولاية المنستير.. فضلا عن خطباء جماعة «الدعوة والتبليغ» في كل الجهات، بمشاركة خطباء لهم كاريزما كبيرة من فرنسا مثل الشيخ «يونس من تونس» ومحمد الهمامي.
في هذا المناخ العام تعاقبت الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنقابية والمحاكمات السياسية للشباب الجامعي والنقابيين والمعارضين.. واستفحلت المعارك حول خلافة بورقيبة من داخل الحزب الحاكم وخارجه.. فانخرط «شباب الاتجاه الإسلامي» في المعاهد الثانوية والجامعات وفي الأحياء السكنية الشعبية في «الشأن العام الوطني».. وتطوروا تدريجيا من «ظاهرة دينية شبابية» إلى «ظاهرة سياسية وطنية».. رفعت يافطات النضال من أجل التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي والديمقراطية.
في الإثناء برزت تناقضات فكرية وسياسية داخلية كثيرة داخل «الجماعة الإسلامية» و«الاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية» نتيجة مراجعات عميقة لتجارب الإخوان المسلمين، والجماعات السلفية، وأداء قيادة الثورة الإيرانية بعد استلامها مقاليد الأمور.. وشملت المراجعات خاصة أدبيات منظري «الجماعات الإسلامية» المعاصرة، وخصوصا أبي الأعلى المودودي وسيد قطب.. وبعض «آيات الله» الذين انقلبوا بعد ثورة 1979 إلى «مستبدين جدد» مثل آية الله خلخالي.
وكانت على رأس الانتقادات التي وجهها «تيار المراجعات» إلى سيد قطب ورموز من «تيار الإخوان المسلمين» مواقفهم من «جاهلية القرن 20» وتكفير جانب من المجتمع.. وتضخيم دور الجماعة (أي التنظيم) على حساب المجتمع والوطن.
تلك المراجعات كانت منطلقا لتأسيس تجارب أخرى من بينها «تيار الإسلاميين التقدميين» و«الإسلاميين المستقلين» وتطوير جذري لأدبيات «حركة الاتجاه الإسلامي» في اتجاه مواكبة الخطاب الديمقراطي والوطني على الصعيدين الرسمي والشعبي.. وهو ما ساهم لاحقا في بلورة خطاب سياسي مدني عند غالبية قيادات حركة النهضة التونسية قبل الثورة وبعدها.. الأمر الذي أهلها، لأن تصبح مرجعا إقليميا وأن تصبح جزءا من منظومة الأحزاب السياسية الوطنية في تونس والمنطقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *