تونس والعالم بعد كورونا .. بقلم منار الاسكندراني

إعصار كورونا
في مواجهته لوباء “كورونا” اتخذ النظام التونسي إجراءات وقائية صحية كبيرة، اختُلف حول نجاعتها وتأثيراتها على العلاقة بين المجالين الاقتصادي والاجتماعي ومآل ذلك على الدّول وعلاقاتها..


ولتقييم قرارات النظام، من وجهة نظرنا، اعتمدنا منهجية تتضمن سلسلة من المقالات في إطار مقاربات نعتبرها شاملة.
نحاول في المقاربة الأولى، بغض النظر عن جائحة الكورونا، وصف الدولة من مقتبسات كتابنا الذي سيصدر قريبا بعنوان “الانسان والسلطة”، ننوه في النص بأصول الحياة في الدّولة لا كيفية تأسيسها.

تُعرّف الدّولة على أنّها أرض محدودة “إقليم” يسكنها شعب يُفترض أن يتعايش فيها أفراده وفق إجماع يهدف إلى الحفاظ على العلاقة السلميّة “الشعب/الإقليم” وتحت رعاية نظام يدير الشّأن العام للدّولة ويمثّلها.
ما إن تولد الدّولة باجتماع الإقليم والشعب والإجماع، حتى تُلزمَهم بخادم لقيط هجين لها كمكوّن رابع يطلق عليه النظام وتمده بسلطتين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ثم، ولتهيمن “الدّولة”، فإنها تستحدث سلطة ثالثة، أُطلقُ عليها “السلطة الرقابية”، لتراقب وتحاسب مكوناتِها الأربع “جهاز الدولة”، حتى تبقى أبدا متعالية عليهم جميعا.
وبما أن الميلادَ يوجب الحياةَ والحياةَ توجب الكينونةَ والكينونةَ توجب الأنانيةَ كما أنّ التعالي يوجب الهيمنةَ والاستبدادَ، ننتهي إلى أن الدولةَ كائنٌ أنانيٌّ معدومُ الأحاسيسِ والشعورِ ومتسلِّطٌ بامتياز ومركبٌ إذ أنها تحيا بتواجد مكوناتها معا، وتموت حتى بموت أحدهم فقط.
ولضمان الاستمرار، تتّخذ الدّولة ستّ مسلّماتٍ ، تحدّدها بذاتها ولذاتها، لا تقبل الحوار حولها، ولا حتّى المشاركة فيها، وتغيب عن معظم أفراد الشعب.
الدولة صاحبة المصلحة العليا.
مكوّنات الدولة تخضع أمديّا لهيمنتها.
لا تخسر الدولة مع مكوّناتها أبديّا.
لا تجهل مكوّناتُ الدولة واجباتِهم تجاهها ضرورة.
الدولة لا تعفو أبديّا عمّن يخطئ معها أو يتجاهلها من مكوناتها
أسرار الدولة لا تخص أحدا من مكوناتها.
وكأي كائن، فللدّولة جسم يتمدّد فيتقوّى، وينحسر فيضعف بحسب تفاعلِ مكوّناتها الأربع فيما بينها.
إنّ الدّور الأساسيّ في استقرار الدّولة يكون للنّظام بدرجة أُولى ثمّ للشّعب ثمّ للإجماع وأخيرا للإقليم بدرجة رابعة.
فإذا ذهب الإقليم مثلا جرّاء زلزال أو احتلال أو تغيير مناخيّ، فسيُدفع النظامُ، في حالة تماسكه، إلى محاولةِ تحيين الإجماع أو دفعِ بعض من أفراد الشعب إلى الموت للدفاع عن الإقليم أو التنازلِ عن بعض من الإقليم.
أما إذا ما وقع خلاف بين السلطتين فسيرتبك النظامُ ويهتز قبل أن يهترئ، وستضطر الدّولة إلى تغييره ولو جزئيا من أجل المحافظة على ذاتها. تغيّير ضروري تتفادى به الدّولة استفحال الفوضى.
سقوط النظام مآل حتميٌّ يُنتهَى إليه أيضا في حالة فناء الشعب أو خلافات حادّة تعصف بوحدته جرّاء كارثة طبيعية أو وبائيّة أو أزمات داخلية.
ولا مبرر للاستغراب اذا ما دفعت الدّولة النظام، قبل عزله، إلى استعمال العنف الشرعي ضد بعض من مكوناتها للهيمنة على الوضع مع بوادر تفشي الفوضى وعجز النظام عن السيطرة عليها بالطرق السلمية.
أما إذا ما حلّت الفوضى يسقط النظام وجوبا وتلجأ الدّولة، بدافع من أنانيتها وطبقا للمسلمات الستة، إلى مخرج أخير حيث أنها ستدعم فيه الفوضى، إلى حد مساندة الحروب الأهلية، لعل الفرقاء يجدون إجماعا إيجابيا يجتمعون حوله قبل أن يتفكك جهازُها، فتزولُ بتفككه الدولة.
فبينما يهتمّ النّظامُ بالعمل على الاستقرار ليستمر، نجد الدّولةَ لا تهتمّ إلا بالاستمرار ولو كان على حساب الاستقرار.
إن المحافظة على الدّولة «الأنانيّة التسلّطيّة»، لها تداعيات على حساب النظام أو الشّعب أو الإجماع أو الإقليم، فأوّل ضحايا الدولة النظامُ ولو نسبيا، بينما أول ضحايا الكوارث والأزمات والحروب الشعب أو الإقليم أو الإجماع.
فالنّظام إذا هو المفتاح الأهمّ في استمرار الدّولة من عدمه، ومن بعده يأتي دور وعي الشّعب فالإجماع فالإقليم كدرجة أخيرة.
فدور النّظام حُسنُ إدارةِ الشّأن العامّ. إدارةٌ تتناغم واحتياجاتِ المكوّنات الأساسية الثلاثة للنّأي بالدّولة عن الفوضى ومن ثمّة إحكامُ السُبل السلمية للاستقرار والاستمرار خاصّة عند حلول الكوارث والأزمات.
فبقدر:
توصّل النّظام إلى استشراف المستقبل،
إمكانيّة تأثيث الأرضيّة السّانحة لاستيعاب تحديات الاستشراف في الزمن المناسب على مستوى البُنَى التحتيّة والعلميّة والثقافيّة والأمنيّة والاقتصاديّة الخ..،
قيمة حجم مخزون الموارد الأساسيّة والمطلوبة للتّخفيف من حدّة وقع الكوارث والأزمات،
الإبداع لإيجاد حلول مطلوبة ومعقولة ومفهومة،
تُحدّد المسافة في تناسب عكسي بين مآل الاستقرار ومآل الفوضى أي بين استمرار الدّولة وموتها.
والأسئلة المحوريّة المحيّرة والخطيرة، التي يجب على كلّ نّظام حلّها، تلك التي تجعله بمنأى عن الفوضى، باعتبار أن الإجابة عنها تخدم استقرار الدّولة واستمرارها ومن ثمّة بقاء النظام من عدمه، نختزلها في نقاط التّوازن الأربعة التالية:
⦁ متى وكيف وإلى أيّ مدى يقبل النّظام التّنازل عن ضمان حقّ الحياة لبعض من شرائح الشّعب، إذا اضطرّ لدفعهم إلى حضيرة الموت؟
⦁ متى وكيف وإلى أيّ مدى يحقّ وربّما يجب على النّظام تعطيل التوافقات المجمع حولها كسحب الحريّة الفرديّة المضمونة في الدّستور مثلا؟
⦁ متى وكيف وإلى أيّ مدى يحقّ للنّظام أن يجاري الفساد فيتنازل عن بعض من العدل حتّى لا تختلّ وحدة الدّولة؟
⦁ كيف تقاس وتُقوَّم الخيارات الآنية لمؤسّساتِ النظام لاستيعاب تبعات الكوارث والأزمات حتى لا تؤول إلى الفوضى؟
وفي ظل هذه الاسئلة ومن أجل الاستقرار والاستمرار، فعلى النّظام، استشراف “نِقاط الانعطاف والتحول” بين مسار المحافظة على الوحدة الترابيّة كإقليم ووحدة الشعب كأمة والنأي عن الهلاك وبين مسار الفوضى، وأن يسعى جاهدا للبحث عن الحلّ الأمثل الذي يمكن تنزيله على أرض الواقع ولو كان ذلك على حساب بعض أفراد الشّعب أو الإقليم، وألاّ يضيع أبدا جهده في البحث المضني عن الطّريقة المثلى إذ أنها لا توجد.
إن الدّولة تتعهد لجهازها “مكوناتها” بضمان ما أدرجته لهم في الدستور من قوانين ما ضمنت هي بقاءها وتوسّعها. وضمان البقاء أو التوسّع لا يتحقّق إلاّ إذا لم يُمَثِّل أحدُ مكوّناتِ الدّولة عائقا أمام هدفها.
فما يهمّ الدولةَ من مكوّناتها الفاعلون الإيجابيّون أيّ المُنتجون منهم أو مشروع منتج فقط، فهؤلاء تُسخّر لهم الحماية والرّعاية وجوبا، إذ أنها بذلك تحمي ذاتها وكينونتها.
ثم يُلْقَى على النّظام عِبْءُ حمايةِ المكوّنات الإيجابية والسّلبية على حد السواء، بموجب عقد معنوي يُضمّن في الدّستور. عقدُ ظاهره طمأنة وباطنه مكر وخبث، لا تلتزم به الدولة عند الكوارث والأزمات، خاصّة تجاه مكوّناتها السّلبيين.
يحفظ التّاريخ أمثلة عدّة عن ذلك، فقد سبق أن تنازلت روسيا عن “ألسكا” وباعتها للولايات المتّحدة بثمن تافه، وتنازلت ماليزيا عن “سنغافورا”، وأباد الغربيّون عندما دخلوا القارّة الأمريكيّة سكّانها الأصليّين، وقتل “ماو تسي تونغ” حوالي 70 مليون صينيّا، وستالين حوالي 60 مليون وهتلر حوالي 40 مليون نسمة.
وفي مقابلِ الدولةِ ككيانٍ أنانيٍّ، نجد الإنسانَ كائنًا أنانيًّا بطبعه أيضا، فحياتُه كفرد أولى من حياة من سواه، ثمّ تأتي بدرجة أقلّ حياةُ من يعوله. وهو يخضع للدّولة قهرا لا اختيارا، لضمان استمراره. فالشعب – إن ثار- فإنه يثور على النظام لا على الدولة.
ولأنّ وحدة القياس الزّمنيّ للفرد وللدّولة مختلفتان، فإنّ الفرد لن يقدّم الدّولة على نفسه ولا على نسله. وللأسف، فإنّه لن ينتبه إلى أنّ في حياة الدّولة واستمرارها حياته وحياة نسله وحياة نسل نسله واستمرارهم.
هذا التباين بين المقياسين يُنتج مجالَ ضغطٍ، يُحدث صراعا أبديا وخفيا بين متطلعات الدولة ومتطلعات الفرد.
معادلة تبدو سهلة للنّظام في حالات الاستقرار، لكنّها تصبح مؤرّقة وصعبة وتكاد تكون طريقا محتوما لسقوط هذا الأخير وطريقا قد ينتهي إلى الفوضى عند الكوارث والأزمات، ممّا قد يُؤدي الى انهيار الدولة.
منار الاسكندراني سياسي و كاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *