تحالف المأزومين: “السراج” – “أردوغان”.. رهانات المعركة الأخيرة ؟ بقلم أحمد عليبة

يعكس لقاء رئيس حكومة الوفاق الليبية “فايز السراج” والرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، في إسطنبول الجمعة الماضية (5 يوليو 2019)، محاولة من الطرفين للخروج من مأزق الأزمات المتوالية التي يواجهانها على الساحة الليبية والساحات الأخرى التي فقدت فيها أنقرة أوراق اللعب في تلك الأزمات. فعلى مستوى مسرح العمليات في طرابلس، كان للزيارة ولجدول الأعمال ومخرجات اللقاء، دلالات عديدة؛ أبرزها: أن التقدم الميداني الذي أحرزته ميليشيات الوفاق في ضوء الهجوم المباغت على “غريان” معزَّزًا بدعم عسكري واستخباري تركي، سُرعان ما تبدد على وقع استعادة الجيش الوطني زمام السيطرة الجوية، وتمكّنه من إسقاط الطائرات دون طيار التركية، وتدمير وحدة التحكم الخاصة بها في مطار معيتيقة، إضافة إلى تمكّنه من اعتراض عدد من المقاتلات التي كان جرى إطلاقها من قاعدة الكلية الجوية في مصراتة، وبالتالي أصبحت هناك حاجة لدى الوفاق لتعويض تلك الخسائر.

أما أنقرة التي تسعى إلى انخراط مباشر في الساحة الليبية في الوقت الراهن، فقد فقدت حلفاء آخرين كان لهم تأثيرهم على الساحة الليبية، منهم النظام السوداني الذي أطاحت به الثورة الشعبية في أبريل الماضي. كما فقدت أنقرة ثقة القوى الأوروبية التي تحولت منذ نوفمبر 2018، في إطار مؤتمر باليرمو، إلى دعم قائد الجيش الليبي المشير “خليفة حفتر” كونه الرجل القوي الذي استطاع فرض النظام والاستقرار على نحو 90% من رقعة البلاد، وأظهرت سياساته ضمان حماية مؤسسات الدولة المدنية، وعدم التدخل في شئونها، وهو ما ظهر في أداء القيادة العامة تجاه مؤسسة النفط. وبالتالي، لم تجد أنقرة لنفسها مقعدًا في باليرمو لدى فشل محاولاتها في إقناع القوى الأوروبية بإقصاء قائد الجيش عن أي دور مؤسسي في ليبيا. كما جاءت العديد من التحركات الدولية، ومنها روسيا (حليفة تركيا في سوريا) والولايات المتحدة إيجابية تجاه الجيش، وهو ما ظهرت مؤشراته أيضًا في العديد من المواقف، لا سيما محاولات اتخاذ قرارات مناهضة للجيش في مجلس الأمن.

رهانات تحالف “السراج – أردوغان”

في هذا السياق، من المتصور أن الطرفين “السراج – أردوغان” لم يعد لديهما إسناد من القوى الدولية والإقليمية، باستثناء الدعم المادي القطري الذي يمر عبر المؤسسات المشتركة “التركية – القطرية” والجمعيات الخيرية. وأصبح توجه هذا التحالف هو الرهان على المعركة الأخيرة في طرابلس. وبالتالي هناك سيناريوهان مرجحان في هذا الصدد.

1- سيناريو الاستنزاف

لا يراهن تحالف “السراج – أردوغان” على كسب معركة طرابلس لصعوبة حسم المعركة لصالحهما، وإنما يسعيان إلى تحويلها إلى معركة استنزاف لقدرات الجيش الليبي، والحيلولة دون وصوله إلى قلب العاصمة، بهدف إبقاء “الوفاق” في المشهد، وإثباث عدم قدرة الجيش -من جانب آخر- على حسم المعركة عسكريًّا، وهو رهان محدود، نظرًا لأن الجيش يعتبر هذه المعركة معركة “وطنية”، وأثبت في أعقاب خسارة غريان أن خسارة جولة لا يعني خسارة المعركة، وأن لديه القدرة على إحباط محاولات الخصم في تغيير توازنات المعركة، وهو ما جرى بالفعل، حيث تم إسقاط 3 طائرات تركية بدون طيار من إجمالي أربع طائرات حصلت عليها “الوفاق” من تركيا، إضافة إلى تدمير قاعدة التحكم فيها التي يشغلها خبراء أتراك، بالإضافة إلى اعتراض 6 مقاتلات جوية كانت تنطلق من قاعدة الكلية الجوية في مصراتة الموالية للوفاق.

2- سيناريو الفوضى الشاملة

وفق هذا السيناريو، قد تلجأ تركيا إلى أدواتها وخبراتها في إشعال الصراعات الإقليمية على نحو ما يجري في إدلب في سوريا حاليًّا، وبالتالي قد تحاول أنقرة إعادة هندسة تموضعها على الساحة كطرف في معادلة الصراع، بتحويل معركة طرابلس إلى ورقة مساومة في مواجهة القوى الإقليمية التي تهدف إلى إعادة الاستقرار، لا سيما دول الجوار كمصر التي تكبدت تداعيات الفوضى والعنف التي عمت البلاد على مدار أكثر من 8 سنوات على حدودها الغربية، خاصة أن إحدى أبرز الأدوات التركية في هذا السياق يعتمد على إعادة إنتاج بيئة حاضنة للإرهاب ونقل الميليشيات المتطرفة إلى ليبيا. وليس مصادفةً محاولة تنظيم “داعش” الظهور على مسرح الأحداث في الجنوب الليبي بعد أن طُرد في معركة سرت.

تطور أدوات الانخراط التركي في ليبيا

في سياق رهانات تحالف “السراج – أردوغان” في ليبيا، لا يبدو أن أدوات هذا التحالف جديدة، بالنظر إلى متلازمة الدور التركي في ليبيا منذ تفجر الصراع عام 2011. ففي بداية الانتفاضة المسلحة، كان هناك حضور تركي في إطار عمليات الناتو، تلاه دعم محدد لميليشيات مسلحة موالية لتركيا. ولم يختلف مسار هذا الدعم مع إطلاق عملية “طوفان الكرامة” مطلع أبريل 2019، لكن اختلف حجمه ونوعه على النحو التالي:

1- نقل المجموعات الإرهابية إلى ليبيا

وهو ما ألمح إليه الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” دون الإشارة الصريحة إلى تركيا في حديثه في روما قبل لقاء “أردوغان – السراج” بيوم واحد. حيث كرر “بوتين” تحذيره مجددًا من خطورة تدفق المسلحين من إدلب إلى ليبيا. ولم يكن هذا التحذير عرضيًّا، إذ جاء في سياق حديث “بوتين” عن مآلات الأوضاع في إدلب، وارتباط ذلك بمشروع التسوية المتعثر على خلفية عدم وفاء تركيا باستحقاقات اتفاق سوتشي (سبتمبر 2018) الخاص بإنهاء دور الميليشيات المتطرفة في إدلب.

في السياق ذاته، وفي أعقاب تحذيرات “بوتين”، كشف تحقيق لشبكة “سكاي نيوز” عن وقوف أمير الجماعة الليبية المقاتلة المرتبطة بتنظيم “القاعدة” “عبدالحكيم بلحاج” على شبكة نقل مجموعات من الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا عبر تركيا. كما أن شركة “الأجنحة” الليبية التي أسسها “بلحاج” في تركيا -ضمن شركات غسيل ونقل وتهريب أموال ليبية واسعة النطاق إلى تركيا- قامت على تنفيذ العديد من الرحلات في إطار تنفيذ تلك المهمة. وفي 20 مايو 2019، كشف أحد ضباط العمليات في البحرية الليبية العقيد “أبوبكر البدري” أن الباخرة التركية “أمازون” التي رست قبل ذلك التاريخ بأيام في ميناء طرابلس، كانت تحمل أعدادًا كبيرة من الإرهابيين، بمن فيهم عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي.

ولم يكن من قبيل المصادفة أيضًا تصاعد العمليات الإرهابية لداعش في ليبيا، والتي تلت خطاب زعيم التنظيم “أبو بكر البغدادي” الذي تم تسجيله على الأرجح في أبريل الماضي، والذي توازى مع إطلاق عملية “طوفان الكرامة”، حيث أشاد “البغدادي” في خطابه بعملية “الفقهاء” الإرهابية التي شنها عناصر موالون للتنظيم. كما كان لافتًا -في السياق ذاته- توصية “البغدادي” أتباعه في ليبيا بأن معركتهم القادمة هي معركة استنزاف “الأعداء” في مقدراتهم وقدراتهم البشرية. وتوّج التنظيم هذا الحضور ببث فيديو في 6 يوليو 2019، جدد فيه البيعة لزعيم التنظيم “أبو بكر البغدادي” من منطقة يُعتقد أنها جنوب البلاد، متوعدًا الجيش الليبي فقط دون غيره.

ومن المتصور أن إتاحة بيئة من الفوضى لتمدد “داعش” في ظل إشعال الصراع على طرابلس يصب تكتيكيًّا في صالح تركيا وحلفائها في ليبيا، حتى وإن لم يكن “داعش” في نفس المعسكر الأيديولوجي للتنظيمات المنضوية تحت راية “الوفاق”، لكن من المتصور أن المصلحة المشتركة في استنزاف الجيش ومحاولة فتح جبهات جديدة للمعارك تجمع بين الطرفين.

2- نقل الأسلحة النوعية

بحسب تقارير أوروبية رسمية، ومنها تقارير المجلس الأوروبي للشئون الخارجية ECFR، من المرجح أن عمليات تدفق الأسلحة من تركيا إلى ليبيا خلال الفترة السابقة على إطلاق عملية “طوفان الكرامة” كانت تعتمد على دور لوجستي لتركيا فقط، حيث كانت أنقرة تسهل لقادة الجماعات المسلحة التي تتخذ من إسطنبول مقرًّا لها (ومن أبرزهم عبدالكريم بلحاج) إبرام صفقات تسلح وإرسالها إلى الميليشيات في ليبيا عبر الموانئ والسفن التركية. وكان يتم تجميع شحنات الأسلحة من دول أوروبا الشرقية، ولا تقتصر على تركيا وحدها، وهو ما دعمته أيضًا تقارير مجموعة الأسلحة الصغيرة في جنيف التي تقطع بأن الأسلحة التركية “الخفيفة والمتوسطة” كانت هي الأكثر انتشارًا لدى الجماعات المسلحة الليبية والأكثر رواجًا بشكل عام في ليبيا في مرحلة الفوضى التي شهدتها البلاد في أعقاب سقوط النظام السابق.

وبحسب تقرير “الحرب الأهلية العالمية في ليبيا” Libya’s global civil war الصادر عن المجلس الأوروبي؛ فإن حكومة “أردوغان” اتخذت إجراءات أكثر قوة لمعارضة تقدم الجيش الوطني إلى طرابلس، مشيرة إلى تصريح “أردوغان” أن “تركيا ستحشد كل الموارد المتاحة لإحباط أولئك الذين يريدون تحويل ليبيا إلى سوريا جديدة”. وقد بدأت أولى تلك الخطوات مع زيارة قام بها وزير داخلية الوفاق “فتحي باشاغا” إلى إسطنبول لمناقشة التعاون الدفاعي بين ليبيا وتركيا، وهو الأمر ذاته الذي جرى بحثه في لقاء “السراج – أردوغان” الأخير.

وقد أثمر التعاون المشترك بين الطرفين عن توفير إمدادات عسكرية ثقيلة ونوعية لميليشيات الوفاق، بدأ الكشف عنها مع إعلان قائد ميليشيا “لواء الصمود” “صلاح بادي”، في 21 أبريل الماضي، عن وصول شحنة أسلحة تركية على متن السفينة أمازون، ما سيكون له أثر في تغير الموازين في المعركة، على حد قوله. وقد شملت تلك الشحنة 40 ناقلة مدرعة من طراز كيربي، إلى جانب عدد غير محدد من الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات وبنادق قنص ورشاشات. وبخلاف الشحنات السابقة التي كان يتم تجميعها من مختلف البلدان الأوروبية؛ فإن الأسلحة التي يتم توريدها حاليًّا تركية المنشأ، حيث يعود أغلبها إلى شركة “BMC” (التركية-القطرية).

في نهاية مايو، بدأت تظهر أسلحة نوعية تركية أخرى لدعم الميليشيات، فقد أُعلن عن وصول طائرة شحن تركية من طراز C130 على متنها فريق خبراء من الأتراك، مع غرفة عمليات متكاملة إلى مطار مصراتة، تبعها وصول طائرة تركية أخرى من طراز “أنتينوف” تابعة لشركة أوكرانية قادمة من أنقرة أيضًا وعلى متنها طائرات بدون طيار تم تجميعها وتسليحها في مصراتة، وتم استخدامها على الفور في مهام تجسسية لاستكشاف ورصد طبيعة الانتشار والتمركزات العسكرية للجيش الوطني الليبي.

كما رصد موقع “Flight radar” المتخصص في الرصد الجوي، وصول طائرة شحن أوكرانية إلى طرابلس قادمة من مطار أنقرة إلى غرب ليبيا بعد يومين من لقاء “السراج – أردوغان”. ورجحت العديد من التقارير أن الطائرة -الثانية من نوعها في غضون شهرين تقريبًا- تحمل شحنات أسلحة وذخائر تركية، وربما شحنة الطائرات دون طيار التي تم الاتفاق عليها خلال لقاء إسطنبول.

3- خلق أبعاد جديدة في الصراع

ومن ذلك خلق ثأريات مناطقية وجهوية لتعزيز الصراع، وشراء ولاءات بعض الميليشيات المتأرجحة في موقفها تجاه المعركة. فوفقًا للعديد من التقارير الأوروبية التي تتوافق ضمنيًّا مع تقارير الجيش الوطني الليبي، فإن تركيا كان لها دور القيادة الهجومية على مواقع الجيش، لا سيما عملية “غريان”، وهي العملية التي خلقت حالة من الثأر الداخلي بين بنغازي وطرابلس، حيث كان أغلب ضحايا الهجوم من أبناء بنغازي. كما أحبطت تلك العملية أيضًا محاولة العودة إلى المسار السياسي في ظل المبادرات التي كان الطرفان قد تقدما بها عبر الوسيط الأممي.

وكشفت مصادر عسكرية ليبية أيضًا، وفق تقرير لـ”بوابة إفريقيا الإخبارية”، حول تطورات غريان، عن أن “غريان لم تسقط نتيجة معركة، ولكن للثقة العمياء في تعهدات الميليشيات وأعيان المنطقة وخيانتهم للعهد”. وقالت المصادر ذاتها، إن “القوات المسلحة احترمت المدينة، ولم يسقط بها أي شخص، ولم يتم تمشيط المدينة بناء على الاتفاق، ولكن أموال الإخوان وحكومة الوفاق هي من جندت الميليشيات والعصابات، وأغرت الشباب على الانتفاض ضد الغرفة، وكان لزامًا الانسحاب منها”.

في المحصلة الأخيره، يراهن تحالف “السراج – أردوغان” على إعاقة وصول الجيش الليبي إلى العاصمة لإنهاء سطوة الميليشيات التي تهيمن على المجال العام في العاصمة وعلى مقدرات البلاد، وهو الوضع المثالي لتركيا التي تراهن على حكومة موالية تؤمّن لها صفقات بمليارات الدولارات في عقود النفط والغاز ومشروعات إعادة الإعمار، لذا تعتبر سقوط هذه الحكومة بمثابة معركتها الأخيرة التي عليها أن تكسبها، أو ألّا تتيح لغيرها كسبها إن خسرتها. وتعتمد تركيا في ذلك مرحليًّا على مضاعفة أدوات الفوضى في البلاد، الأمر الذي يثير الكثير من علامات الاستفهام حول موقف القوى الدولية المعنية بالشأن الليبي، وغض الطرف عن الدعم العسكري المباشر لميليشيات الوفاق المحظور بقرارات أممية، واكتفاء بعثة المراقبة برصد تلك الانتهاكات دون اتخاذ إجراءات محددة لوقفها أو الحد منها. كما يواجه الجيش الليبي في المرحلة الحالية معركة متعددة الجبهات، على الرغم من إظهار استعداده لمواجهتها، حيث يواجه التدخل العسكري التركي في المعركة بأدواته المختلفة، وإعادة توطن تنظيم “داعش” في الجنوب، بالإضافة إلى معركته الأصلية في مواجهة ميليشيات “الوفاق” في طرابلس وخطوط إمدادها في مصراتة.

المركز المصري للفكر و الدراسات الاستراتيجية 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *