تحالفات الإسلاميين: تحولات في السلوك السياسي أم ضرورات المرحلة؟ .. بقلم كمال بن يونس

إسلاميو تونس.. تراكم تجارب أم براغماتية دون أسس فكرية؟

تحالفات الإسلاميين: تحولات في السلوك السياسي أم ضرورات المرحلة؟ .. بقلم كمال بن يونس

لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية ،واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيدولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.

لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الانتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.

اليوم قراءة جديدة في تجربة الإسلاميين في تونس أعدها خصيصا لـ “عربي21” الكاتب والإعلامي التونسي كمال بن يونس:

مشاركة الإسلاميين: تراكم تجارب وقناعات أم براغماتية دون أسس فكرية؟

تراوحت سياسات الحكم وصناعة القرار في تونس منذ عهد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة مؤسس الدولة الحديثة بين السماح للإسلاميين بالمشاركة في الحياة السياسية واستبعادهم .

وتراوح خطاب الإسلاميين التونسيين بين قبول المشاركة مع خصومهم السياسيين في الشأن العام والنزوع نحو القطيعة والصدام ، لمبررات دينية عقائدية حينا ولأسباب سياسية حينا آخر.

لكن التيار السائد داخل قيادات حركة “النهضة” وانصار الاتجاه الإسلامي التونسي عموما تبنى منذ ثورة كانون ثاني/يناير 2011 خيار المشاركة والتوافق مما مكّنه من أن يجنب نشطاء الحركة الإقصاء والقمع ومكّن عددا منهم من تولي مناصب عليا في الإدارة والدولة والمجتمع المدني ووسائل الإعلام .

فهل ساهمت هذه المشاركة السياسية في تطوير خطاب الإسلاميين التونسيين؟ وما هي انعكاسات هذه المشاركة إقليميا؟

تكشف الكتب والدراسات والمقالات والحوارات الصحفية الصادرة عن قياديين بارزين في حركة النهضة التونسية، مثل رئيسها راشد الغنوشي ونائبه عبد الفتاح مورو ورئيسي حكومتها عامي 2012 و2013 حمادي الجبالي وعلي العريض ورئيس كتلتها البرلمانية نور الدين البحيري ، خطابا سياسيا يدافع بقوة عن خيار الانتقال الديمقراطي السلمي وعن التعددية ومشاركة الإسلاميين منافسيهم العلمانيين الشأن العام عموما وشؤون الحكم خاصة .

مبررات شرعية وأصولية

وقد حاول خطاب بعض زعماء التيار الإسلامي التونسي تقديم مبررات شرعية وفقهية وفكرية فلسفية تؤصل مواقفهم من المشاركة السياسية والتوافق مع غير الإسلاميين والتصالح مع المجتمع، والقطع مع الخطاب الذي ساد الجماعات الإسلامية سابقا، تحت تأثير كتابات سيد قطب ومحمد قطب وغيرهما من رموز الإخوان المسلمين، الذين وصفوا مخالفيهم والمجتمع بالجاهلية والكفر والضلال.

لكن هذا التطور النوعي سياسيا لم يقترن بصدور كتب ودراسات فكرية وعلمية معمقة تنتقد بوضوح مرجعيات المدرسة الاخوانية وخاصة كتب رمزية مثل “جاهلية القرن العشرين” لمحمد قطب أو “معالم في الطريق” لسيد قطب.

في المقابل تميزت تونس منذ نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينات بصدور مقالات ودراسات وكتيبات ومجلات وصفت الفكر السلفي بـ”العقم”، ودعت إلى القطيعة مع مرجعيات الخطاب الإسلامي التقليدي الإقصائية، وإلى خوض جهاد المعاصرة والانتصار للعقلانية .

الإسلاميون التقدميون

وفي هذا السياق لعب تيار الإسلاميين التقدميين بزعامة احميدة النيفير وصلاح الدين الجورشي، ثم ساهم الجامعيون والمثقفون الإسلاميون المستقلون والمستقيلون من الجماعة الإسلامية وحركة الاتجاه الإسلامي ثم من حركة النهضة في إثراء الحوار الإسلامي ـ الإسلامي والإسلامي ـ التعددي الوطني .

وساهمت شخصيات قيادية مركزية في دعم هذا الحوار والانفتاح بينها راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو والزعماء المؤسسون للاتجاه الإسلامي في الحركة الطلابية منذ موفى السبعينيات ومطلع الثمانينيات.

وأثّر انضمام مئات الشباب وطلبة كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلى التيار الإسلامي الاحتجاجي على الحكم، في ترفيع منسوب انفتاح الإسلاميين على مشاركة الخصوم الأيديولوجيين والسياسيين وعلى مرجعياتهم الفكرية وكتبهم ودراساتهم .

انفتاح فرضه الصراع مع الآخر

وقد استفاد الإسلاميون في تونس مبكرا من الصراعات مع معارضيهم العلمانيين في الحكم وفي المعارضة، داخل الجامعات وفي كامل البلاد ، فانخرطوا في مسارين متوازيين من المشاركات السياسية :

ـ في الجامعات والنقابات تصالح الإسلاميون مبكرا مع منافسيهم اليساريين والليبيراليين، فدخلوا معهم في صراعات فكرية سياسية وفتحوا معهم حوارات أثرت خطاب كل الأطراف السياسية التونسية لاحقا. وكانت الحصيلة مشاركة الطلبة الإسلاميين في الانتخابات الجامعية وفي تسيير مجالس الكليات وهيئات المدارس العليا ومشاركة الخصوم الشيوعيين والاشتراكيين والقوميين والليبراليين خدمة الطلاب وتحسين أوضاعهم والنضالات السياسية.

ـ داخل البلاد استفاد الإسلاميون منذ مُوفّى السبعينيات من بروز معارضة نقابية وأخرى سياسية ليبيرالية ويسارية معتدلة لحكم الرئيس الحبيب بورقيبة .

وأسفرت الحوارات بين قيادات الحركة الإسلامية ووزراء ومسؤولين سابقين في حزب بورقيبة انشقوا عنه، بزعامة رئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين أحمد المستيري ونائبه محمد مواعدة والرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي، عن تشكيل تحالفات سياسية، وعن تأسيس أول هيئة لحزب سياسي إسلامي مدني طلب تأشيرة عمل قانونية في يونيو/ حزيران 1981.

ورغم عدم اعتراف السلطات بذلك الحزب، “حزب حركة الاتجاه الإسلامي”، والزج بقياداته في السجن لمدة 3 أعوام، فقد شاركت الحركة وأنصارها في الانتخابات البرلمانية التعددية الأولى التي نظمت في تشرين أول/أكتوبر 1981، ودعمت القائمات الخضراء التابعة للحزب الليبرالي الوسطي حركة الديمقراطيين الاشتراكيين .

ورغم تزييف نتائج الانتخابات، فقد مكنت العملية الانتخابية النشطاء الديمقراطيين العلمانيين والإسلاميين من خوض أول تجربة للمشاركة في الشأن العام وفي الحياة السياسية التي كان الحزب الحاكم يحتكرها منذ إعلان استقلال تونس عن فرنسا في آذار/ مارس 1956.

خطابا المشاركة والقطيعة

وبعد سقوط حكم الرئيس الحبيب بورقيبة في موفى 1987، خاض النشطاء السياسيون الإسلاميون تجارب متناقضة، طور بعضها خطاب المشاركة السياسية وساد بعضها الاخر خطاب القطيعة والصدام ردا على حملات القمع والإقصاء ومحاولات الاستئصال.

كانت الأعوام الثلاثة الأولى من حكم بن علي أعوام انفراج سياسي في علاقة السلطات بالإسلاميين، كان لديهم فيها حضور إعلامي قوى وشاركوا خلالها في الانتخابات البرلمانية في نيسان/إبريل 1989 ضمن قائمات مستقلة بنفسجية اللون ترشحت في كل المحافظات، ونجحوا في تنظيم مئات الاجتماعات السياسية والانتخابية العلنية، روجوا خلالها خطابا يدعو الى التوافق والمشاركة السياسية السلمية .

ووقعت الحركة في موفى 1988، عبر القيادي نور الدين البحيري، على وثيقة الميثاق الوطني في موكب رسمي في قصر الرئاسة في قرطاج برئاسة بن علي زعيم الحزب الحاكم ومشاركة الأحزاب اليسارية والليبراليية المعارضة.

لكن المنعرج الأمني في علاقة الإسلاميين بالسلطة ما بين مطلع التسعينات واندلاع ثورات الربيع العربي في 2011، أعاد الخطاب السياسي لحركة النهضة الإسلامية، نحو مربع القطيعة والصدام ردا على حملات القمع .

انفتاح على اليسار

في المقابل انفتح خطاب نشطاء التيار الإسلامي السياسي على التيارات العلمانية المعارضة بعد انتخابات 1999 وخاصة بعد تشكل جبهة 18 أكتوبر للحريات في 2005، بزعامة نشطاء من اليسار الاشتراكي والقومي مثل المحامي احمد نجيب الشابي زعيم الحزب الديمقراطي التقدمي وحمة الهمامي زعيم الحزب العمالي الشيوعي وحقوقيين إسلاميين وقوميين بينهم ثلة من المحامين مثل محمد النوري وسمير ديلو والعياشي الهمامي وعبد الرؤوف العيادي والعياشي الهمامي .

وقد طورت تلك الجبهة خطابا فكريا سياسيا شاملا للشراكة في تسيير شؤون البلاد بين أطراف تختلف عقائديا، عندما صاغت وثائق فكرية سياسية معمقة حول عدد من القضايا الخلافية، بمشاركة رموز لعبت دورا كبيرا بعد ثورة 2011 بينهم قياديون في حركة النهضة وحزب التكتل الديمقراطي بزعامة الطبيب مصطفى بن جعفر، الذي ترأس البرلمان الانتقالي التأسيسي ما بين 2011 موفى ومطلع 2014.

وصدرت في الأثناء مراسلات بين قياديين في حركة النهضة، بينهم رئيسها، ورموز الحزب الحاكم، مثل السفير كمال مرجان (وزير الدفاع والخارجية لاحقا) ومع الرئيس زين العابدين بن علي، خاصة في 2008، للبرهنة على استعداد الإسلاميين للمشاركة في الشأن العام والحياة السياسية، على غرار نظرائهم المحسوبين على تيار الإخوان المسلمين في الجزائر وليبيا وسوريا ومصر واليمن .

أرضية جاهزة

بعد ثورة يناير 2011 وانفجار ثورات الربيع العربي، كانت الأرضية جاهزة للشراكات السياسية بين الإسلاميين والعلمانيين بمختلف مدارسهم .

وقد شارك قياديون إسلاميون في البرلمان الانتقالي الأول عام 2011 بعدد صغير من النواب، ثم في البرلمان والحكومة اللتين أفرزتهما انتخابات 23 أكتوبر 2011.

وكان من بين إضافات التجربتين القبول بالمشاركة والتخلي عن عقلية الوراثة والانفراد بالمؤسسات رغم فوز مرشحي الحركة بالمرتبة الأولى .

نفس هذا التمشي تواصل بعد المنعرجات الأمنية والعسكرية في بقية دول الربيع العربي. فقد تنازل الإسلاميون عن رئاسة الحكومة والدولة والبرلمان وعن أغلب الحقائب الوزارية مقابل المحافظة على مكسب المشاركة في الحياة السياسية والشأن العام عبر البرلمان والمواقع الإدارية والمجالس البلدية ..الخ

الانعكاسات على الإقليم

كيف انعكست سلوكيات الإسلاميين التونسيين على محيطهم الإقليمي؟

رفيق عبدالسلام وزير الخارجية التونسي السابق ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية يعتبر أن خطاب حركة النهضة يلعب دورا معدلا للخطاب السياسي والإسلامي في تونس وكامل المنطقة. لكنه يقر بخصوصية كل تجربة وخطابات كل حزب له مرجعية إسلامية في الدول المغاربية والعربية .

محللون آخرون يؤكدون على تأثير التعقيدات الأمنية والعسكرية سلبا على خطاب الحركات والأحزاب الإسلامية السياسية في بقية بلدان الربيع العربي التي انتكست أمنيا وعسكريا .

وفي كل الحالات تثبت أدبيات كثير من الساسة والزعماء الإسلاميين الليبيين والجزائريين، خاصة أنصار التيار المحسوب على الإخوان المسلمين بزعامة محمد صوان في ليبيا وعبد الرزاق المقري وأبو جرة سلطاني في الجزائر، تفاعلا إيجابيا مع براغماتية الخطاب الإسلامي التونسي وقيادات حركة النهضة .

لكن السؤال الكبير يظل في تونس وبقية دول المنطقة: هل نجح دعاة المشاركة والاعتدال والبراغماتية في إقناع أنصارهم بالأسس الفكرية والمرجعيات الإسلامية التي تبرر خياراتهم، أم يكون السلفيون المتشددون و”الصقور” أول المستفيدين سلبا من إخفاقات دعاة الخطاب الإسلامي المعتدل ومن استفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية محليا وإقليميا؟

 

العربي 21 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *