النهضة وإعادة أخطاء الماضي.. “من تعجّل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”

لطفي الحيدوري

 

Résultat de recherche d'images pour "‫لطفي الحيدوري‬‎"

تقف حركة النهضة اليوم في مقام لا تحسد عليه ينقسم الرأي العام حوله، داخلها وخارجها، في تقييم هذا الوضع، سلبيا وإيجابيا.

وتبدو حركة النهضة وكأنّها تملك مفاتيح الخروج من الأزمة السياسية التي دخلتها تونس منذ حوالي ستة أشهر، ويدفع الشعور بموقع القوة هذا أنصارها وجزءا من قياداتها إلى الانتشاء به، خاصة وقد استعاد الحزب مكانته الأولى انتخابيا خلال الانتخابات البلدية في ماي 2018، وكذلك في توقعات نتائج سبر الآراء الصادرة مؤخرا، ولذلك بدت الفرصة مواتية لاستعراض القوة واختبارها وكانت أوّل مناسبة هي الاعتراض على النقطة 64 من وثيقة “قرطاج 2”.

فالنهضة أيضا، إضافة إلى موقع الفاعل الرئيس، هي في موقع المعطّل للقرار الحاسم بخصوص فك النزاع على رأس الحكومة وإنهاء التجاذب بين القصر والقصبة وكذلك بين الشاهد وجزء نافذ من قيادة حزبه، من وجهة نظر كثير من المتابعين.

وتتمسك حركة النهضة بخيار “الاستقرار الحكومي” لتبرير موقفها وتسويقه للرأي العام، وهو خيار قد لا يصمد طويلا في وجه التعطيل الإداري والدستوري والحراك النقابي والاحتجاجي.

المعركة الحالية هي معركة حزبية تنظيمية بالأساس، داخل حزب يمسك بالرئاسات الثلاث ويتحكم في جميع مفاصل الإدارة خاصة بالتعيينات التي يشتكي أغلب النهضويين على مواقع التواصل الاجتماعي أنّهم مستبعدون منها رغم حيازتهم أغلبية البرلمان ومساندتهم الكبيرة للشاهد، أو أنّها تعيينات يستفيد منها أشخاص “معادون” للنهضة، بل إنّ رئيس الحكومة نفسه عطّل في عدة مناسبات قرارات تعيين اتخذها بعض وزراء النهضة على رأس مؤسسات عمومية ودواوين كبرى، كما أنّ بعض الوزارات واصلت نسق أسلافها بعد 2014 في استبعاد المقربين من النهضة وأبنائها. عدم رضى في الأداء والتعيينات يلتقي فيه جزء من النهضويين مع موقف شق النداء الرافض لرئيس الحكومة الحالي.

حزب يعالج أزمة لا تعنيه
فهل حشرت النهضة نفسها في أزمة لا تعنيها، لتضع نفسها في موقع معالجة أزمة خارجها، وخارج اهتمامات المواطن التونسي نفسه؟ أم أنّ النهضة لم تكن تتوقع أن تجد نفسها وحيدة في مساندة الحكومة، فاحتمى الشاهد بهذا “الفيتو” ووجد فيه الأمان، فمضى واثقا بالبقاء متحديا حزبه؟

وبالفعل، لم يكن يدور بخلد المتابعين لأطوار حوارات “قصر قرطاج” أن ترفع النهضة شعار “لا” المحصّن ليوسف الشاهد. فقد سارت الأمور بسلاسة قبل سنتين في حالة الحبيب الصيد.

فهل كان قرارا غير مدروس، أم من قبيل الاستفادة من موقع القوة التي استعيدت بتفكك الحزب المنافس والتأييد الكبير في البلديات؟

يبدو، أنّ كلا الأمرين صحيح إلى حدّ ما. فدعوة النهضة لحزب نداء تونس أن يتوجه إلى البرلمان لإسقاط حكومة الشاهد، هي في الوقت الحالي من قبيل التلذذ بضعف الحزب الحاكم العاجز عن تنفيذ تلك الخطوة. وهي أيضا من قبيل التخويف من أنّ جلسة البرلمان لن تكون سهلة ومغامرة مجهولة العواقب قد ترتدّ على نداء تونس بضربة قاضية في صورة الفشل في تمرير قرار سحب الثقة. ولا تكون خلفية هذه الدعوة إلاّ ممتلئة بالشعور بامتلاك الأغلبية أو على الأقل قصور الآخر عن بلوغها، وهو ما قد يراه شريك التوافق “تنكيلا” به، وذلك ما يفسّر كثيرا من التصريحات المتشنجة من قيادات النداء تجاه النهضة.

أمّا عامل القرار غير المدروس فقد تفسّره التصريحات الموصوفة بـ”المنفلتة” لقيادات بارزة داخل النهضة، التي لا ترى معنى لمعيار “الاستقرار الحكومي” في وقت تحتاج فيه البلاد إلى “الاستقرار السياسي”، وهنا يبرز التناقض في موقف حزب ضحّى بحكومتين من أجل “الاستقرار السياسي” والأمن القومي للبلاد.

دروس الماضي
كانت أخطاء الحركة الإسلامية في تونس التي ضيّعت كثيرا من الوقت، من أعمار الناس ومن فرص تاريخية للبلاد، ثمرة قرارات مدروسة كانت من قبيل الاستدراج والتفلت.

وكان التعجل وتضخيم الإمكانيات الحقيقية للحركة وللشعب والتوهين من إمكانيات الخصم وعدم رعاية الواقع المحلي والدولي، وبالا على البلاد طيلة عشريتين استثمر خلالهما نظام الاستبداد أخطاء قاتلة ارتكبها أهم طرف سياسي في البلاد وهو النهضة بعد انتخابات سنة 1989 التي كشف حجم التعبئة لها قوة استعراضية “مخيفة” لتنظيم خرج لتوّه من سجون بورقيبة.

وورد في وثائق تقييمية، منشورة، لحركة النهضة الوصف الآتي: “كان جسم الحركة أكبر من رأسها، أي مؤسساتها القيادية فعجزت عن التحكم في مسار الأحداث”. كما أكّدت أنّ المعطيات الموضوعية لم تكن تسمح بالتفكير في تغيير الأوضاع.. “إنّها العجلة والاندفاع وبادي الرأي أو الرأي الفطير أو قل سكرة العواطف ورد الفعل لاستفزازات الخصم”.

ورغم مضيّ نحو عقدين عن صدور ذلك التقييم وخاصة ما جاء فيه من أنّه “ينبغي للحركة أن تحرص على أن تكون معاركها غير حزبية لا تهمّ فئة محدودة من الناس، وإنّما هي معارك الوطن والقطاع الأوسع من الناس”، تسير الأمور اليوم وكأنّها ليّ ذراع واصطفاف واستباق للمواجهة الانتخابية المقبلة بإنهاك الخصم.. مقابل ماذا؟ مقابل مساندة حكومة لا حزام سياسيا حولها، بل محورها “فرد” منفلت من عقال الحزب الذي صنعه، يأخذ أكثر ممّا يعطي ويمضي نحو تعزيز شرعيته بغطاء داخلي وضمانات خارجية.

ولكن لا ضامن لأن ينقلب على داعميه الجدد، إن استتبّ له الأمر بشرعية جديدة، ويكون في ذلك الوقت قد مضى في تحقيق انتصارات تصنع المجد، مجد الفرد الذي أطاح بالأحزاب التي تدحرجت صورتها لدى الرأي العام وفقدت جاذبيتها، فنكون إزاء صناعة “دكتاتور ناشئ” يطمئن الجمهور الواسع الذي أصبحت الأحزاب مبعث قلقه، وتستعاد أخطاء الماضي “البغيض” الذي لا يزال “وسواسا” وهاجسا، مشروعا، ينذر بالعودة في سنوات الثورة الهشة الأولى. وحينئذ لن تتوجه أصابع تحميل المسؤولية سوى إلى حركة النهضة، مثلما حمّلها الرأي العام من قبل، مسؤولية التضحية بحقوق الإنسان والديمقراطية وحتى بقيم الهوية عندما أقدمت على التخطيط لمواجهة غير مدروسة من أجل الحريات.. هدف نبيل دفعت تونس من أجله ثمنا باهظا من أبناء شعبها وثرواتها ومن تاريخها وسمعتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *