الممارسة السياسية بين زمن الإستبداد ومرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية … بقلم محمد العربي العياري

من بديهيات القول أننا نعيش موجة جديدة ومختلفة تماما من الممارسة السياسية على مستوى شكل السلطة وشروط وجودها , لكننا نمر بمرحلة من زعزعة يقينيات الثقافة السياسية والمشاركة وذلك تحت نير تاريخ مثقل بالإستبداد والعسف القانوني من جهة , ومن جهة أخرى عجز الفاعل السياسي في مرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية على تقديم البديل المرتقب في جانب تحقيق مطالب مرحلة القطيعة بين نظام الإستبداد ومرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية .لذلك لم يسدل الستار بعد على مرحلة التقييم والمراجعة من أجل تعديل شروط العملية السياسية في بعدها التنظيمي ممارسة وبعدها التأطيري نظريا .

الفاعل السياسي في تونس بين أزماته الداخلية وصراعات التموقع  .. بقلم محمد العربي العياري

فمن المرجح أن تطرح التساؤلات والمقاربات المغايرة لخط سير العملية السياسية برمتها بحثا على حل الإشكالية القائمة والمتمثلة في إختلاف بل وتعارض مخرجات مرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية مع شعاراتها المركزية .

لحل هذا التناقض وجدنا في الذهنية السائدة لدي الفاعل السياسي من جهة والمعنيين بالديمقراطية أفرادا وجماعات من جهة ثانية , مانعتبره ملخصا لحالة العطالة الديمقراطية

والسير الأعرج للمسار نحو ترسيخ ديمقراطية فعلية .لذلك نعتبر أن حل المشكل يمر عبر تفكيك الأسباب وطرح أضدادها كحلول ممكنة ولو بالتعديل المنهجي والعملي على مستوى التكتيك والإستراتيجيا .

إذا أسباب هذا التناقض تلخص في عنوانين وهما : غياب الثقافة السياسية الديمقراطية وإستمرارية الثقافة السلطوية .

أولا : غياب الثقافة السياسية الديمقراطية

لايمكن الحديث عن السياسة كممارسة دون ربطها بالشرط القانوني والفكري , فالممارسة السياسية تعني الاهتمام بالشأن العام والعمل على خلق البدائل والتحقق من شرط إمكان تفعيلها على أرض الواقع .هذا التحقق يتطلب الإنفتاح على زاوية أخرى من التفكير والتي تعبر عن المختلف والمعارض بمفردات السياسة .أما عن واقع الحال فإن هذا المختلف كان ضحية لإختلافه المرفوض من دولة الإستبداد.

فالأكيد أن دولة الإستبداد ألقت بضلالها الحاجبة لكل نفس ديمقراطي ولم تسمح بتعزيز المشاركة الديمقراطية لا على المستوى الفكري ولا على مستوى المشاركة .بل سيطر النسق الفكري الواحد الذي كثف الممارسة السياسية في عناوين الرأي الواحد والحزب الواحد , وخنق إمكانات المشاركة ولو بالتأييد الضمني لخياراته حتى غدت كل أطروحاته متعارضة مع المزاج الفكري العام وتطلعات الشعب الباحث على إمكانات أخرى قد لاتتخذ

عناوين سياسية لكنها في معناها ومحتواها القانوني والمنطقي , لايمكن أن تتحقق إلا بالحل السياسي .هذا الحل كان مختطفا من قبل دولة الحل الواحد والشرط السياسي الواحد ولم يكن من الممكن خرق هذا الجدار السياسي المسلح بالقمع الممنهج إلا بالمطالبة بإسقاط النظام دفعة واحدة دون التفكير بإمكانية ترميمه .

عند فتح أرشيف الزمن الإستبدادي , نلاحظ بصفة جلية إنغراس ثقافة الإستبداد بعمق داخل الجسد السياسي الوطني , بحيث كانت السلطة السياسية مبدعة في التصنيفات الإقصائية لمن تعتبرهم أعداء الوطن وخيارات الدولة الوطنية .هذا الفائض من القمع يدل على الغياب الجلى للثقافة السياسية الديمقراطية , بل وتصبح الديمقراطية ذاتها ترفا فكريا أو خيانة من نوع ما .بهذا الشكل إنغرست الثقافة السلطوية وأصبحت جزءا ملازما للفعل السياسي وحتى للنشاط الفكري إن رام البحث عن ممكنات أخرى .ولذلك لم نستطع التخلص من الثقافة المهيمنة على الجسد الوطني المتراخي والمشلول بفعل عدم تعوده على الممارسة الديمقراطية .لذلك لم يتمكن الفاعل السياسي من القطع الجذري مع هذه الثقافة حتى زمن الإنتقال نحو الديمقراطية , بل كان يردد مفردات الإقصاء والإستبعاد من دائرة المشاركة للآخر المختلف .بهذه الصورة أصبح الفاعل السياسي صورة مشوهة عن رموز دولة الإستبداد لكن تحت عناوين مختلفة.

ثانيا: إستمرارية الثقافة السلطوية

إن غياب الممارسة الديمقراطية وتفشي الإستبداد كميزة معبرة على النسق الفكري السياسي , يعبر بالمعنى السيوسيولوجي على النشأة المشوهة للفاعل السياسي بوجه ما .فكما أسلفنا الذكر , لاحظنا إستمرارية الإستبداد ولو على مستوى الخطاب .لكن الأخطر هو تبني هذا الفاعل السياسي لثقافة التسلط وكأننا لازلنا لم نبرح شروط الفعل والتفكير السياسي زمن دولة الإستبداد .فالمتتبع للمدونة الخطابية للسياسيين يشهد على تفشي ثقافة الشخصية الكاريزمية التي تتبوأ مكانة الحاكم بأمره حزبيا وحتى جماهيريا دون أن يكون ذلك مستندا على شرعية الأداء ومشروعية التاريخ السياسي أو النضالي .

إستمرارية ثقافة ما , هي ظاهرة نفسية وسيوسيولوجية تعبر بشكل من الأشكال على تغلغل نمط من العلاقات والنظام داخل مجتمع ما .لكننا نتحدث على مرحلة مغايرة تماما وهى مرحلة الإنتفال نحو الديمقراطية بما تمثله من قطيعة معرفية وتنظيمية مع أشكال الممارسة أثناء مرحلة دولة الإستبداد ,أما المرادف لقولنا هو أننا لازلنا نتعاطى مع نفس المفردات والمفاهيم المكثفة لثقافة سلطة تريد الهيمنة وتعتمد على الإقصاء بجميع صوره .يكفي أن نقوم بجرد بسيط لشعارات المعارك السياسية التي شهدتها ولاتزال مرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية مثل صراع الهوية , التصنيف على قاعدة الإيديولوجيا وغيرها .سوف نلاحظ الفائض المهم من مفردات العنف الفكري والعمق التسلطي على أرضية معارك وهمية لاتنتهي بمنتصر أو منهزم , بل ترفع أوزارها وقد عمقت المزيد من الشروخ والندبات على الجسم السياسي .

كل ذلك يعود في جانب مهم منه إلى هذه الثقافة السلطوية التي لم تتمكن من حل تناقضاتها الذاتية إلى اليوم بل أصبحت تصدر خلافاتها إلى جهة الخصم وترفع من سقف حديتها والتي تعبر على ثقافة هجينة سوف تفعل فعلها في الساحة السياسية آجلا أم عاجلا .

هذه الإشكالية المزدوجة تتطلب المزيد من التأصيل النظري والبحث عميقا في إمكانيات تجاوزها حتى نتدارك ما وقع هدره من طاقة وجهود ونرسم إحداثيات جديدة لمواقع الصراع السياسي بشروط أكثر ديمقراطية .من هذه الشروط يمكن أن نقدم مقترحين نعتبرهما من ممكنات هذا الرسم النظري الجديد , ويختزلان بقدر كبير شروط الممارسة الديمقراطية .هذان الشرطان هما: الحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة والإستثمار في الإنتقال نحو الديمقراطية .

أولا : الحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة

لكى نحفظ مكتسبات الوعى الجمعي ونعيد بلورة شروط عقد إجتماعي يعيد ترتيب فوضى
الإستبداد , لابد أن يستسلم الفاعل السياسي إلى شرط المنطق والتاريخ وهو التطور .هذا الأخير هو الشرط الجوهري لكل عملية تقييم إذا مأردنا كشف التناقضات .

الثقافة السياسية السائدة المزركشة بكامل منمنمات العسف السياسي لم تعد بشرط الواقع ممكنة الإستمرار أو حتى التفكير بها أو من خلالها , فهى تعبر عن الوجه القبيح لدولة إستبدادية إبتدأت مستقرة وإنتهت واهنة , وضرورة سوف يرتد حامل هذا الفكر نحو نفس المصير, هذا إن لم يعد ترتيب أولويات المرحلة من جانب رؤيته التنظيمية والإستراتيجية وطبيعة تفكيره سياسيا من خلال تبني ثقافة سياسية جديدة تقوم على : ترتيب بيته الداخلي تنظيميا وهيكليا , تحديد رؤية واضحة تتوجه نحو الشعب وليس نحو السلطة كغاية أولى , الإنغراس داخل الشعب والتواصل المباشر معه تحت كل ظرف ودون شرط , البحث على تحالفات سياسية بعناوين المصلحة الوطنية , التخلي الفوري على تصنيفات الإيديولوجيا المعبرة على صراعات وهمية , قبول المختلف كشرط لوجوده الذاتي بمعنى أن يصبح المختلف شرطا لوجودي , التخندق على أرضية شعارات واقعية ممكنة التحقق …

هذه العناوين تعبر على ثقافة سياسية مغايرة إن وجدت أمكننا البناء على مخرجاتها لمزيد تأصيل شروط الممارسة السياسية والعمل على القفز نحو الممكن عوضا على القفز نحو المجهول .

ثانيا: الإستثمار في الإنتقال نحو الديمقراطية

شروط الثقافة السياسية الجديدة التي نروم تأسيسها لتعيد تشكيل المشهد السياسي , لايمكن لها أن تصبح ممكنة التحقق دون التعامل مع الواقع القائم وإستغلال مخرجاته .هذا الواقع يحمل ما يمكن الإستناد عليه كمنطلق أو رافعة للتأسيس .الإنتقال نحو الديمقراطية سمح
للجميع بالتنظم والمشاركة في بناء العملية السياسية , لكن الأغلبية طبعا لم تفكر في ترتيب هذه المرحلة , لذلك نعتبر أن الإستثمار في مرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية من جانب

إستغلال الحرية وإمكانات التنظم كما قلنا وبعد تأهيل الفاعل السياسي من خلال تأسيس ثقافة سياسية جديدة , كل ذلك يسمح للإستثمار الجيد والمربح في الإنتقال نحو الديمقراطية وذلك من خلال : تغيير شروط اللعبة السياسية من جانب شرط التنافس والتحالفات , التأصيل القانوني لشرط التنافس , التكثيف القانوني والفلسفي والعملي لشرط الحرية بمختلف جوانبها , إستغلال فرصة الإنتفال لبحث أفضل ممكنات فترة الاستقرار سياسيا وإجتماعيا وأقتصاديا

هذه بعض الممكنات التي يمكن التأسيس على معانيها من أجل إيجاد الحلول العملية لمرحلة الإنسداد , كذلك إعادة الجرد والتقصي في مخرجات مرحلة التأسيس حتى نعدل بوصلة مرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية أملا في الولوج نحو مرحلة التركيز الدائم لدولة مرت بتجربة ثورية هامة ومميزة رغم هناتها.

لايمكننا إختصار مرحلة ثورية في بضعة أسطر حتى ولو أردنا تقديم الممكنات التي نعتبرها عصارة قراءات مختلفة أو من وحى التفكير الذاتي .لكن خصوصية مرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية والتي تتميز بإنفتاحها على التجريب والتقييم , تفرض أن نعيد قراءة الإرث السياسي وتفكيك شيفراته التي هيمنت على الدولة وفرضت مانعتبره واقعا من ممكنات متعددة وليس الوحيد أو الأفضل .لذلك قدمنا هذه القراءة المفتوحة على النقد لغاية تقييم أخطاء الشكل والمضمون حتى نؤسس ديمقراطية للجميع وبالجميع , ديمقراطية الشعب المؤسس لدولته وديمقراطيته.

محمد العربي العياري/تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *