المؤرخ التميمي : 50عاما من دراسة التاريخ العربي والعثماني من منظور وطني

++ المدارس “الاور مركزية” والاستعمارية وتلامذتها في تونس حاربت البحث العلمي النزيه

مع الأعداد الجديدة التي نصدرها هذه السنة 2023 (189 و190 و191 و192)، تكون المجلة التاريخية المغاربية قد توّجت عامها الخمسين، بعد نصف قرن على صدور عددها الأول، وهو ما شكل موسوعة متكاملة حول التاريخ المغاربي بكل مكوناته القطرية في العهدين الحديث والمعاصر. لقد جاء صدور العدد الأول منها كنوع من التحدي في إطار تاريخي كامل، عندما كانت الجامعة التونسية الفتية في سِنِيها الأولى وأقصى ما يحلم أن يحققه بعض سَدَنَتها يومئذ هو أن تصبح تابعة لجامعة السربون، أو في مكانة إحدى الجامعات الداخلية في فرنسا. إلا أن المجلة التاريخية المغاربية جاءت لتفتح اتجاها مغايرا تماما في كتابة التاريخ، من زاوية مغاربية بحتة، وامتدادا لما جرى ميدانيا بعد الحصول على الاستقلال السياسي لبلدان المغرب الكبير، وخاصة بعد انتصار الثورة الجزائرية المباركة.
وقد قامت المجلة باحتضان كتابة التاريخ المغاربي، بمختلف مناهجها وتوجهاتها ورؤى أصحابها. وغدت دون منازع مرآة للبحث التاريخي في العهدين الحديث والمعاصر، بما ساهم في أن يجعل من المختصين فيهما يختلفون من حيث المردودية وكثافة الحضور والتأثير عن زملائهم مؤرخي العهدين القديم والوسيط. ولا يسعني هنا إلا أن أعبر عن امتناني للمسؤولين الجامعيين التونسيين الذين دفعوني إلى تأسيس هذه المجلة، دون أن يدركوا أني أنتمي إلى جيل جديد من المؤرخين، ممن منحوا اللغة الفرنسية دورها العلمي ولا شك، وأضافوا إليها اللغتين الانجليزية والعثمانية بعد أن نبشوا في الأرشيفات البريطانية والعثمانية وعثروا على أرصدة من الوثائق الأصلية لتعزيز بحوثهم التاريخية، وقد عبرت عن رغبتي المساهمة في تشريف المعرفة والبحث التاريخي لجامعتنا الفتية إلا أنهم لم يستوعبوا ذلك وكانت النتيجة أن تم العبث بالدورية الجامعية الوحيدة في العلوم الإنسانية وأين هي اليوم في الساحة العلمية التونسية والمغاربية والدولية.
ذلك أن بعض القيادات الجامعية التونسية قد خططت إلى محاربة ورفض الانفتاح العلمي السليم، ويحضرني اليوم موقف البعض من هؤلاء الجامعيين البؤساء عندما تبنوا موقف الرفض القاطع لانتمائي لهيئة الكراسات التونسية les Cahiers de Tunisie مع علمهم بحصولي ولأول مرة على دكتوراه الدولة في التاريخ من جامعة آكس أون بروفنس بتاريخ فيفري 1972، وكان المعارضون يومئذ هم: العميد المرحوم عبد القادر المهيري والمرحوم محمد الطالبي والباحث عز الدين قلوز، رئيس التحرير يومئذ، ومن والاهم من الجامعيين الفرنكوفونيين أمثال المرحوم البشير التليلي وجميع المنتسبين لقسم التاريخ بالجامعة التونسية، عندما باركوا عدم منحي صفة العضو العامل في هيئة تحرير الكراسات التونسية، وعلى ضوء ذلك قمت بإعلام المرحوم محمد مزالي، وزير التربية يومئذ، وقد أهديته نسخة من رسالتي الجامعية وإعلامه بأن كتابين لي قد تم نشرهما بمنشورات الجامعة التونسية، أحدهما باللغة الفرنسية وقدمه المؤرخ روبير مانتران (Robert Mantran) وثانيهما عبارة عن ترجمة لرسالة جامعية لأحد أبرز المؤرخين الأتراك وهو المرحوم العميد أرجمنت كوران، وكان موقف محمد مزالي مشرفا جدا عندما اتخذ قرارا فاعلا ونزيها بتعييني أستاذا مساعدا بقسم التاريخ بالجامعة، وهو القرار التي أثار استياء واسعا بين الجامعيين الفرنكوفونيين، وكان وراء محاربتي الشرسة وعلى جميع المستويات طوال العقدين الأولين.
***
ولتأطير الحقيقة المجردة فإن موقفي هذا لم يقلل أبدا من دور المجلة الإفريقية Revue Africaine والتي تواصل نشرها بالجزائر خلال قرن كامل من 1856 إلى استقلال الجزائر سنة 1962، وتوفقوا في نشر الآلاف من البحوث والوثائق الجديدة، والتي قام بها العشرات من العسكريين الفرنسيين.
وبالرجوع إلى التداعيات المباشرة لهذا الموقف الصادم من الفرنكفونيين التونسيين اتخذت قرارا بإنشاء المجلة التاريخية المغاربية، والتي نحتفل اليوم بمرور خمسين سنة على إنشائها، وهي التي تعد اليوم أقدم دورية أكاديمية في التاريخ الحديث والمعاصر في البلاد العربية.
وبمتابعة نتائج الأبحاث التاريخية على مستوى أكاديمي مغاربي، والتعريف بها، تكون هذه الدورية قد ساهمت في التأثير على الأبحاث التاريخية، وتخليصها من كل منحى إيديولوجي شوفيني من جهة، ومن محاولة الهيمنة الثقافية والأكاديمية الفرنسية من جهة أخرى، دون أن يعني ذلك القطيعة مع العديد من المؤرخين الفرنسيين الشرفاء، بل على العكس من ذلك فقد فتحنا لهم مجلتنا وسائر منشوراتنا بالإضافة إلى إشراكهم في المؤتمرات العلمية التي عقدناها في عدة اختصاصات، بل وخصصنا للبعض منهم كتبا تكريمية تليق بما قدموه من خدمات مشرفة للتاريخ المغاربي خاصة والعربي عموما.
لا شك أن دوريتنا تعتبر وليدة تيار جامعات الاستقلال المغاربي، من نواكشوط إلى بنغازي مرورا بما بينهما من عواصم. وقد تداولت على الكتابة فيها أجيال من المؤرخين الجامعيين المهتمين بالعهدين الحديث والمعاصر، وهم الذين أولوا الوثيقة المحلية العربية مكانتها، دون أن يغفلوا استعمال الوثائق التي أنتجها العهد الاستعماري من فرنسية وبريطانية وإيطالية، وتميزوا بذلك عن المؤرخين الأوربيين وأساسا الفرنسيين والذين أهملوا لجهلهم العربية إلا نادرا، أرصدة الوثائق العربية والعثمانية التي فتحت مؤخرا في دراساتهم المختلفة.
ولعل ما يجدر التنبيه إليه هو أن مجلتنا رافقت الخطوات الأولى لعدة عشرات من المؤرخين الشبان من تونس والجزائر والمغرب الأقصى وليبيا أيضا، ممن نشروا بحوثهم الأولى لدينا، وكان في ذلك اعترافا منّا بهم في مجتمع الباحثين والمؤرخين، وهو ما شكل حافزا لهم لمواصلة النهج بثبات ومثابرة. ولا شك أن أغلبيتهم، وهم الآن باحثون جامعيون، يبدون كلما سنحت لهم الفرصة اعترافهم وتقديرهم العالي لما قمنا به نحوهم.
إن أرصدة البحوث التي تم نشرها لدينا بالآلاف وكان المؤرخون الفرنسيون بالذات قد غيبوا تماما هذه الإنجازات البحثية وهذا انطلاقا من ظاهرة الاعتداء والغلو والغطرسة وهذا إلى درجة احتقارهم وعدم أخذهم بالاعتبار أهمية الدراسات التي تم نشرها في دوريتنا خلال نصف قرن.
إلا أن بعض المؤرخين الفرنسيين باركوا لنا إنشاء مجلتنا وساهموا في إرسال بعض البحوث التاريخية التي نشرناها لدينا ونخص بالذكر هنا روبار منتران، وكزافيي ياكونو ( Xavier Yacono) الذي انفرد بإجراء مراجعة شاملة لمحتوى رسالتي الجامعية ونشرها في المجلة التاريخية الفرنسية Revue Historique، كما نشرنا للأستاذ شارل روبير أجرون، إضافة إلى مؤرخين فرنسيين آخرين. في المقابل فإن الباحثين المؤرخين الفرنسيين في غالبهم لم يبدوا أي اهتمام لنوعية البحوث المنشورة لدينا والتي تم توظيف الوثائق العثمانية والعربية أساسا فيها، وحيث تفرع الاهتمام إلى قضايا وإشكاليات جديدة، ولنا في بحوث المؤرخين المرحوم أحمد جدي والتليلي العجيلي وإبراهيم السعداوي وعبد اللطيف الحناشي وفتيحة لواليش من جامعة الجزائر هذا فضلا عن المرحوم أبي القاسم سعد الله وغيرهم وكذا أبحاثنا الشخصية، أبرز الأمثلة على ذلك، حيث تجاهل المجتمع العلمي الفرنسي جدية بحوث العديد من المؤرخين المغاربيين، ومع هذا فقد أفردنا لبعض المؤرخين الفرنسيين كتبا تكريمية وهم على التوالي: مارسيل إيميري (Marcel Emerit)، وروبير منتران (Robert Mantran) وأندري ريمون (André Raymond)، ولوي كاردياك (Louis Cardaillac)، وشارل روبير آجرون (Charles Robert Ageron)، وأخيرا الحكيم فرنسوا أرنولي (François Arnoulet)؛ وذلك إيمانا منا بدورهم الطلائعي في جدلية البحث التاريخي المغاربي والعربي عموما.
والتساؤل هل أولى المؤرخون الفرنسيون أي تكريم للعديد من الباحثين المغاربيين لأدوارهم المهمة جدا في البحث التاريخي؟ وهناك رصيد مرتفع من إنجازات العديد من الجزائريين أثناء العهد الاستعماري والذين أبلوا البلاء الحسن لإثراء البحوث العلمية في عديد الاختصاصات في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهناك مواقف تعكس مركب الغرور والتكبر وعدم الاعتراف للمؤرخين وتغييبهم ولدينا في المؤتمر الأوربي والذي عقد في جنيف أكبر الأمثلة على ذلك حيث لم يحضره إلا عدد ضئيل من المؤرخين المغاربيين والعرب.
وهنا أحب أن أثير ملفا في غاية الاهتمام وأعني به غياب المشاركات المغاربية والعربية في المؤتمرات التي تم تنظيمها في بعض العواصم الأوربية بباريس والسويد وجنيف إذ نادرا ما شارك فيها أعلام مغاربيون ما عدا حسن حسني عبد الوهاب ومحمد الطاهر بن عاشور وعبد الرحمان بدوي في مؤتمرات المستشرقين.
إن هذا السلوك الاستعماري والمستفحل في عقلية الباحث الأوربي عموما، هو ما دفعنا أن نقطع معه عندما نظمنا 36 مؤتمرا دوليا حول الدراسات العثمانية وحول الدراسات الموريسكية الأندلسية، وناشدنا الجميع حضور فعاليات تلك المؤتمرات، وقد شارك المئات من الباحثين الأوربيين والأمريكيين مستلهمين من حكمة الزعيم الهندي غاندي عندما أكد على وجوب الانفتاح المطلق لتعزيز التبادل المعرفي مناديا بالانفتاح على الآخرين دون شروط والعمل على تصيد الأفكار الجديدة.
وهذا ما قمنا به عندما نظمنا مؤتمراتنا المتتالية حيث وجهنا الدعوة إلى كل المتخصصين المغاربيين والعرب والأتراك والإسبان، بالإضافة إلى أغلب اللبنانيين والعراقيين والسوريين… ومع الرجع الزمني، نعتقد أننا سعينا إلى إرساء لبنة جديدة للتواصل الأكاديمي بين الشرق والغرب ومنحنا ثقتنا للجميع.
وتحضرني هنا عديد الأسماء اللامعة من تركيا وأوربا البلقانية أمثال خليل انالجيك وخليل الساحلي أوغلو وثريا فاروقي وأمال دغرمجي ونجاة قوينج وماخيال كيل وغيرهم من رموز الدراسات العثمانية في العالم، وقد دللنا على أن المستفيد الأول هو ذلك الحوار البناء والوازن وهذا ما دفع بالأستاذ روبار منتران أن يثمن ذلك عاليا وكان يقول لي إنه على الأكاديميين الغربيين اليوم أن يأخذوا عديد الدروس من مؤسستنا لهذا الانفتاح الأكاديمي.
كما تحضرني حادثة مؤلمة كان يتباهى بها أغلبية الأساتذة الأوربيين عبر ظاهرة الاستعلاء على الجامعيين المغاربيين والعرب، إذ حدثت مشادة كلامية كان أحد أطرافها المرحوم محمد الطالبي الذي علق على ضعف مساهمات العلماء والباحثين من الشرق قائلا : “أقم عليهم مأتما وعويلا”، وهنا استوجب علي ذكر حادثة بائسة عندما حررت مراجعة علمية حول الرسالة الجامعية للمرحوم البشير التليلي والذي أحرز على الدكتوراه من جامعة نيس تحت إشراف الأستاذ أندري نوشي، وقد عنونت هذه المراجعة بـ : رسالة البشير التليلي أو انتكاس وظيفة المؤرخ بتونس وذكرت في أواخر هذه المراجعة بأن هذه الرسالة الجامعية لا تشرف جامعة نيس ولا الجامعة التونسية التي نشرت هذه الرسالة الجامعية. وقد استشاط الأستاذ المشرف أندري نوشي غضبا وطلب من العميد المرحوم محمد اليعلاوي محاكمتي، وكان رد العميد بأن هذا الموقف لا يعكس رأي الجامعة التونسية بل هو نابع من أحد التونسيين، وهو ما يترجم أن الجامعة الفرنسية لها معياران ومكيالان أحدهما للفرنسيين وثانيهما المغاربيين.
وعندما انضممت رسميا إلى قسم التاريخ، فوجئت كيف أن تاريخ تونس في كل العصور يتم تدريسه باللغة الفرنسية، وقد ناديت مع الأستاذين الحبيب الجنحاني ورشاد الإمام، بحتمية تعريب هذه المسألة؛ وهذا ما أحدث جدلا حادا وعنيفا بين أعضاء قسم التاريخ الذين رفضوا هذه المناشدة، إلا أننا اتخذنا موقفا صارما بوجوب تعريب هذه المسألة، مع حرصنا على مواصلة استعمال التدريس باللغة الفرنسية لبقية المسائل التاريخية المبرمجة.
ونظرا لموقفنا المتشدد وبعد عدة شهور من الجدال، تم إقرار تعريب المسائل التاريخية العربية وهو مكسب في جدلية ملف التعريب، ومنذ تم اقرار تدريس كل المسائل المتعلقة بتاريخ تونس في كل العصور باللغة العربية مع العمل على مواصلة استعمال اللغة الفرنسية لبقية المسائل.
إن الاحتفاء بخمسينية المجلة التاريخية المغاربية، يعد حدثا ثقافيا بامتياز، بقدر ما كان لها من دور في كتابة والتعريف بتاريخ بلادنا وبلاد المغرب عموما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *