العالم والفكر التونسي د. أيمن الجبالي :نكبة تونس في نخبتها المزيّفة

الثورة ركبها الانتهازيون وبائعو الكلام والأوهام

البرلمان تحول الى «سوق عكاظ» وتونس فقد سيادتها المالية والسياسية

العالم العربي فشل لأنه سلم مفاتيح الدولة الى المختصين في الهدم

أخشى أن «يلد» الربيع العربي استبدادا دينيا أو عسكريا

الحديث مع الدكتور أيمن عبد الرزاق الجبالي «يحيلك»أمام شخصية علمية وفكرية وثقافية مرموقة تحظى باحترام وتقدير أوساط عربية وغربية عديدة… فالرجل له اسهامات في مختلف المشارب، في رصيده عديد الكتب والمؤلفات التي يدافع فيها عن الديمقراطية.. وكان سباقا نحو الدفاع عن الاسلام وتفسيره العقلاني حيث كانت العنصرية تضرب الغرب، ألّف كتاب «العدل للجميع».
وحين لاحظ وجود تفكك أفقي وعمودي في المجتمع التونسي بعث الى الدولة التونسية بمشروع تركيز خدمة مدنية «اجبارية» تمثل فيه قيم التمدن والانضباط المحرك نحو التقدم. كما يوفر قناة للتواصل بين مختلف الفئات الاجتماعية لكن نظام بن علي «قبر» الفكرة مما اضطر الدكتور أيمن الجبالي الى ارسال نفس المشروع الى الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك على اعتبار ان فرنسا تعاني من نفس أعراض التفكك ولكن الدولة الفرنسية أحالت المشروع الى خليفته نيكولا ساركوزي.
كما كتب الدكتور أيمن الجبالي في القانون وألّف سنة 2009 «مرجع في القانون المقارن» حول مفهوم المسؤولية. وهذا الإلمام والاسهام في الفكر والقانون لم يحل أيضا دون ابداعات الرجل في مجالات أخرى، فقد كان في طليعة من وضعوا برنامج اقتصاد المعرفة في تونس وأسس في سويسرا مؤسسة للعلم والمعرفة بقينا منه أن المعرفة هي التي تصنع التاريخ وأن التحديات. القائمة والقادمة هي معرفية بالأساس… وفي رصيده أيضا بعض الاختراعات العلمية التي كانت «باكورتها» أثناء حرب الخليج الأولى وذلك ردا على انكار العرب امتلاك التكنولوجيا.. ولا يزال الرجل يواصل اجازاته العلمية هذه التي ستشهد قريبا الكشف عن بلورة عام جديد قيل إنه سيغير كل المجالات المعرفية لما يطرحه من طريقة جديدة في «الاستدلال العلمي»… وهو قبل ذلك طبيب جرّاح مختص في جراحة القلب والشرايين وله العديد من الاصدارات في هذا المجال…
الدكتور يمن عبد الرزاق الجبالي يحلّ ضيفا على «الشروق» في لقاء تطرّق الى قضيا ومسائل سياسية واقتصادية وفكرية وعلمية، مشيرا بالخصوص الى التحديات المطروحة في الداخل وخاصة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها تونس في هذه المرحلة مشرّحا بذلك الأسباب… ومقدّما «الدواء» والجواب.
الدكتور أيمن الجبالي تحدث أيضا عن المستجد في الوضع العربي والدولي في ضوء العواصف التي تهز قلاع الأقطار العربية اليوم تحت عنوان ما يسمى الربيع العربي.. وفي ما يلي نص الحوار.

بداية، كيف تقرأ دكتور تداعيات واستتباعات خروج بريطانيا، على مستوى الداخل الأوروبي؟
أعتقد أن هذه الخطوة ستكون لها تداعيات كبرى ويمكن أن تسارع بعض الدول الأخرى الى الانسلاخ عن الاتحاد الأوروبي مما قد يهدّد بتفكك الاتحاد الأوروبي وربما عودته الى سوق مشتركة خاصة أن ألمانيا قد جرت الى خوض مغامرة الاتحاد الأوروبي تحت تهديد أمريكي فرنسي بعدم السماح لها بالتوحّد أي أن فكرة الاتحاد الأوروبي نفسها التي دعمها الجانب الأمريكي كانت بغاية الحدّ من قوة ألمانيا الموحّدة… وهذا يدخل في السياسة الأمريكية لإضعاف السلطة السياسية والنفوذ الاقتصادي.
اقتصاديا، ماهي، من وجهة نظرك تأثيراتها على تونس؟
ضعف الاتحاد الأوروبي سيفضي الى تقليص المساعدات التي تتمتع بها تونس كما أن ضعف الأورو سيكون له أثر سلبي على عملتنا وعلى اعتباره أهم شريك اقتصادي لنا.. كما أن بروز القوميات في أوروبا سيهدّد الهجرة ويؤدي الى عدم استيعاب مهاجرين جدد ومن بينهم طبعا المهاجرون التونسيون.
هذه المتغيّرات التي يشهدها العالم اليوم على أكثر من خارطة وأكثر من فضاء، أين ترى تموقع العرب ووزنهم فيها، ماذا يحدث اليوم في هذا الفضاء العربي؟
هناك من يؤمن بأن المعارك والحروب هي التي تصنع التاريخ.. ونرى ذلك جليا في العقيدة العسكرية للغرب ولداعش ومثل هذه الأطروحات هي التي أسست لمنظومات الاستبداد والسطو خاصة في العالم العربي حيث كنا نرى أن المعارضة السياسية في تونس منذ بداية الاستقلال تستدعي العنف في مواجهة استبداد النظام السائد زمن بورقيبة أو زمن بن علي.
… وحين جاء موعد البناء بعد ثورة 14 جانفي 2011 وجدناهم عاجزين بلا أفكار عملية ودون قدرة على الجهد الحقيقي .. وعليه نستطيع القول إن العالم العربي فشل في ثورته لأنه سلّم مفاتيح الدولة الى المختصين في الهدم لا للمختصين في البناء عكس هؤلاء كنت أومن دائما بأن التاريخ تصنعه المعرفة كما يقول فولتير: «لو سألوني يوما من أعظمهم، اسكندر المقدوني، جان جيسخان أو سيزار لقلت واثقا بأن نيوتن أعظمهم جميعا». فلا شرف إلا في المعرفة والعلم… كما أومن بأن رجال السياسة يقسمون الى 4 أصناف، على الاقل:
1ـ المتصرّفون في الشأن العام، كما نرى في تونس منذ الاستقلال وبعض هؤلاء وكلاء لقوى استعمارية..
2ـ مؤسسو الدول، لكن أرى أن السياسيين التونسيين اليوم لا يعرفون حتى مفهوم الدولة ولا يمكن اعتبار تونس اليوم دولة إذ فقدت سيادتها المالية… وبذلك فقدت أيضا سيادتها السياسية.. وقد عمّها الفساد… فالدولة التي تستعلي فيها جهة على أخرى وتستكبر فيها فئة على نظيرتها تفتقد مقوّمات الدولة الحقيقية..
3 ـ مؤسسو الامبراطوريات، على غرار اسكندر المقدوني وجان جيسخان وغيرهما.
4 ـ مؤسسو الحضارات وبعض هؤلاء أنبياء مثل رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلّم وبعضهم عباقرة… ويقول الفيلسوف الفرنسي بيرغاسون بأن الله يبعث العباقرة كما يبعث الأنبياء لتطوير الإنسانية.
وعليه فإنني أعتقد جازما اليوم أن نكبة أمتنا في نخبتها المزيّفة… ولذلك انصح التونسيين بالتخلص من هذه النخبة المزيّفة لكي نتمكّن من بناء دولتنا.
بناء دولتنا، كيف ترى مساراته في ضوء الانسداد الحاصل على واجهات وملفات عدة يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي والثقافي ايضا… أعني هنا، ماهي الحلول التي تراها كفيلة بإنقاذ بلادنا اليوم؟
يعي كل مواطن بأن تونس اليوم تعاني من أزمة اقتصادية ومالية وسياسية خانقة… واطلاعي على الحلول المتواردة من هذه النخبة المزيّفة التي تكتسح المشهد السياسي يجعلني متشائما حول مصير بلادي.
مثلا، اعتقاد الحكومة بأن الخبراء الاقتصاديين بإمكانهم وضع استراتيجيات التنمية والخروج من الأزمة هو اعتقاد غبي، فكل سياسي يؤمن بأن حلّ المشاكل يكون بالانفاق المالي هو سياسي فاشل وعليه فإن الحلول الناجعة اليوم هي أساسا، حلول سياسية وتضع في الميزان مصداقية وتميّز النخبة الحاكمة.. فكيف لي كمواطن أن أثق مثلا في دولة مافيات أو يقودها ساسة فاشلون إذ لا يمكن لأي مشروع أن ينجح دون تماهي الشعب مع أهدافه… وقد حذّرت منذ بداية الثورة من ارتفاع مشط للأجور لمجموعات نريد ذممها كما تحدثت عن أجور السياسيين.
إذن أسس لأزمتنا اليوم سوء تصرّف مالي وفساد اقتصادي بدأ منذ حكومة محمد الغنوشي وارتكز هذا التهوّر الاقتصادي على منظومة قيم أخلاقية فاسدة حيث أصبح الأجر وربما الثراء والثروة نتيجة التهريب والولاء لأشخاص وليس للدولة والفساد سبيلا ضالا غير مرتبط بالجهد الشخصي ولا خير في ثروة ليست مرآة للجهد… وعليه فإن ما يجب أن نؤسس عليه هو بناء المنظومة الاقتصادية والمنظومة السياسية على دعائم أخلاقية وأؤكد هنا على دعائم أخلاقية وليست دينية.
في ما يتعلق بالمنظومة السياسية، هل تعتقد دكتور أن هناك قصورا على هذا المستوى في التعاطي مع أدبيات الثورة، مثلما يرى البعض؟
نعلم نحن أن الثورة في تونس ركبها الانتهازيون وبائعو الكلام والأوهام وكان من الطبيعي أن يفشلوا في بناء الدولة… كما أن الثورة خلقت الفوضى وجرفت كل المكتسبات الوطنية وبات من لم يؤمن بالديمقراطية أصلا ولسنوات يبيع لنا الديمقراطية الوهمية الموجودة حاليا، كمكسبهم الرئيسي الوحيد… ويبيع لنا الفوضى على أنها حرّية.. وأعلم هؤلاء بأن الديمقراطية وسيلة هدفها انتخاب الأكفأ والأكثر تميّزا لقيادة الدولة ومؤسساتها وأنها تُصبح وبالا إذا كانت نتيجتها سيطرة المهرّبين والصعاليك على دواليب الحكم… والحقيقة أنا متفاجئ بحال البرلمان التونسي الذي يشبه اليوم برلمان فيينا بين الحربين وكان علامة انحطاط ذاك المجتمع والذي أصبح «سوق عكاظ جديد» تباع وتشترى فيه الذمم.
أما الحكومة الحالية فهي تشكو من المستوى المتواضع لبعض وزرائها ومن غياب استراتيجية تنمية واستراتيجية حكم… وهذا يعكس افتقار الأحزاب الى الذكاء السياسي الذي يخوّل لها طرح برامج وتصوّرات اقتصادية وسياسية واضحة ثم عملت هذه الاحزاب الرئيسية في ظل وهن قدراتها الفكرية على منهج توافقي لتعيين الحكومة بوصفها جهازا تنفيذيا…
هذا الواقع الذي تشخّصه هنا، وهذا الوهن الذي يعتري المشهد السياسي الراهن، الى أي مدى تملك مبادرة رئيس الجمهورية الأخيرة في رأيك القدرة على علاجه؟
مبادرة السيد رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي جاءت تحت ضغوط الواقع اليائس الذي تعيشه البلاد… ومن حسن الحظ أنه تفطّن الى ضرورة إيجاد نفس جديد للعمل الحكومي بقطع النظر عمن سيرؤس الحكومة القادمة… لكني ألفت النظر بلطف وأنا أعرف ذكاءه الى أنه إذا اعتمد على النخبة المزيّفة التي لا تعترف بالوطنية ولا تكن ولاء للوطن والتي لا تملك في جعبتها إلا التملّق والانتهازية فإن النتيجة ستكون أكثر كارثية… ومن يحلم بأن يطوّر تونس متجاهلا نخبتها الحقيقية فهو واهم لأن الحكومة التي تستطيع حشد اندفاع الشعب وراء مشروعها المتميّز هي بالضرورة حكومة لها قدرات حقيقية وليست لها ولاءات شخصية وانتهازية.
الدولة التونسية بحاجة اليوم الى هذه النخبة الحقيقية لأن ما يتهدّدها هو أكثر بكثير من الارهاب إذ أن معضلة الديون ليست فقط في عبئها على المواطن بل هي أيضا فخّ يمرّ عبره الاستعمار… وأنا أؤكد هنا أن بنوك الاستثمار الأجنبية هي في الواقع بنوك استغلال موارد العالم الثالث وتركيعها لقوى مالية عبر مشاريع وهمية لا تعود بالخير الا على مكاتب الدراسات الأوروبية التي توظف لهذا الغرض.
كيف تشرّح الواقع الاقتصادي القائم وماهي أسباب الأزمة المالية وأبعادها وسبل معالجتها، من وجهة نظرك دكتور؟
لقد فقدت تونس سيادتها المالية حيث لا تقترض الا بضمان أمريكي وهي بالتالي فاقدة لسيادتها السياسية… ورغم ذلك لم تقم الدولة التونسية بواجبها الفوري من تخفيض مصاريف الدولة من أجور لموظفيها في مختلف القطاعات الوظيفية وخاصة القضاء والتعليم العالي… وغلق بعض السفارات والقنصليات التي لا طائل من فتحها حتى يطمئن المواطن الى جدية القيادة كما عليها كنس بعض الموظفين، عناوين الفساد داخل الدولة إضافة الى تحجير تمتّع الموظفين بسيارات إدارية لموظفين لا يشتغلون أكثر من نصف ساعة في اليوم، ففي سويسرا مثلا لا يتمتع الموظف بسيارات إدارية وصكوك بنزين فنحن نلاحظ أن كل موظف في الدولة يعتبر أن الدولة ملك خاص له.. ويخلط بين قضاياه الشخصية ومقدرات الدولة.. إذن يقتضي تحفيز الشعب واستعداده للتضحية أن تكون الدولة نموذجا أخلاقيا ونموذج كفاءة حقيقية.. وأنا لا أرى على الركح إلا دمى تحركها غرائز وضيعة ودول ودوائر أجنبية كنا نعتبر البعض منها يقتدي بنا.
من ناحية أخرى، على قادتنا اليوم الذين يعرّفون المواطن التونسي بوصفه جملة من الحقوق والواجبات أن هذا التعريف الذي مرّره لهم الغرب للقيام بالربيع العربي هو تعريف قديم للمواطن فنحن نريد اليوم أن يكون للمواطن التونسي إرادة وقدرة على التألق والبناء والإبداع.
لكن السؤال دكتور، كيف يمكن للشعب أن يميّز نخبته الحقيقية من النخبة المزيّفة؟
هذا سؤال وجيه جدّا فالانتاج الفكري الموثق والذي يرتقي الى المستوى العالمي هو أول دليل على النبوغ، مع العلم أن النظام السياسي في تونس حارب الذكاء وعمل على طمس النبوغ… لكن هناك خفايا يعرفها بعض الزعماء السياسيين وأنا أنكر على كل رجل يفتقر الى هذه القدرة على التقييم، صفة القائد السياسي.. والحقيقة أنني فوجئت بعد الثورة بأن الانتهازيين الذين استولوا على الركح السياسي كانوا أشد كرها للذكاء وخوفا منه، من الأنظمة السابقة فاضطرّ المواطن الى عيش تجارب بائسة لينتبه الى ضحالة مستوى السياسيين الذين يحكمونه… والتاريخ يبيّن لنا أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض وأنه آجلا أم عاجلا ستلتحم الشعوب مع نخبتها المتميّزة والزعماء الحقيقيين..
الصورة التي رسمتها دكتور، تبدو متناقضة، ومتضاربة الى حد كبير مع ما يقال في الأوساط الغربية حول التجربة التونسية التي تقدّم اليوم على أنها «الاستثناء» في دول ما يسمى الربيع العربي؟
الرجل السياسي الحقيقي يعلم أنه عليه الحذر من الذين يمدحون نظامه ويقول المثل الفرنسي في الموضوع بأن «من ينصب الفخاخ هم المادحون»… ومثلنا العربي يقول «إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظننّ أن الليث يبتسم».. ومن مصلحة أمريكا راعية الربيع العربي إبراز التجربة التونسية كتجربة ناجحة رغم ان هيلاري كلينتون أعلنت أن فشل الربيع العربي هو نتيجة فقدان النخبة الحقيقية التي تقود الربيع العربي، والتجربة الليبية خير دليل على العواقب الخطيرة لغياب النخبة المتميّزة، كما نعلم انه كما يقول ماكيافيل إن الشعوب حديثة النشأة تفقد حريتها سريعا إذا انتشر فيها الفساد.. وهذه حكمة على رجال السياسة عندنا الانتباه اليها… ونحن نخشى أن يخلّف الربيع العربي استبدادا جديدا تحت غطاء ديني أو عسكري او استعماري أشدّ قساوة من السابق.. ليعلم سياسيونا أيضا أن الشعوب لها أمراضها كما للشخص أمراضه، وهي مكشوفة أمامنا.

حوار : النوري الصّل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *