الرهان الحقيقي.. هل نقدر على بناء تونس الديمقراطية الاجتماعية؟ .. بقلم عصام الدين الراجحي

تقع العدالة الاجتماعية بأهمية مركز الثقل في هذا الوطن، خصوصا أن حدثا جللا وقع منذ عقد تقريبا (ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر- 14 كانون الثاني/ يناير) كشف وبصفة واضحة وجلية الحاجة إلى سياسات اقتصادية مستدامة لتحقيق العدالة الاجتماعية والبيئية المُلحة والمتنامية.

وعلى النقيض من ذلك الهدف، فشلت حكوماتنا بُعيد سنوات في صياغة مشروع وطني جامع؛ تأثرا بهشاشة التحالفات والنزوع لسياسة التمكين وغياب الرؤية وضعف المطبخ السياسي والاقتصادي، وهو ما عجّل بنتائج وخيمة جدا على البلاد، بل وجعل أيسر السبل هو الرضوخ للمؤسسات المالية الدولية المطالبة ببرامج التكيّف الهيكلي وتجديد سياسات تحرير الاقتصاد.
لم تكن سنوات هذه الحكومات سوى السير على خطى من سبق، بعجز إدارتها وبيروقراطيتها وسوء تخطيطها الذي حوّل الجهات الداخلية إلى مناطق منفرة ومقصية، وفاقم عدم المساواة في الثروة والفرص، ومنح شرعية المضي قدما في مخططات الخوصصة المتزايدة للخدمات العمومية، مثل قطاعي الصحة والتعليم، دون الأخذ بعين الاعتبار زيادة اللامساواة وتكريس سياسة التهميش والحرمان.

لقد فقدوا أي إحساس بالمجتمع، وبدون الشعور بالعدالة الاجتماعية أصبحت السياسة مجرد صراع بين أرباب المصالح وواضعي السياسات التي لم يستفد منها طيلة عقود إلا نخبة محدودة للغاية، خلقت تفاوتا اجتماعيا قويا بل وساهمت في تقوية عرش الفساد وسطوة الاقتصاد الريعي.

المحصلة، هناك الكثير مما يدعو إلى الغضب: الفساد والمال السياسي ووحشية الرأسمالية، إنه الثالوث المريع الذي يسد شرايين الديمقراطية في البلاد.

في ضوء هذه التطورات، حان الوقت للتأكيد على أن السياسات النيوليبرالية قد فشلت بشكل كبير، ومع ذلك وفي بيئة سياسية تهيمن عليها بشكل متزايد القضايا الأمنية والتطرف السياسي وسلوك نواب الصدفة، فإن النقاش الحاسم حول أسباب وتأثيرات السياسات الاقتصادية وبدائلها غائب وبمرارة، وهو الضروري لأبعد الحدود في الوقت الحاضر أكثر من أي وقت مضى؛ والبلاد على مشارف إفلاس معلن.

لقد أضعنا عقدا من الزمن منذ الثورة، لقد أكلها الجراد، أو بشكل أدق أهل الحل والعقد من ذوي الجشعِ بلا خجل. فبخلاف ضجيج الإسراف في البذاءة من متطرفي السياسة داخل قصر باردو، لم نسمع أي نقد أو تقييم أخلاقي وموضوعي سياسي واقتصادي واجتماعي لما يحدث، ولا حتى صيحات غضب من الحكماء تعبر عن أن الأمور يجب أن لا تكون على هذا النحو.

سأحمّل أحزاب الوسط ويساره مسؤولية إنقاذ الوطن، فلا بد للأحزاب الديمقراطية الاجتماعية توجيه هذه الأزمة الصعبة لصالح يسار الوسط.. نعم يجب أن نتحمل مسؤولياتنا بما يتطلب ذلك من سرد سياسي يعطي أجوبة متماسكة للتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
لقد رأينا لسنوات انتصارا لليمين ليس لمصداقيته أو صواب خياراته إنما بسبب عدم قدرة من كانوا على يسار السلطة على ملء الفراغ؛ على الإقناع وصناعة الأمل، ولكن نقطة الضوء تتجدد ولا تنطفئ في ظل هذه العتمة، فيقيني أن المستقبل للعائلة الاجتماعية وأن لها طموح ورغبة التطلع لإنجاز مكاسب تجربة الشمال الأوروبي واليسار اللاتيني، ولكن سيكون المطلوب كثيرا من التواضع، وخاصة أن تكون قادرة على تسمية المشاكل بكل وضوح إذا كانت ترغب في حلها.

قد لا أشكك في أننا ديمقراطيون، لكن “الاجتماعي” ما يزال لا يعني شيئا، خصوصا اليوم (خلافا للعقود الماضية) عندما نرى نزوعا نحو الليبرالية الجديدة بمساحيق اجتماعية، والتطبيع مع سياسات التنازل التدريجي عن دور القطاع العام ومن قبل جميع الأطراف، إذن ما الذي يميز “الاجتماعي” في النهج الديمقراطي الاجتماعي للسياسة؟

لطالما همش حاملو يافطة الرأسمالية واليمين دور الدولة الحمائي والتعديلي، ولكن أثبتت الوقائع وخاصة أزمة الجائحة الصحية لوباء كورونا؛ تفاهة هذه السياسة أمام يقيننا بأنه بالإمكان أن تلعب الدولة دورا معززا في حياتنا دون تهديد لحرياتنا.

إذا أردنا استبدال الخوف بالأمل والثقة، فنحن بحاجة إلى قصة مختلفة نرويها، عن الدولة والمجتمع على حد سواء، قصة تحمل قناعة فكرية أخلاقية وسياسية، ولا تحصر منطلقات وضع السياسات العمومية في مجرد حساب مالي يراعي امتياز أصحاب المصالح لا المصلحة العامة، وإلا فالأمر سيكون مصدر قلق بالفعل ولن يتغير شيء يذكر.

يجب أن نحدد أولوياتنا، إنها بكل بساطة الأهداف التقليدية للديمقراطية الاجتماعية: التوازن العملي بين الحرية والإنصاف، ومراعاة المبادرة الفردية والتضامن والتماسك المجتمعي ضمن إطار الدولة الفاعلة لخدمة مصالح مواطنيها. لقد حان الوقت للاعتذار قليلا عن أوجه القصور الماضية وفظاعات من روّعتهم وحشية الرأسمالية غير المقيدة والبيروقراطية المقيتة، والتحدث بحزم أكبر عن دولة العدل الاجتماعي.

لن يكفي بعد الآن تحديد عيوب النظام وكفى، نحتاج إلى استعادة القدرة على التحدث بلغة أخلاقية وتطوير سرد متماسك عن بدائل يسار الوسط.

لست مثاليا، ولكن أرى أن هناك طريقة أفضل لتنظيم شؤوننا، إنها تسمى الديمقراطية الاجتماعية، وإنها أفضل من أي شيء آخر في متناول اليد اليوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *