الدعوة الى تحويل الديون الخارجية الى استثمارات .. الخصخصة في أبشع أشكالها ..بقلم جنات بن عبد الله


تزامنت زيارة رئيس الجمهورية قيس سعيد الى بروكسال يومي 3 و4 جوان 2021 للمشاركة في القمة الثانية تونس – الاتحاد الأوروبي، مع زيارة الوزير الأول الفرنسي جونكاستاكس الى تونس يومي 2 و3 جوان 2021 يرافقه وفد وزاري وعدد من رؤساء المؤسسات الاقتصادية الفرنسية لحضور أشغال الدورة الثالثة للمجلس الأعلى للتعاون التونسي الفرنسي.
وفي تصريح الى التلفزة الوطنية يوم الخميس 3 جوان 2021 ومن مقر سفارة تونس ببروكسال أوضح رئيس الجمهورية أنه انتقل الى العاصمة البلجيكية للحديث مع عدد من المسؤولين حول جملة من القضايا التي تتعلق بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس.
وفي اللقاء الذي جمعه يوم الجمعة 4 جوان 2021 برئيس المفوضية الأوروبية دعا رئيس الجمهورية الى النظر في إعادة جدولة ديون تونس لدى الاتحاد الأوروبي وتحويلها الى استثمارات مشيرا الى أن تونس تدرك حاجتها للقيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية جوهرية وهي تعول في ذلك على امكانياتها الوطنية بدرجة أولى وكذلك على دعم الاتحاد الأوروبي.
ونشير الى أن القمة تونس – الاتحاد الأوروبي التي حضر دورتها الأولى الرئيس السابق الباجي قائد السبسي بتاريخ 1 ديسمبر 2016 وكان مصحوبا بوزير الخارجية خميس الجهناوي، هي ألية أخرى اضافية بعثها الاتحاد الأوروبي لإحكام قبضته على تونس وهي الأولى من نوعها مع بلد متوسطي تم الإعلان عنها يوم 29 سبتمبر 2016 في البلاغ المشترك بين المفوضية الأوروبية والممثلة السامية للاتحاد الأوروبي من أجل، ما يدعيه الاتحاد الأوروبي، تدعيم المساندة الأوروبية لتونس.
في المقابل، وفي تونس، تحدث الوزير الأول الفرنسي في الندوة الصحفية المنعقدة بمقر رئاسة الحكومة يوم الخميس 3 جوان 2021 عن احداث وكالة تونسية للتصرف في الديون معلنا عن وضع فرنسا خبراتها الفنية لبعثها.
وقد أثار هذا التصريح ردود أفعال قوية من قبل عدد من الخبراء الاقتصاديين والماليين الذين اعتبروا في هذا التصريح تدخلا في الشأن الداخلي مما دفع بالمستشار الدبلوماسي لدى وزير المالية بتاريخ 4 جوان 2021 معز مهدي محمودي الى الدفاع عن الوكالة في مدونة له “أن الوكالة ستكون تونسية بالكامل مضيفا أن لا فرنسا ولا أية دولة أخرى ستشارك في إدارة الدين التونسي وأن المسألة تقتصر على الاستفادة من تجربة فرنسا في هذا المجال اذ أن وكالة “فرانس تريزور” (وكالة فرنسا الخزينة) تدير منذ سنة 2001 الديون الفرنسية مؤكدا أن المسألة ليست اعتداء على السيادة ولا انشاء للجنة مالية جديدة.
هذا التوضيح أثار الاستغراب باعتبار أن المخاطر الحقيقية لإحداث مثل هذه الهياكل لا يكمن في جنسية الأشخاص الذين يسهرون على تسييرها ولكن في الإطار القانوني الذي ينظمها والصلاحيات التي تتمتع بها وطبيعة تأثير هذه الصلاحيات على السيادة الوطنية وأملاك الدولة التونسية من مؤسسات عمومية وغيرها. كما أن المقارنة مع فرنسا لا تستقيم باعتبار طبيعة العملة، فالأورو هو عملة تداول دولية والدينار التونسي عملة وطنية فضلا عما يمثله انهيار عملتنا من تهديد على حقيقة قيمة الأملاك العمومية التي ستكون محل تقييم من قبل الوكالة.
تزامن الزيارتين في التوقيت، والجدل الذي أثارته تصريحات رئيس الجمهورية المتعلقة بالدعوة الى تحويل الديون الخارجية مع الاتحاد الأوروبي الى استثمارات وذلك لأول مرة دون سابق اعلام الشعب التونسي بذلك وخارج التراب التونسي من جهة، وكشف الوزير الأول الفرنسي عن بعث وكالة تونسية للتصرف في الدين العمومي من جهة ثانية، لم تكن صدفة بل هي رسائل مشفرة عن انخراط تونس في مسار الإعلان عن الإفلاس بطريقة “هادئة” والذهاب الى نادي باريس لإعادة جدولة الديون الخارجية وتحويلها الى استثمارات باعتبار أن الهيكل الوطني المسؤول عن التصرف في الدين العموميوتحويل أجزاء من هذه الديون الى استثمارات ليس الإدارة العامة للتصرف في الدين العمومي الحالية التابع لوزارة المالية، كما أن عملية التصرف في محفظة الدين لا تعني خدمة الدين كما هو الشأن اليوم ولكن التصرف في اتجاه تحويل الدين الى استثمار أجنبي وفتح المؤسسات العمومية والقطاعات الاستراتيجية أمام الشركات متعددة الجنسيات ورأس المال العالمي لامتلاك الأصول والاستحواذ على القطاعات الاستراتيجية حسب أجنداتها وليس حسب أولوياتنا التنموية في خرق صارخ لسيادتنا الوطنية.
ولئن فوجئت عدة أطراف بالحديث عن الوكالة التونسية للتصرف في الدين العمومي وربطتها بالكومسيون المالي الذي مهد للدخول الفرنسي في تونس وامضاء اتفاقية الحماية في سنة 1881 ، فان الإعلان عنها اليوم وفي هذا التوقيت الذي يتسم بانطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وعجز تونس عن تسديد ديونها الخارجية وتعبئة الموارد الماليةلميزانية الدولة لسنة 2021 يكشف عن استكمال عناصر السيناريو الذي وقع استدراج الشعب التونسي اليه منذ قمة دوفيل في ماي 2011 لمجموعة الدول الثمانية والتي فتحت الأبواب أمام صندوق النقد الدولي لإقراض تونس على خلفية الوقوف الى جانب الانتقال الديمقراطي ووضع برنامج إصلاحات هيكلية تعهدت الدولة التونسية بتنفيذه بمقتضى رسالة النوايا الأولى التي وقعها أنذاك وزير المالية الياس الفخفاخ والمرحوم الشاذلي العياري بصفته محافظا للبنك المركزي ورسالة النوايا الثانية في ماي 2016 التي وضعت عناصر برنامج الإصلاحات الهيكلية وتضمنت من بينها احداث الوكالة التونسية للتصرف في الدين العمومي بالنقطة 26 حيث تعهد الطرف التونسي ببعثها في سنة 2017 .
وبمقتضى هذا التعهد أعلنت وزارة المالية في سنة 2016 عن قرار احداث وكالة وطنية للتصرف في الديون والخزينة وذلك مع نهاية سنة 2016 والانطلاق في وضع الإطار المؤسساتي والتشريعي لعملها.
وفي جلسة عامة لمجلس النواب بتاريخ 1 ديسمبر 2020 دعا النائب عن حركة النهضة فتحي العيادي الى تفعيل احداث الوكالة التونسية للتصرف في الدين والمالية الخارجية أو ما أطلق عليها بوكالة تونس الخزينة على مقاس وكالة فرنسا الخزينة.
وفي برنامج الإصلاح الحكومي الذي توجهت به حكومة المشيشي الى واشنطن يوم 3 ماي 2021 تم الإعلان عن ضرورة احداث وكالة للتصرف في الدين العمومي وذلك للمزايا التي توفرها في التصرف في الدين العمومي ومنها النجاعة وحسن التوظيف حسب ما جاء في نص البرنامج.
وبعيدا عن التجاذبات والجدل الذي أثاره الحديث عن الوكالة التونسية للتصرف في الدين العمومي التي تم الانتهاء من وضع اطارها المؤسساتي والتشريعي والتي بمقتضى ذلك توكل لها مهام التصرف في الدين العمومي وشبه العمومي، أي ديون المؤسسات العمومية بضمانات الدولة، ليس من زاوية خدمة الدين كما هو الشأن حاليا مع الإدارة العامة للتصرف في الدين العمومي ولكن من زاوية التصرف في محفظة الدين والقيام بتحاليل دقيقة ومتشعبة تستند الى معايير السوق المالية العالمية بعيدا عن كل هاجس تنموي أو بعلاقة بالسيادة الوطنية ومخاطر التفويت في المؤسسات العمومية خاصة وأن هذه الوكالة تتمتع بالاستقلالية القانونية والمالية رغم الاعتراف بوجود رقابة الدولة على أعمالها باعتبار أن ديون الدولة هي ديون سيادية.
الخطير في عملية التصرف في الدين العمومي حسب الإطار المؤسساتي والتشريعي الجديد علاقته بألية تحويل الديون الخارجية الى استثمارات وما تمثله هذه الالية من تهديد حقيقي على الدولة الوطنية وممتلكاتها من مؤسسات عمومية ومطارات وموانئ …
فهذه الالية تعود الى الاقتصادي الأمريكي ألان ميلتزر (1928 – 2017) الذي اقترحها كحل للتخفيف من عبء الديون الخارجية بتحويل الدين الى استثمارات حيث اعتبر أن معظم الدول المدينة تملك مؤسسات عمومية ومطارات وموانئ … وباعتبار أن هذه الديون الخارجية هي بضمان من الدولة فانه بإمكان هذه البلدان التخفيف من عبء هذه الديون بالسماح للدائنين بمشاركة الدولة في ملكية هذه الأصول والممتلكات وادارتها.
الخطير في هذه المقاربة، غير البريئة، أن تحويل الدين الخارجي الى استثمارات أجنبية يمر عبر نقل ملكية الأصول والممتلكات العمومية للدولة الى المستثمر الأجنبي، أي تحويل الدين الخارجي الى حقوق ملكية دون جلب هذا المستثمر الأجنبي، الذي عادة ما يكون شركة متعددة الجنسيات، أي مليم من العملة الصعبة الى تونس باستثناء سند الدين الذي اشتراه من الدولة الدائنة والذي بمقتضاه يتحصل على حقوق الملكية في الدولة المدينة.
وبعبارة أوضح تعتبر الية تحويل الديون الخارجية الى استثمارات أحد أبشع أشكال الخصخصة التي جاءت بها الليبرالية العالمية من أجل الاستحواذ على المؤسسات العمومية وممتلكات البلدان النامية التي تم استدراجها الى الإفلاس من خلال برامج الإصلاحات الهيكلية المدمرة لكل مصادر خلق الثروة في هذه البلدان.
من هذا المنطلق تتضح الرؤية اليوم بخصوص أحد مهام الوكالة التونسية للتصرف في الدين العمومي،حسب تقديم وزارة المالية، المتمثلة في إرساء شبكات العلاقات على مستوى الأسواق المالية العالمية ومع الممولين والمستثمرين والوسطاء الماليين ومختلف محترفي عمليات الإصدار المالي إضافة الى القيام بالحملات الإعلامية اللازمة بما في ذلك برمجة مقابلات وزيارات للفاعلين الاقتصاديين والماليين..
ومن هذا المنطلق أيضا نفهم اليوم حقيقة ما جاء بالكتاب الأبيض الصادر في سنة 2018 عن رئاسة الحكومة والذي تم إنجازه بتوصية من صندوق النقد الدولي في إطار برنامج الإصلاحات الهيكلية الكبرى والذي يروج له كإنجاز في مسار إنقاذ المؤسسات العمومية لنكتشف أنه عبارة عن وثيقة رسمية قامت بضبط معايير جرد المؤسسات العمومية التي ستشكل موضوع المقايضة في مسار تحويل الديون الخارجية الى استثمارات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *