الجزائر: إرث الصراعات الاثنية/الجهوية وسيناريوهات توظيفها مُستقبلا (1 من 4)

علي عبداللطيف اللافي

كاتب ومحلل سياسي مختص في الشؤون الافريقية

  تمهيد  

تعمل أطراف مختلفة في الداخل والخارج على مسارات عدة لضرب الحراك الجزائر منذ انطلاقته في 22 فيفري الماضي وإعاقة الانتقال الديمقراطي المفترض بهدف الحفاظ على مصالحها ومصالح حلفائها المحليين والإقليميين والدوليين[1]، ومن بين أهم الأدوات التي قد تُستعمل خلال الأسابيع والأشهر (المدى القريب)والسنوات القادمة (المدى المتوسط)، هو اللعب على عامل الصراع الإثني والجهوي في الجزائر، ورغم أن هذا العامل ضعيف عمليا طوال العقود الماضية ولكنه خطير وهو يماثل الإرهاب من حيث تأثيراته ونتائجه الكارثية وفي خطورته على المجتمع والاقتصاد، ورغم أن النظام الجزائري بقي في جوهره نظاما وطنيا وليس اثنيا ولا جهويا، فقد أثبتت الأحداث منذ بداية الستينات حدود توظيفه كعامل بل وتبين للمتابعين أن الجهوية ضعفُت كثيرا وكذلك الاثنية رغم محاولات الإعلام الغربي تأجيج هذا الصراع في أكثر من مناسبة ….

وسنحاول في هذه الدراسة البحثية والرصدية سبر أغوار وتفاصيل هذين العاملين وإسقاطاتهما التاريخية والحالية وتمركز الأطراف الإقليمية والدولية في الثنايا والتفاصيل وإمكانيات توظيفهما؟

الحلقة الأولى : الصراع الاثني عرب/بربر وهيمنة التحالف العربي/الشاوي

يُعد الخلاف الاثني أكثر الصراعات خطورة وحساسية ذلك أن دوافعه لا تكمن في الأجهزة والأفكار وتناقضاتها وإنما هو إرث تاريخي فرض ويفرض نفسه على الفاعل السياسي فيصبح الانتماء العرقي مُحددا لاختياراته ومواقفه وقرارته، وقد عملت الأجهزة الاستعمارية على الاستفادة من هذه المعطيات عبر تغذيتها لهذا النوع من الصراعات بل هي استغلت يومها طبيعة التخلف الاجتماعي والسياسي المحلي،  ورغم أن النخبة الجزائرية التي قادت جبهة التحرير الوطني لم تعترف بهذا النوع من الخلافات فإن الملاحظين والباحثين والمتابعين أقروا بوجوده…

1- أولا – الصراع الإثني عرب/بربر

أ- يعتقد المُؤرخ الجزائري “محمد حربي” أن الصراعات الاثنية في الجزائر ظهرت إبان الفترة الاستعمارية وبالتحديد خلال العقد الثاني من القرن العشرين حيث برز التمذهب البربري من جهة والتمذهب العربي الإسلامي من جهة أخرى، وقد مست أغلبية الأحزاب المتواجدة على الساحة، كما أنها لم تخرج من إطار النخبة فلم تكن موضوعا مطروحا عند عامة الناس[2]

ب- جذور الخلاف تكمن فعليا في تركيبة المجتمع الجزائري نفسه، فهو منقسم بطبيعته إلى عرب وبربر، بل أن العرب وكما هو معلوم يمثلون أغلبية داخله ويتواجدون جغرافيا على كل مساحة الجزائر باستثناء منطقة القبائل “بجاية – تيزي وزو”[3]، أما البربر فهم منقسمون إلى أربع فئات:

  • القبائل: وأهم مركزهم يوجد في منطقة القبائل، وهي منقسمة إلى القبائل الصغرى (بجاية) والقبائل الكبرى (تبزي وزو)، وقد حافظوا على خصوصيتهم اللغوية “الأمازيغية ” ويعدون أكبر المٌعادين “للهيمنة العربية” منذ أكثر من خمس عقود و بخاصة القبايل الكبرى و معقلها “تيزي وزو”، أما القبائل الصغرى في “بجاية” فيعتبرون أكثر انفتاحا على العرب…
  • الشاوية: ويسكنون منطقة “الأوراس” -أي الولاية الأولى في الثورة- وتعرف اليوم بمدن: “خنشلة”، “تبسة”، “باتنة”، “سوق أهراس”، ويتميزون عن “القبايل” بعدم معاداتهم للعربية، بل يعدون أكثر المدافعين عنها، وقد رفضوا عمليا تشكيك بعض نخب القبايل في عروبة الجزائر، ومن أبرز أعلامهم نذكر الشيخ عبد الحميد بن باديس (وهو صاحب مقولة “العربية لغتي والإسلام ديني والجزائر وطني”) وأيضا “هواري بومدين” و”اليمين زروال”، ومعلوم أن لهم مراكز قوية في أجهزة الدولة وخاصة في الجيش…
  • المزاب: وهو من البربر ولكنهم أقل عدديا، ويعتمد أغلبهم المذهب “الاباضي” ولم يدخلوا في أي صراع نفوذ داخل الجبهة، أشهر أبنائهم “المفدي زكريا” أي صاحب النشيد الوطني الجزائري..
  • الطوارق: يقطنون جنوب الصحراء على الحدود المالية النيجرية والليبية، لم تكن لهم أي نشاطات سياسية ولا طموحات من أجل السلطة…

2- ثانيا- الجذور التاريخية لهيمنة التحالف “العربي – الشاوي”

إذا ما استعرضنا الأسماء التي تولت أهم المسؤوليات في الدولة الجزائرية المعاصرة (الرئاسة – رئاسة الحكومة- وزير الدفاع – المسؤولية الأولى في “جبهة التحرير الوطني”)، فيمكن تبين سيطرة شبه مطلقة لصالح التحالف “العربي/الشاوي” مقابل غياب شبه كلي للقبائل من مواقع القرار، ويمكن تفسير ذلك من خلال النقاط التالية:

1- من المعلوم أن “رئاسة الدولة” و”رئاسة الحكومة” و”وزارة الدفاع” و”قيادة جبهة التحرير الوطني”، كانت جميعها في يد “هواري بومدين”، حتى أنه هو المسؤول الوحيد الذي عرفته الجزائر منذ 1954 إلى اليوم، والذي تمكن من فرض سلطة مركزية قوية لم ينازعه فيها أحد، كما يمكن ملاحظة أنه لم يفرض “الشاوية” (وهو منهم) على المواقع العلنية في “الجبهة” وفي أجهزة الدولة باستثناء “محمد الصلح اليحياوي” الذي كلفه بإدارة الحزب، لكن وجوده سهل صعود ضباط كبار في الجيش من أصل “شاوي” مثل “خالد نزار” و”اليمين زروال”رغم أنه كان يُعلن دائما أنه لن يهدأ له جفن إلا بعد القضاء على الصراعات الاثنية والجهوية..

                                          هواري بومدين

2- “قاصدي مرباح” رئيس الحكومة الأسبق، والذي كان أثناء عهد بومدين مسؤولا عن الأمن العسكري، هو تقريبا الشخص الوحيد من القبايل الذي تولى مناصب عليا طوال عهدي “بومدين” و”بن جديد” مع أن المواقع المتميزة التي شغلها لم تكن في إطار توازن اثني، وإنما بسبب كفاءته وعلاقته الجيدة مع بومدين، و كان متشددا ضد أي محاولة للقبايل في العصيان مما دفعهم إلى اعتباره خائنا للقضية البربرية القبايلية…

                                                        الشاذلي بن جديد

3- عمليا من الصعب الاعتماد على عملية فرز المناصب لأنها لا تمكن موضوعيا إلا من معرفة نتائج الهيمنة بشكل وصفي[4] أكثر منه  تفسيري، مما يحيل إلى المقاربة التاريخية والتي هي ضرورية لفهم و تفسير آلية الهيمنة والإزاحة، وهو ما تؤكده النقاط اللاحقة…

4- أول أزمة حقيقية شهدتها الحركة الوطنية الجزائرية حول مسألة الحلف “العربي البربري”، كانت في حركة انتصار الحريات الديمقراطية سنة 1949 حينما رفض 28 عضوا من أصل 32 يشكلون فيدرالية فرنسا للحركة فكرة أن “الجزائر عربية إسلامية” وأيدوا أطروحة “الجزائر جزائرية”، واتسعت الأزمة حين فتحت الحركة اكتتاب من أجل فلسطين وعارضه البربر بقيادة “رشيد علي يحي”  وسرعان ما جرى الانزلاق إلى العداء لكل ما هو عربي و راح التطرف يتغذي من التطرف حتى قام “مصالي الحاج” (وهو عربي من الغرب) بحملة تطهير واسعة ضد التواجد القبايلي في الحزب وقال فيما بعد “كان ذو النزعة البربرية يدخلون الحزب كبارا وصغارا إلى كل المواقع فيه تقريبا، كجرثومة تدخل جسمها قد ضعف تنقلوا بسهولة وذهبوا هكذا يزرعون الجرثومة في كل فرنسا كانوا لفترة من الزمن سادة الحزب ..[5]

5- إثر انشقاق “حركة انتصار الحريات الديمقراطية” تسارعت الأحداث حتى ظهور “جبهة التحرير الوطني” التي وجد فيها المناضلون القبايليون مواقع قيادية منذ تأسيسها حتى أن أول هيئة تنفيذية قائدة للجبهة ولجنة التنسيق والتنفيذ كانت تحت هيمنتهم من خلال “عبان رمضان” و”كريم بلقاسم” وكانوا قادة للولايات مثل “مصطفى بن بولعيد” و”عميروش”، “آيت حمودة”، “سي الحواس”، ووزراء مثل “حسين آيت أحمد”…

                                                                  حسين ايت احمد

6- عندما تضاعف عدد مناضلي “جبهة التحرير الوطني” وأصبحت تعكس أكثر التركيبة الاثنية للمجتمع الجزائري، فلم يعد مقبولا أن تهيمن الأقلية “القبايلية” على الأكثرية العربية والشاوية داخل الجبهة ومن ثمة تعرضوا إلى حملة إقصاء وإزاحة فتم اغتيال “عبان رمضان”، وأزيح يومها القادة الآخرون مثل “كريم بلقاسم” و”آيت احمد” و ذلك في إطار الحد من هيمنتهم على الجبهة وهي هيمنة اكتسبوها بفضل أسبقية انضمامهم التاريخي، لقد فقدوا مواقعهم داخل الجبهة/الدولة لأنهم راهنوا على الحكومة المؤقتة وقاوموا “مجموعة تلمسان ” وجيشها المنظم…

7- اتخذ “أحمد بن بلا” (ول رئيس للجزائر المستقلة) قرارات حاسمة تجاه الجدل الدائر مؤكدا عروبة الجزائر و قال في خطاب له بتونس “نحن عرب، عرب، نحن عشرة ملايين عرب”، كما أن بومدين مضى في سياسة  التعريب وهو ما جعل القبايل أكثر عداوة للتحالف العربي الشاوي. واستمر نفس الأمر من حيث السياسات مع بن جديد الذي رد بعنف على أحداث مارس 1980 بــ”تيزي وزو” حينما انتفض الطلبة القبايل مطالبين بالاعتراف باللغة الأمازيغية و قال “أن الجزائر بلد عربي مسلم ولا مجال للتساؤل هل نحن عرب أم لا، فلغتنا هي العربية وديننا هو الإسلام(…) كما أن التراث الوطني ليس حكرا لجهة أو مجموعة معينة، لقد كانت النتيجة أن أعلن القبايل عن معاداتهم لجبهة التحرير الوطني و مقاومتهم لها….[6]

أحمد بن بلا 

8- قام القبائل بأول رد فعل عنيف في 29 سبتمبر/أيلول 1963 عندما ثاروا بقيادة حسين آيت أحمد الذي انسحب من جبهة التحرير الوطني وأسس “جبهة القوي الاشتراكية”، ولئن أكد هذا الأخير على أن الغاية من تأسيس هذا الحزب هو الدفاع عن الأطروحة الاشتراكية كما يراها، فإن الدعم الذي وجده في منطقته لا يمكن اعتباره دعما إيديولوجيا بقدر ما كان دعما اثنيا، ذلك أن حركته لم تجد أي صدى خارج منطقة القبايل، تمكن الجيش من إخماد هذه الثورة المسلحة واعتقال زعيمها الذي فر فيما بعد من سجنه ليستقر في أوروبا[7]، لكن مقاومة القبايل استمرت وكانت مطالبهم مركزة على الاعتراف باللغة الأمازيغية وتدريسها…

9- عمليا خسرت “جبهة التحرير الوطني” عددا كبيرا من مناضليها بناء على العامل الاثني نتاج رفض القبائل لهيمنة التواجد العربي والشاوي على الجبهة والدولة، ولم يتحقق احترام شعار الجبهة الذي عرفته في بيانها في أول نوفمبر 1954 و دعت فيه إلى “احترام كل الحريات الأساسية من دون تمييز عرقي أو طائفي، ومن ثمة ساهم هذا العامل  الصراع الإثني بدوره في إضعاف جبهة التحرير و إفقادها إشعاعها التاريخي وخاصة إبان ثورة التحرير وتحولت من جبهة للجميع إلى جبهة فئة معينة[8]

المصدر: صحيفة الرأي العام العدد 109 بتاريخ 23 ماي2019

ــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع: 

[1]  أنظر دراسة الكاتب حول “الجزائر: الحراك وبلورة خارطة سياسية جديدة”، أسبوعية الرأي العام التونسية الأعداد 104-105-106و 108

[2]   حربي (محمد)، “جبهة التحرير الوطني الأسطورة والواقع” ( مترجم) مؤسسات الأبحاث العربية  دار الكلمة بيروت 1983…

[3]  الصيداوي (رياض)، “صراعات النخب السياسية والعسكرية في الجزائر” ص 235-236 بتصرف  ط 2 تونس- جينيف 2019

[4]  أنظر مقال الكاتب في دورية 24/24 حول فسيفساء المشهد الحزبي في الجزائر ومستقبله في أفق نهاية 2019 بتاريخ 10 ماي 2019

[5]  الصيداوي (رياض) نفس المصدر ص 239 – بتصرف-

[6]  الصيداوي (رياض) نفس المصدر السابق ص 241 – بتصرف-

[7]  راجع مقال الكاتب حول فسيفساء المشهد الحزبي في الجزائر المشار اليه في هامش سابق…

[8]  الصيداوي(رياض)، نفس المصدر ص 243 – بتضرف-

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *