الجزء المتعلق بالجانب الاقتصادي في مبادرة السبسي يعود الى ستينات القرن الماضي .. بقلم جنات بن عبد الله 

جاء الجزء المتعلق بالجانب الاقتصادي في مبادرة رئيس الجمهورية حول تشكيل حكومة وحدة وطنية باهتا وفاقدا لمقومات تصحيح الوضع الاقتصادي، كما انعدم فيه التشخيص العلمي والموضوعي لأسباب الأزمة التي يمر بها الاقتصاد الوطني والتي عمقها انهيار قيمة الدينار التونسي أحد رموز السيادة الوطنية.

واجمالا لم يخرج نص المبادرة عن الطرح التقليدي البسيط والسطحي الذي يعود الى ستينات القرن الماضي حيث استعمل مصطلحات فقدت معناها ودلالاتها في ظل التحولات والتطورات التي مرت بها التجربة التونسية ومر بها اقتصادنا الوطني منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي مع تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي ثم اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لسنة 1995 اللذان شكلا جوهر منوال التنمية القائم الى ما بعد الثورة.

ورغم فشل هذا المنوال فان مؤشرات مواصلة اعتماده تتأكد يوما بعد يوم في ظل املاءات الاتحاد الأوروبي من خلال مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق، واملاءات صندوق النقد الدولي من خلال الشروط التي فرضها على تونس مقابل الحصول على قرض لتأمين موارد ميزانية التصرف لميزانية الدولة لسنة 2016 والموجهة الى كتلة الأجور والدعم وخدمة الدين في الوقت الذي يواصل الفاسدون استغلال الوضع لخدمة مصالحهم واقتراح أسماء أعضاء حكومة الوحدة الوطنية.

رئيس الجمهورية تعرض في مبادرته وفي الباب المتعلق بالوضع الاقتصادي الي طبيعة الأزمة الاقتصادية والتي تتمثل حسب رأيه في ” محدودية المنتظر من الوضع القائم في ظل النقص الفادح للاستثمارات الداخلية والخارجية وضعف فرص التشغيل”، تشخيص سطحي لواقع متأزم ومعقد وعميق عجزت عن تجاوزه الحكومات المتعاقبة بعد الثورة الى جانب حكومة الائتلاف.

هذا العجز لا يعود الى ” النقص الفادح للاستثمارات الداخلية والخارجية” فقط وانما الى طبيعة الالتزامات التي انخرطت فيها تونس منذ الاستقلال الى اليوم.

أول هذه الالتزامات تتمثل في الاتفاقيات الست التي وقعتها تونس مع فرنسا في 3 جوان 1955 والتي من أهم شروطها وبالتحديد في الاتفاقية الاقتصادية هو التزام الدولة التونسية بعدم تأميم الشركات الأجنبية المنتصبة في تونس قبل الاستقلال “مطلقا ” والناشطة في مجال النفط والمناجم والمحروقات واستخراج ثرواتنا الطبيعية. هذه الاتفاقيات ورغم تنصيص بروتوكول الاستقلال لسنة 1956 على تعديلها حيث تنص الفقرة ب من البروتوكول على ” أن أحكام اتفاقيات 3 جوان 1955 التي قد تكون متعارضة مع وضع تونس الجديد وهي دولة مستقلة ذات سيادة سيقع تعديلها أو الغاؤها”، فانه أي من حكومات بعد الثورة لم تبادر بذلك رغم الظروف السياسية الجديدة التي أرساها الدستور الجديد من خلال الفصل 13 المتعلق باسترجاع الشعب التونسي لسيادته على الثروات الطبيعية.

كما يعود هذا العجز الى التزاماتنا تجاه صندوق النقد الدولي في إطار برنامج الإصلاح الهيكلي الذي فرض على الدولة التخلي عن القطاعات ذات البعد الاجتماعي وخصخصة الشركات الوطنية التي كانت تشكل العمود الفقري لنسيجنا الصناعي وتهميش القطاع الفلاحي بسبب عدم توفر الاعتمادات بعنوان دعم القطاع حسب رؤية الصندوق والتي تتعارض مع كل السياسات الفلاحية المعتمدة في الدول المتقدمة التي نجحت في الارتقاء بأداء القطاع بفضل سخاء الدولة ودعمها له.

كما يعود هذا العجز الى التزاماتنا تجاه الاتحاد الأوروبي في إطار اتفاقية الشراكة لسنة 1995 والذي فككت تونس بمقتضاه المعاليم الديوانية، اجراء تسبب في حرمان ميزانية الدولة من مواردها الأساسية لتقتصر منذ ذلك التاريخ على الموارد الجبائية، حيث بلغت هذه الخسائر حسب بعض الدراسات حوالي 23 مليار دينار خلال الفترة 1996 – 2008 مما تسبب في تدهور الخدمات العمومية من تعليم وصحة ونقل. ورغم الظروف  التي وفرتها الثورة وإمكانية مراجعة هذه الاتفاقية التي لم تنص على  تحديد أجل لمراجعتها وتقييمها بما يؤكد هيمنة واضحة للاتحاد الأوروبي على القرار السيادي للدولة التونسية ، فان أي من الحكومات لم تطالب لا بالمراجعة ولم تقم بالتقييم بل دخلت تونس مرحلة التفاوض من جديد مع الاتحاد الأوروبي في اطار مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق دون اذن من مجلس نواب الشعب، وهو ما يعتبر خرقا للدستور وخاصة الفصل 129 الذي ينص على بعث “هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة التي تستشار وجوبا في مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وفي مخططات التنمية”. والخطير أيضا في اتفاقية الشراكة لسنة 1995 تجاوزها الصارخ لمجال تطبيقها حيث تم الاتفاق على تحرير المبادلات التجارية للمنتوجات الصناعية وارجاء تحرير قطاعي الفلاحة والخدمات الا أن الاتحاد الأوروبي وبتواطؤ مع النظام السابق سارع بتحرير قطاع الخدمات وتمت خصخصة عدد من البنوك العمومية وقطاع الاتصالات الذي يشكل قطاعا استراتيجيا يتضمن قاعدة المعطيات الشخصية للشعب التونسي وتم التفويت فيه للشركات الأجنبية في إطار اتفاقية الشراكة.

لقد شكلت هذه الالتزامات محور منوال التنمية الذي كان وراء تدمير قطاع الفلاحة والقطاع الصناعي وقطاع الخدمات حيث استولت الشركات الأجنبية على أهم الأنشطة على حساب المستثمر الوطني، ليجني المواطن التونسي مزيدا من الفقر، والجهات مزيدا من التهميش، والشباب مزيدا من الاقصاء والبطالة ليتوج هذا الدمار الشامل بضرب العملة الوطنية.

واليوم وبعد “ثورة الحرية والكرامة” كما وصفها السبسي في مبادرته يعيد التاريخ نفسه ويصر حكام تونس الجدد على اسقاط “تونس بعد الثورة” في نفس مستنقع الالتزامات السالبة لسيادتنا الوطنية ويواصل السبسي اللعب بعواطف التونسيين كما فعل في حملته في الانتخابات الرئاسية حيث وعد بتحسين المقدرة الشرائية ومقاومة الفقر وإخراج الجهات من التخلف والتهميش ودفع الاستثمار الداخلي والخارجي وخلق مواطن الشغل …كل ذلك بفضل برنامجه الاقتصادي الذي صممه 120 خبيرا، وعود لم يجد المواطن أثرا لها في حياته بعد سنة ونصف عن تولي السبسي منصب رئاسة الجمهورية ، بل ان حكومة الائتلاف وبفضل هذا البرنامج نجحت في تكريس عكس هذه الوعود لتتفاقم البطالة وتتدهور المقدرة الشرائية ويتفاقم الفقر ويتفاقم عجز ميزانية الدولة وعجز الميزان التجاري والميزان الجاري ويعترف كل من محافظ البنك المركزي التونسي ووزير المالية بأن قيمة الدينار التونسي مبالغ فيها ويتعهد بالتخلي عن حمايته تعهد ورد في رسالة النوايا التي بعثها الى صندوق النقد الدولي بتاريخ 2 ماي 2016، كل ذلك تحت أنظار رئيس الجمهورية المسؤول بحكم الدستور على حماية البلاد، بما يعني حماية سيادتها الوطنية وسيادتها النقدية، وضع لم تشهده بلادنا طوال العقود الستة الماضية ليسجل التاريخ وبالأحرف الكبيرة أن تونس تخلت عن سيادتها النقدية في عهد الباجي قائد السبسي.

ومن هذا المنطلق ماذا يمكن أن ننتظر من صاحب مبادرة تشكيل حكومة وحدة وطنية فرط في سيادتنا النقدية ولم يحرك ساكنا لتحرير تونس من قيود الماضي وشروط الحاضر وماذا يمكن أن ننتظر من حكومة وحدة وطنية سيتولى رئيس الدولة اختيار رئيسها؟

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *