التلفزيون العربي في تغطياته لما يجد منذ 25 جويلية : كيف “تلوث” العقول

يلاحظ المشاهد التونسي أن بعض القنوات التلفزيونية العربية تتحرك في تغطيتاها حسب أجندات تعكس رؤى و تصورات معينة بالنسبة إلى ما يجد في تونس. و أن هذه التغطيات تعكس في أفضل الحالات جزءا من الواقع. فما هي أهم الطرق المتبعة لمغالطة المشاهد و التي يمكن أن نقف عليها ؟

حذار وألف حذار. حذار من عدد من القنوات العربية التي تصول و تجول في السماء زارعة رؤى و تصورات لواقعنا التونسي حسب هواها و بالأحرى حسب أجنداتها. الأمر أصبح واضحا اليوم بسبب الاختلاف الذي يلاحظه المواطن التونسي في التغطيات الحاصلة خاصة لما يجد منذ 25 جويلية والقرارات التي اتخذها رئيس الجمهورية بهذه المناسبة. وذلك بالرغم من أنه لا يعي دوما الأليات المستخدمة و التي تمارس في حقيقة الأمر منذ سنوات عدة.

نتوقف أولا و بالذات عند مسألة الأجندات و التي تعكس ما يسمى بالخط التحريري أي جملة التوجهات الفكرية التي تجعل وسيلة إعلامية تقارب موضوعا ما بطريقة ما تبرز من خلال عديد المتغيرات منها الإخراج و اللغة المستخدمة و الشهادات و المصادر المعتمدة و غير ذلك.

ويحق ان نذكر هنا النظرية التي أتى بما كل من ماكسوال ماك كوبس و دونا لد شاو و المعروفة بنظرية “ترتيب الأولويات” و التي تقول أن ” وسائل الاعلام لا تستطيع ان تقدم جميع الموضوعات والقضايا التي تقع في المجتمع وانما يختار القائمون على هذه الوسائل بعض الموضوعات التي يتم التركيز عليها بشدة والتحكم في طبيعتها ومحتواها. وفي المقابل تثير هذه الموضوعات اهتمامات الناس تدريجيا وتجعلهم يدركونها ويفكرون فيها ويقلقون بشأنها”.

وهي نظرية أثبت الواقع صحتها وجدواها من خلال دراسات ميدانية بينت أن وسائل الإعلام وبالاستعانة بميكانيزمات معينة نجحت في تركيز الاهتمام على أحداث دون أخرى وعلى اعتماد قراءة لهذه الأحداث من الزاوية التي تختارها في تغطياتها.

التعتيم أو التوسع في التغطية

و هنا يكمن بالطبع موضوعنا و أول ما يمكن أن تلجأ إليه القنوات التلفزيونية العربية هو تحديد المساحة التي ستخصصها للحدث. التعتيم أو التوسع في التغطية هما خياران يمكن اللجوء إيلهما. وبين هذا وذاك مجالات كبيرة للتعاطي.

الشيء الذي يعني أن التعرض للخبر لا يعني البتة التعريف به كما تقتضي أحيانا الحاجة. فقد تقتصر قناة بذكره في كلمات قليلة تكتفي فيها بتقديم ماهيته من خلال العناصر الأربعة المعروفة والتي تدرس للصحافيين الشبان: من؟ ماذا؟ متى؟ وأين؟ أي أنها تمر على الخبر مرور الكرام.

على عكس ذلك يمكنها إن كان ذلك يتواءم وأجنداتها أن تخصص للخبر حيزا كبيرا من الوقت وأن تتطرق إليه من خلال وحدات كثيرة و متنوعة نجد فيها أجناس صحفية مختلفة من الريبورتاج إلى التفسير و التعليق هذا فضلا عن مقاربته من زاويا متعددة.

يكون ذلك داخل نشراتها الإخبارية وخارجها على غرار بث لصفحات خاصة و نقل مباشر للأحداث كالندوات الصحفية و الخطب و من خلال كذلك البلاتوهات التي تفتح بالمناسبة و يتم دعوة خبراء و مختصون لتأثيثها. و من المعروف في هذا المجال أن أساليب مغالطة المشاهد متنوعة كاعتماد محاور دون أخرى و اختيار الضيوف الذين يفون بالحاجة.

فكثيرا ما يتم دعوة كفاءات تخدم رؤية القناة و في نفس الوقت كفاءات أخرى أقل قيمة لا تخدم رؤى القناة على اعتبار ضرورة الحياد و لكنه حياد مغلوط لأن الحوار يفضي دائما إلى تغلب الكفاءات الأولى على الثانية الشيء الذي يترك انطباعا معينا يخدم دوما القراءة التي ترغب الوسيلة الإعلامية في تبليغها.

الفرق بين استخدام الصورة الثابتة و الصورة المتحركة

هذا فضلا عن سياسة الانتقاء. فالمغالطة تتم عبر ذكر عناصر دون أخرى. أي العناصر التي تخدم الرؤى و القناعات التي ترغب القناة التلفزيونية في إبرازها. و قد حصل أن يشعر المشاهد و بالنسبة إلى نفس الخبر أن القنوات لا تتحدث عن نفس الحدث. ففي خصوص أحداث 25 جويلية 2021 قدمت قنوات تلفزيونية مقتطفات مختلفة من البلاغ الصادر يوم 26 جويلية 2021 عن الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان متوازنا. و لم تر فيه قناة معروفة بقربها من الإخوان المسلمين إلا الجوانب التي لا تخدم القرارات الرئاسية متناسية أخرى.

و تلعب الصورة دورا أساسيا في هذه المغالطة بصفتها قادرة أكثر من الكلمة على هز المشاعر. فهناك مثلا فرق بين استخدام الصورة الثابتة و الصورة المتحركة أي مقطع الفيديو. فالثانية أكثر تأثيرا غالبا لأنها تصور أكثر الواقع وتستعمل الكلمة و الصوت.

و في هذا الباب ومهما كانت طبيعة الصورة فإن المغالطة تتمثل في محوار الصورة. فقد لاحظ العديد من التونسيين أن القنوات التلفزيونية العربية لم تنقل نفس المشاهد عن حراك 25 جويلية 2021. ففي حين صورت قناة عربية معروفة بأجنداتها الإخوانية صور عنف صادر عن شباب الحراك في عديد الفضاءات العمومية مثل إلقاء الحجارة بثت قناة أخرى معروفة بقربها من دولة خليجية من المعسكر المضاد عكس هذه الصور لتبيين أن العنف صادر عن المتعاطفين مع حركة النهضة.

إحداث “سلطة خامسة”

و تبقى مسألة ترتيب الأخبار من أسس التغطيات التي ترقى إلى مستوى الدعاية. ففي حين تأتي الأخبار المتعلقة بحدث ما في صدارة النشرات الأخبارية مع ذكرها ضمن العناوين فإن قنوات أخرى تقوم بتذييلها. علما أن دراسات عديدة تبين أن المشاهد يكتفي في نسب مرتفعة بعناوين النشرات ويمر إلى برامج أخرى في وسائل إعلامية أخرى. كما تعمد القنوات التلفزيونية في سعيها هذا إلى الاستعانة بعنصر التكرار وبرمجة المضامين في أوقات الذروة لتوفرما يلزم من متابعة. أي في أوقات يكون فيها المشاهد في بيته و خارج أوقات العمل العادية.

وهي ألاعيب لا يتفطن إليها غالبا إلا من له إلمام بسلوك وسائل الإعلام. لذلك تتولى المدرسة و عدد من الجمعيات تثقيف المواطن كي لا يسقط في فخ هذه المناورات لوسائل الاعلام إن صح التعبير و التي تبني خطها التحرير على ممارسات لا تخدم الخبر اليقين.

و قد نبه الباحثان نعوم شومسكي و إدوارد هرمانسنة 1988 في كتابهما “تصنيع الموافقة” إلى الدور الدعائي الذي تقوم به وسائل الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية. و هو أمرينسحب على دول و مناطق أخرى من العالم. و قد بينا نعوم شومسكي و إدوارد هرمان الارتباط الموجود بين هذه الوسائل الإعلامية و الوسط السياسي و الشركات الكبرى و من بينها تلك التي تقوم بصناعة الأسلحة.

و قد ذهب الصحفي الأرجنتيني إنياسيو راموني أبعد من نلك عندما دعا في مقال نشره في جريدة “لوموند ديبلوماتيك” التي كان يديرها سنة 2003 إلى ضرورة إحداث “سلطة خامسة” تتولى مراقبة ما تقوم به وسائل الإعلام من “تلويث” للعقول و التشهير بما تقوم به “السلطة الرابعة” في هذا المجال.

بقلم: محمد قنطاره

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *