الاستجابات المتطرفة: التأثيرات الممتدة لهجوم “نيس” في فرنسا والاتحاد الأوروبي

لن تقتصر تداعيات الهجمات الإرهابية التي استهدفت فرنسا على مدى السنة ونصف السنة الماضيين والتي كان آخرها هجوم نيس الذي نفذه التونسي محمد سلمان الحويج بوهلال (31 عامًا) في وقت متأخر من 14 يوليو الماضي، على الداخل الفرنسي والانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، بل تمتد إلى النقاش السياسي والأمني داخل الاتحاد الأوروبي.

عقب تنفيذ الهجوم الذي أدوى بحياة 84 شخصًا، أعلنت وكالة “أعماق” التي تُعتبر الذراع الإعلامية لتنظيم “داعش” مسئوليتها عن هذا الهجوم. فقد أشار التنظيم -في بيانه- إلى أن “منفذ عملية الدهس في نيس بفرنسا هو أحد جنود الدولة الإسلامية، ونفذ العملية استجابة لنداءات استهداف رعايا دول التحالف الذي يقاتل الدولة الإسلامية”.

أسباب تنفيذ داعش هجوم نيس؟

يُشير تحليل نشرته مؤسسة “جيوبوليتيكال فيوتشرز” الأمريكية بعنوان “الاستراتيجية وراء هجوم نيس” إلى أن هدف تنظيم “داعش” هو إقامة خلافة متعددة القوميات توحد البلدان الإسلامية تحت راية دولة واحدة، ولكي يفعل التنظيم هذا فلا بد له من توحيد المسلمين، ولكي يوحّد المسلمين فلا بد له من صنع عدوٍّ واضح لا مراء فيه ولا سبيل إلى التغلب عليه إلا بالوحدة. وفي الوقت الراهن لا يوجد مثل هذا العدو الذي من شأنه دفع المسلمين إلى توحيد صفوفهم، ويريد “داعش” خلق هذا العدو.

وفي هذا السياق، يرى التحليل أن وقوع هجمات متعددة كهجوم نيس من شأنه ترهيب السكان على مر الوقت، وعندما يحدث هذا، تكون هناك عواقب سياسية، تتمثل في، أولا: الحكومات التي تحدثت عن المآسي السابقة لكنها لم تستطع الحيلولة دون وقوع المزيد من الهجمات تفقد شرعيتها. ثانيًا: لا توجد استجابة معتدلة يمكنها أن تفلح في هذا الصدد، ولن تفلح غير الاستجابات المتطرفة كعمليات الترحيل الجماعي أو ما هو أسوأ. وبشنّ ما يكفي من هجمات إرهابية، يمكن التسبب في نتائج لا تخطر ببال.

وهذا بالضبط ما يريد تنظيم “داعش” تحقيقه. فهو يريد استجابة متطرفة لدرجة أنها توحد المسلمين في كل مكان. ومكمن قوة استراتيجية “داعش” -برأي التحليل- أن تدفع فرنسا والغرب لاستجابة متطرفة ترتب استجابة في العالم الإسلامي تصب في مصلحة التنظيم.

وأوضح التحليل أن الشيء الذي حال دون انفجار الوضع هو أنه لم يقع إلا عدد قليل نسبيًّا في الأحداث الكارثية المماثلة لهجوم نيس، وربما يكون السبب في هذا عدم امتلاك “داعش” عناصر كافية، أو نجاح الاستخبارات الغربية في اكتشاف الخلايا الإرهابية وتدميرها. لكن إذا ازداد العدد، فالاستجابة المنطقية الوحيدة ستكون الخوف، والخوف يقتضي الفعل، حيث يصير الخوف قوة لا تقاوم. ويشير التحليل إلى أن تنظيم داعش لم يدفع شعوب الدول الغربية إلى الشعور بمنتهى الخوف، مما يعني أن احتمال وقوع المزيد من الهجمات المتكررة كبير.

الإرهاب والأجندة السياسية الفرنسية

ستبدأ الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، المقرر انطلاقها في أبريل 2017، في غضون تسعة أشهر فحسب. وفيما لا يزال الهجوم الإرهابي الذي وقع في يناير 2015 على مجلة “شارلي إبدو” والهجمات التي وقعت في نوفمبر 2015 في وسط باريس ماثلة في أذهان المواطنين الفرنسيين؛ فإن القضايا من قبيل الأمن الداخلي والرقابة على الحدود والحرب ضد الإرهاب ودور الأقليات في فرنسا ستبرز بقوة في هذه الحملة. ويشير تحليل نشرته مؤسسة “ستراتفور” الأمريكية المعنية بالتحليلات الجيوسياسية والاستخباراتية بعنوان “كيف ستستجيب فرنسا لهجوم نيس” إلى أن قضية الإرهاب في الداخل والخارج ستلعب دورًا مهمًّا في الأجندة السياسية لحزب الجمهوريين الذي ينتمي إلى يمين الوسط والذي يركز تقليديًّا على قضايا الأمن والقانون والنظام، وفي أجندة حزب الجبهة الوطنية الذي ينتمي إلى الجناح اليميني، ويتخذ موقفًا قويًّا ضد المسلمين؛ إذ من المحتمل أن يتهم كلا الحزبين حكومة الحزب الاشتراكي التي تتولى السلطة الآن بالإخفاق في حماية فرنسا.

وينتقد كلٌّ من حزب الجمهوريين وحزب الجبهة الوطنية -وإن بدرجات متفاوتة- اتفاقية الشنجن التي أزالت الرقابة الحدودية في معظم بلدان أوروبا الغربية. فقد وعد الجمهوريون بإصلاح الشنجن، وإعطاء فرنسا سيطرة أكبر على حدودها، وأما الجبهة الوطنية فتريد إلغاء الاتفاقية بالكلية. ويُذكر أن الإرهابيين الذين تورطوا في هجمات نوفمبر 2015 في باريس تنقّلوا بحرية بين فرنسا وبلجيكا، وسيستغل كلا الحزبين هذه الحقيقة لتبرير الانتقادات التي يوجهانها للاتفاقية. ولو أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى تدهور كبير في الاقتصاد البريطاني، فمن الممكن أن تقرر الجبهة الوطنية التركيز على القضايا الأمنية بدلا من الاقتصاد -مثلما كانت تفعل في الماضي- لتهاجم شرعية الاتحاد الأوروبي.

وبحسب التحليل، لن يكون الجمهوريون والجبهة الوطنية على الأرجح وحدهما في نقدهما اتفاقية الشنجن، إذ إن هناك قوى أخرى في أوروبا من المحافظين والمشككين في جدوى الاتحاد الأوروبي تعرب أيضًا عن انتقادها لهذه الاتفاقية، حيث تطالب بعض الأحزاب بإنهائها تمامًا، وأما بعضها الآخر فيطالب بطرد الدول الأعضاء التي تخفق في السيطرة على حدوها كما ينبغي. وليس الإرهاب هو السبب الوحيد لمصدر الخوف، إذ أغلقت البلدان حدودها على امتداد مسار الهجرة العابر لمنطقة البلقان وفي بلدان من ضمنها النمسا وألمانيا والدنمارك والسويد بسبب مخاوف من الهجرة الوافدة. ولن تؤدي الهجمات التي وقعت أخيرًا إلا إلى تلاقي نقاشي الهجرة الوافدة والإرهاب، وستستغلهما الأحزاب القومية في عموم الاتحاد الأوروبي لإعطاء دفعة لأجنداتها المناهضة للمسلمين.

نقاش أمني حول أوروبا الكبرى

أوضح تحليل “ستراتفور” أن هجوم نيس سيدخل في النقاشات الدائرة في الاتحاد الأوروبي حول مقترحات زيادة التعاون في القضايا الأمنية وخطط تعزيز التنسيق العسكري الأوروبي. ففي الأسابيع التي سبقت الاستفتاء البريطاني على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، بدأت فرنسا وألمانيا تناقشان مقترحات توحيد أوروبا. وكثرت هذه الأحاديث بعد أن صوّت الشعب البريطاني لصالح الرحيل عن الكتلة. ونظرًا لقوة المشاعر المشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي حاليًّا، قررت باريس وبرلين عدم التركيز على القضايا المثيرة للجدل، كتعزيز التكامل في منطقة اليورو، وتعكفان بدلا من ذلك على مجالات من قبيل تحسين السيطرة على حدود الاتحاد الخارجية، وزيادة التعاون في القضايا الأمنية. وسوف يعزز هجوم نيس تركيز الاتحاد الأوروبي على دفع عجلة هذه الجهود بدلا من القضايا الأكثر إثارة للشقاق كالتكامل الاقتصادي.

وفيما يتعلق بالتعاون العسكري نجد أن فرنسا طلبت بعد هجمات باريس من نظيراتها من الدول الأوروبية مساعدة الجيش الفرنسي المثقل بالأعباء في عملياته في الخارج، إذ تعتبر فرنسا من الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي القلائل التي تتمتع بحضور عسكري عالمي بحق. وهذا يفسر لماذا انخرطت فرنسا وألمانيا في مناقشة اضطلاع برلين بدور عسكري أكبر، إذ أعلنت وزارة الدفاع الألمانية في 13 يوليو عن خطط لزيادة الإنفاق العسكري خلال العقد المقبل ولتبني دور أكثر نشاطًا في الخارج. لكن لأسباب تاريخية، لن تستسيغ فرنسا والدول الأخرى أعضاء الاتحاد الأوروبي زيادة نشاط ألمانيا العسكري إلا إذا حدث هذا في إطار الاتحاد الأوروبي.

لكن على الرغم من أن فرنسا وألمانيا والدول الأخرى أعضاء الاتحاد الأوروبي ستتعهد بزيادة التعاون الأمني والعسكري في الأيام المقبلة، هناك عوامل عديدة ستقيد أفعالها، بحسب تحليل “ستراتفور”، وأولها الاختلاف القائم بين الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي الثمانية والعشرين في أولوياتها ومواردها ومستويات خبرتها فيما يتعلق بمحاربة الجريمة والإرهاب الدوليين، إذ تتمتع البلدان من أمثال فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا بخبرة كبيرة في مكافحة الإرهاب، وتملك موارد كافية للاحتفاظ بأجهزة قوية نسبيًّا لمكافحة الإرهاب، والاستخبارات. لكن هذا لا يصْدق على البلدان الأصغر حجمًا والأقل خبرة والأصغر ميزانية، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية التي تجبر الحكومات على إحداث توازن بين تمويل الأجهزة الأمنية والإبقاء على عجز الموازنات تحت السيطرة.

ولفت تحليل “ستراتفور” النظر إلى أنه توجد أيضًا قيود إضافية أمام إنشاء اتحاد أمني تابع للاتحاد الأوروبي، إذ ما زالت الحكومات الأوروبية، على الرغم من تعهداتها المتواصلة بتحسين التعاون العابر للحدود الوطنية، عازفة عن تبادل المعلومات الاستخباراتية وغيرها من المعلومات، وحتى بعد ستة عقود من التكامل بين القارة، ما زالت البلدان تَحْذر التخلي عن سيادتها على قضايا حساسة كالأمن القومي. وتلعب البيروقراطية أيضًا دورًا في هذا الشأن، إذ يملك كل من الاتحاد الأوروبي والحكومات الوطنية مؤسسات للبيانات منفصلة لا ارتباط بينها في الغالب، ونتيجة لذلك سيواصل الاتحاد الأوروبي معاناته من المشكلات المتعلقة ببيئته الأمنية المفتتة وذلك لسبب بسيط وهو أن هياكله تصعّب عليه الاستجابة بشكل متلاحم. وأخيرًا هناك الانتخابات العامة التي ستشهدها فرنسا وألمانيا في عام 2017، مما سيصرف أنظار البلدين عن تنفيذ إصلاحات كبيرة في الاتحاد الأوروبي.

 

المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية

اعداد: طارق راشد
باحث علوم سياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *