الاحلام المقيدة .. شهادة جيل عن ضياع احلام ومصير وطن .. بقلم عبد العزيز التميمي

 

بادر المثقف العضوي والصديق المنصف سليطي بإصدار رواية “الاحلام المقيدة Les Rêves Enchaînés”

وهي رواية طريفة ومفعمة بالذاكرة الخصبة تيمنا بعنوان الشريط السينمائي “الذاكرة الخصبة” للمخرج العربي الفلسطيني ميشال خليفة.

فرواية الاحلام المقيدة مليئة بحركة الواقع الحي المتمدد في تاريخ تونس الحديث والمعاصر…ومزدحمة بجدلية المعركة الأزلية بين الاستبداد والحرية والحق والباطل ومكتظة بالتساؤلات حول دور المثقف ومكانته في التصدي للقهر والاضطهاد السياسي وتعزيز قوى التحرر والكفاح الوطني.

روح المستقبل

وستكون هذه الرواية بكل تأكيد باكورة اعماله وهو الان بصدد ترجمتها وتقديمها باللغة العربية …فقد كشفت الرواية عن روح وثابة نحو المستقبل عند إعادة صياغة الأحداث وتركيب تفاصيلها حتى تساهم ولو بأقدار محدودة في بناء ونحت لوعي جنيني لازال يتشكل في الضمير الجمعي للأجيال القادمة التي تنبض بالحياة وتخفق بالأمل وحبلى بأحلام وردية لتجاوز واقعنا التونسي المفعم بالارتباك والرداءة والبؤس..

لغة الرواية لغة جامعة

ووجه الطرافة الأول في الرواية انها كتبت بلغة “لإمارتين وهوغو وسنغور” وبأسلوب جذاب ومشوق، كتبت باللغة الفرنسية-المتدحرجة في العالم-ولكنها لازالت مأثرة في محيطنا وفي تعليمنا وفي ثقافتنا وفي المشهد الإعلامي والسياسي. فهي لغة جامحة وجامعة

لقراء الضفتين الجنوبية والشمالية للبحر الأبيض المتوسط، التي أرادها الاحرار من مثقفي المتوسط بحيرة سلام على الرغم مما يضطرم بين امواجها اليوم من جثث للشباب “الحارقين ” الذين سُلبت أحلامهم وعلى الرغم من تصاعد مزعج للخطاب العنصري والشعبوي وبالرغم من الاستمرار في نهب ثروات الشعوب وخيراتها من قبل القوى الاستيطانية وممثيلها!

فقد اختار السليطي الانضمام إلى الطيف القليل من الرواة والمثقفين الذين اهتموا ببناء سردية روائية تخاطب القوم بلغتهم وتخاطب الناطقين باللسان الفرنسي مثاقفة وحوارا وتعارفا وكشفا واكتشافا لما فعله التاريخ لأجيال من التونسيات والتونسيين في ازمنة الكولولونيالية وازمنة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية.

شهادات للتاريخ

ووجه الطرافة الثاني ان الكتاب اجتهد في احترام العناصر الفنية للبناء الأدبي (من شخصيات وتحديد الزمان والمكان وإيجاد حبكة وعقدة للرواية وتحديد راوي سارد وموضوع وحوار إلخ…)، لكنه حمّلها العديد من الرسائل السياسية والإفادات الذاتية والقصص الجماعية وحولها إلى شهادات على ما فعلته سياسات الخطأ والخطيئة والتجريب لرعاة ووكلاء الاستقلال المنقوص من قصف

وكبت واخصاء لأحلام وتطلعات أجيال من الشباب المفعم شوقا للحرية واحتفاء بالحياة.

لقد سعى الكاتب باستمرار إلى عدم الوقوع في المباشراتية السياسية والمحافظة على المقومات الأدبية الجاذبة للرواية حتى لا يثقل على القارئ ولا يستدعي تحليلات فكرية ونظرية مرهقة ومع ذلك أوصل العديد من الرسائل والأطروحات التي يرغب في إبرازها في كتابه مثل ازمه التعاضد وأزمة اقتصاد المناولة وأزمة الإصلاح الهيكلي التي عاشتها البلاد وانكسار أحلام الشباب ومرارة الهجرة وعذابات الغربة وأوجاع العائلات والأسر في تحملهم لارتدادات العنف والقمع والاضطهاد المسلط عليهم وعلى ذويهم من قبل سلطة الغطرسة والاستبداد.

فهذه الرواية شهادة حية على ما آلت اليه هذه الأرض الطيبة التي اسمها تونس وما عاشه أهلها من مآزق وخيبات وازمات دورية خلال مجمل تاريخها وحتى خلال بناء الدولة الوطنية الحديثة.

شخصيات الرواية

وكشفت الرواية بداية من صفحاتها الأولى عن تفاصيل لسردية ملحمية لحياة بطلها -سامي -القادم من ريف من ارياف الشمال الغربي التونسي نحو -أضواء المدينة –

بالعاصمة كما يقول المخرج السوري مصطفى ملاص في أحد أفلامه.

وعُرف عن حياته كما يقدمها سامي بأنه ينحدر من عائلة مكافحة، تفتخر ببساطتها وشموخها وتواضعها ونبل العالم الريفي الذي تنتمي إليه. وأنه وُلِدَ من طينة الفلاحين، الذين يمثلون ملح الأرض وريحانها وهو الابن السادس لأسرة مكونة من سبعة أطفال.

وبالإضافة إلى الشخصية المحورية سامي، قدم الكاتب كذلك مجموعة أخرى من الشخصيات واهمها ثلاث نساء، زوجته خديجة وأمه ياسمينة وسارة زوجة صديقه. فهي رواية ذات طابع نسويféministeتحاول ان تعطي للمرأة مكانة متميزة في النضال وإيلائها الدور الحقيقي الذي تتحمله في الواقع، دور مفعم بالتضحية والبذل والعطاء خصوصا عندما يتعرض الاهل (الأب/الأخ / البنات والأبناء /الجار) للمتابعة والعنف والظلم.

14 فصلا للكتاب بين الظلمة والنور

وتأخذنا رواية “الاحلام المقيدة Les Rêves Enchaînés ” في رحلة على مدى أربعة عشر فصلا وبلغة فرنسية من النوع السهل الممتنع ، وهي تروي حلقات من النجاح العلمي والتعليمي وما يترتب عنه من هندسة افاق مضيئة لمستقبل ذلك النجاح .لكن –الطالب

المهندس المميز سامي – ما كان يدري وهو العاكف على رسم أحلامه، ما يخفيه له الغد في محيط سيطرت عليه الاقطاعية الأيديولوجية والطبقات الريعية والغنائمية ..لتنتهي الى معاداة ومحاربة شباب النجاح والناجحين ومنازعتهم اراءهم ومصادرة ارادتهم الحرة وتطلعاتهم نحو مستقبل افضل لتونس وبناء مشروع يحتضن هموم التونسيين واشواقهم التحررية للديناميكيات الثقافية والنقابية للحركة الطلابية.

حفرة الديمقراطية

ورأى سامي بأم عينه كيف تكررت في بلاده قصة اهل الكهف حيث اضطر لفيف من رفاقه في الحركة الطلابية الى الاختباء في خندق حفروه بأيديهم في ارض زراعية شمال العاصمة وغطوه بالأخشاب والاعشاب تحوطا من مطاردات البوليس السياسي وأعين الواشين وبطش المخبرين. سماها سامي “حفرة الديمقراطية” وامضوا في الخندق قرابة الشهرين بعد ان كانوا يعتقدون انهم سيمضون يوما او بعض يوم تحرسهم عين الله ويؤنسهم كلبهم.

وتحول الخندق إلى منبر لمحاكمة النظام وأذنابه، وفضاء تُفكك فيه الأوضاع الإقليمية والعالمية. ومربع ساخن

لتناول القضايا الحزبية ومشاكلها وهنّات حزبهم وانتكاساته. كل يوم يعاد فيه تركيب تاريخ تونس والنظام القائم والأمر الواقع ويعاد فيه رسم خريطة جديدة للوطن حسب الأخبار والمعطيات المليئة بالأمل والرجاء التي قد تصلهم بين الفينة والأخرى. وفي العديد من المرات ينتهي النقاش إلى حقيقة مهمة وثابة: هذا الوطن لن يتجاوز أزمته السياسيّة إلّا بهزيمة رعاته وبتجاوز أزمته الاجتماعية والأخلاقيّة والقيميّة نحو فضاءات من الأمن والأمان الرّوحي والسّلم الاجتماعي.

ومعاناة هذه المجموعة التي استمرت بعد خروجها من “حفرة الديمقراطية”، هي عينة من أجوبة السلطة التعسفية على انخراط العديد من المثقفين في حركة التغيير. ولكن ماذا فعلوا وماذا ما يمكن ان تكون جريمتهم حتى تهدر احلامهم وآمالهم؟ وما هو ذنب سامي حتى يكون مآل حلمه، هجوم رهيب لزوار الليل على منزله الرابض في حي شعبي وترهيب اهله وترويع أبنائه وتعليق جسده تحت انياب التعذيب السادي العنصري المنحدر من عقلية الجهل والتوحش.

وهو ما دفع سامي إلى اختيار طريق المنفى في اول فرصة تم فيها إخلاء سبيله بعد إيقافه.

حول برج ايفيل

كانت فرنسا مسرح ذلك المنفى. فرنسا التي سماها عميد الادب العربي طه حسين في كتاب الأيام بلد الجن والملائكة وبدأت له في الأول بلد التنوير والفرص الممكنة ولكنها أصبحت فيما بعد بلد الفرص الضائعة. ونال نصيبه فيها من عنت الوثائق والبيروقراطية وحتى العنصرية في السعي وراء تطبيع وضعه القانوني والتحصيل على إقامة فيها، تمكنه من العمل والسفر وحتى الحلم بمستقبل مملوء بالبهجة والسرور. وقد أخذ سامي برج ايفيل التاريخي والمتعالي، الذي أنشأه المهندس المغامر الذكي “غوســـــتاف ايفيل” نقطة استقطاب ومحطة لهمومه الإنسانية والعاطفية ومنصة يفتح فيها الرسائل التي تصله من زوجته في البلاد ويفك طلاسمها وشاهدا على تراجع فرنسا “هيجو” وفرنسا “جان جاك روسو” وفرنسا بلاد الثورة ومنبع حقوق الإنسان عن دورها الريادي في احتضان المظلومين والمهجرين قسرا. وفي محيط برج إيفل يعيش سامي تجربته الجديدة التي كوّن منها صداقات مع فرنسيين طيبين تحلو معاشرتهم وتعرف على عائلات افريقية تشاركه منفاه ومعاناته وعزلته. ولكن انفتاحه وعلمه وثقافته مكنته من شق طريق للتوطين داخل غربته.

ونحت هذه الرواية منحى تسجيليا يراعي الوقائع ويلاحق التفاصيل عبر تقنية الفلاش باك السينمائية وفتح أقواس وجيوب عديدة لجرد واستدعاء لوحات اجتماعية تمتد إلى عائلات اجواره وأصدقائه من الأفارقة وطرق جدولة أعمالهم وانفاقهم الاسري والوان وتقاليد طبخهم ضمن أصناف الطبخ التونسي والباريسي. واستحضار تعقيدات الحياة اليومية التي عاشها سامي في بلاد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أي في منفاه الجديد باريس، تاركا وراءه في بلده عائلته، تصارع السواعد المفتولة للسلطة وبؤس الأوضاع وتشتبك مع واقع مرير ومنحط حيث تستباح فيه حرمة الوطن على قارعة الطريق.

ومن أبواب الإثراء في الرواية، أن الكاتب استثمر تكوينه العلمي والتقني لتقديم بعض الظواهر العلمية بشكل مبسط وذكي تتداخل مع وقائع الرواية وتغنيها، مثل الحديث عن الانجراف البحري وخصائصه وحركة الأمواج ونشأتها وعن التخطيط العمراني والعناصر الفنية للعمارة وعن كثير من المعالم الهامة الأثرية في باريس.

كانت الرحلة رغم ما تخللها من تراجيديا الواقع والمعاناة رحلة ممتعة تستحق القراءة وخوض غمار الترحل. وهي رحلة ستطرح سؤالا عريضا.. عبر عنه الماركسي من

حركة افاق فتحي بالحاج يحي بسؤال ماذا صنعت بشاببك؟

سؤال الرواية

ولكن الرواية هنا تطرحه بطريقة مغايرة ماذا صنعنا كتونسيين بأحلامنا المقهورة والمكبوتة؟ ماذا صنعنا بمشروعنا الوطني وباستقلالنا؟ ماذا صنعنا بدولتنا الوطنية؟ وبثروتها البشرية ومخزونها الشبابي وبرأسمالها الوطني الروحي والرمزي؟ لقد انتهت بنا اعاصير الوطن الى العجز عن تحقيق أهداف الاستقرار والتنمية حتى في الزمن الجميل للفعل الثوري ولم نتوصل بعد الى النجاح في تحقيق أجندات النمو والتنمية والتقدم من اجل رفاهية الإنسان التونسي وتم الانقلاب ونسف كل التطلعات التونسية الجميلة إلى بناء منظومة دّيمقراطيّة عصرية تقدمية وسليمة في بلدنا تضمن كرامة المواطنين وحقوق الشعب.

ورغم هذا المأزق والانسداد التاريخي الذي نعيشه في مفاضلة باهتة بين الخبز والأرض والعدل والحرية والديمقراطية دون ان ندري لها سبيلا للجمع بينها واسترجاع الحلم الوطني لازال يتلذذ عدد منا وبطريقة

مازوشية بخبط المشترك الرمزي والروحي خبط “القرنيط.”.

هنيئا للدكتور المهندس والمثقف الملتزم المنصف سليطي بهذا العمل الإبداعي “الاحلام المقيدة Les Rêves Enchaînés- ” ونتمنى أن يترك بصمته في الكتابة والأدب والرواية كما تركها في المشهد العام وهو الذي كان يكتب ولا زال منذ الثمانينات باللغتين في العديد من الجرائد والمجلات.

وأعتقد أن هذا العمل يتجاوز حتما في أبعاده توثيق أجزاء من تجربة فردية وسردية ذاتية إلى مقاربة تحاول الغوص في المزاوجة والمراوحة الإبداعية بين الروائي والتاريخي والواقعي. وما الأدب، إن لم يكن “اختراق باطنية الإنسان وكينونته الحقيقية” كما يقول ميخائيل نعيمة.

عبد العزيز التميمي

صحفي مدير برامج تلفزيونية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *