إلى الانتخابات دون مراوغات .. “وقفت الزنقة بالهارب” .. بقلم محمد القوماني

تدلّ مؤشرات عديدة على أنّنا نتهرّب من الاستحقاق الانتخابي، التشريعي والرئاسي لنهاية سنة 2019، والتي بدأناها بإحياء الذكرى الثامنة للثورة، وأنّنا ننزاح، بوعي وبغير وعي، إلى أجواء انتخابات 2011 و2014 وموضوعاتها. وكان المأمّل أن تكون للسنوات دلالتها، وأن يعي السياسيون المعنيون بالترشّح، أنّ العودة الدورية لصناديق الاقتراع أداة الناخبين الديمقراطية لمحاسبة السياسيين، وأنّ الوضع مختلف هذه المرّة. فالتونسيات والتونسيون ينتظرون أجوبة واضحة ومقنعة ووعودا قابلة للتحقّق في التصدّي لمشاغلهم وانتظاراتهم المعيشية التي تراكمت وصارت تنغّص حياتهم وتتهدّد مستقبل أولادهم. ولا يجب أن تكون المناكفات الثقافية والسياسية في مواضيع مهما كانت أهميتها، على غرار مبادرة قانون المساواة في الإرث وما يعرف بملف الجهاز السرّي والمدارس القرآنية، هروبا من مواجهة مُستحقّة للتحدّيات الاقتصادية والاجتماعية. فلنا أن نُولي موضوعات الخلافات ما تستحقّ من اهتمامات، لكن علينا أن نسجّل ما يجمعنا فيها من مشتركات، حتى لا تضيّع مناورات المناكفات بوصلة الانتخابات.

 

خطوة هامة.. لكن..

توفّق مجلس نواب الشعب، وسط الأسبوع الماضي، في تجديد ثلث أعضاء الهيئة العليا للانتخابات واختيار رئيس لها، بعد أزمة حادة عاشتها الهيئة وعجز المجلس عن وضع حدّ لها لمدّة فاقت السنة. كانت خطوة هامة، ارتاح لها التونسيون وتوقف عندها المتابعون، على طريق إزالة العوائق التي تتهدّد الاستحقاق الانتخابي نهاية العام. كنّا ننتظر تثمين هذه الخطوة وتعزيز التوافق في البرلمان باتجاه حسم بقية الملفات التشريعية ذات الصلة بالانتخابات، وفي مقدمتها استكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية و إقرار التنقيحات بالمجلة الانتخابية، والتقدم في التوافقات السياسية والاجتماعية لتهيئة أفضل الظروف لانتخابات شفافة يقبل الجميع بنتائجها. لكن للأسف، وجدنا أنفسنا بعد أيام معدودات، ننشغل بملف جديد بالغ الأهمية، عقب تعهّد القضاء بتجاوزات قانونية خطيرة جدا فيما سمي بالمدرسة القرآنية بالرقاب. ونشطت ببلادنا مجدّدا مساع محمومة من جهات ايديولوجية وسياسية عديدة، لتغذية التجاذبات الحادّة واستعادة الاستقطاب الثنائي البغيض.

 

الاستقطاب ليس تنافسا

تعرف ديمقراطيات عريقة في الشرق والغرب حالات من التنافس الانتخابي بين الأحزاب، لا يستبعد فيها استعمال حرب “الملفات” في إحراج الخصوم وإسقاطهم انتخابيا. ويأخذ التنافس في مراحله الحاسمة صيغة ثنائية، لتصطفّ الأطراف المختلفة إلى أحد المتقابلين الرئيسيين. ويخضع ذلك التنافس لضوابط سياسية وأخلاقية وقانونية، وينتهي بإعلان نتائج الاقتراع وتهنئة المهزوم للفائز حزبا أو تحالفا أو رئيسا…ليتوحّد الجميع بعد ذلك في خدمة المشروع الوطني الجامع باحترام القوانين والخضوع للمؤسسات والانضباط لمقتضيات الديمقراطية في انتظار استحقاق جديد ومنافسة متجدّدة. وهذا التنافس الديمقراطي لا يندرج ضمن ما نعنيه بالاستقطاب، الذي يقوم على استعداء الخصم وشيطنته واستباحة كل الوسائل لهزمه ومنعه من المنافسة مجدّدا، عبر العمل على استبعاده أو استئصاله إن لزم الأمر وتوفّرت الفرصة. فالاستقطاب احتراب بين قطبين وليس تنافسا بين مُختلفين.

 

استدعاء الاستقطاب مجدّدا

فانطلاقا من الجدال الحادّ حول مشروع قانون المساواة في الإرث، الذي تقدم به رئيس الجمهورية، وتمّ فيه إخراج الصراع من المنابر إلى الشوارع، ومن المحاججة إلى التحشيد، وحضرت في خطابات أنصار الرأيين المتقابلين مخالفات صريحة للدستور والقانون، وعبارات أقرب إلى الحرب الأهلية الثقافية، التي تعود بالبلاد إلى أجواء الاستقطاب المقيت وتيه “العلمنة والأسلمة” و”الحداثة والهوية” والمناخات التي وفّرت أرضية الإرهاب والاغتيالات السياسية، وكادت أن تعصف بالثورة والسلم الأهلية.

ومررورا بما يٌعرف بملف “الجهاز السري” الذي استندت فيه هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي على وثائق بملف قضائي تمّ الحكم فيه بإدانة مصطفى خذر في نهاية سنة 2013، لتثير شكوكا حول ملابسات تلك القضية، ولتكشف للرأي العام بعض مستندات الملف، وتزعم أن مستندات أخرى تمّ حجزها ولم ينظر فيها القضاء، تؤكد حيازة حزب حركة النهضة لجهاز سري يعمل بالتوازي مع أجهزة الدولة الرسمية ويخترقها، بل يتجسّس على دول عظمى وعلى دول شقيقة. وأنّ هذا الجهاز يورّط النهضة في المشاركة في اغتيال الشهيدين. ومنذ ندوة 02 أكتوبر 2018 تحوّلت هيئة الدفاع عن الشهيدين إلى مدفعية سياسية ثقيلة ضدّ النهضة، وباتت رأس حربة للجبهة الشعبية، يتنقل أعضاؤها بين المنابر الإعلامية ويطوفون جهات الجمهورية، بدل أروقة المحاكم، لشرح “ملف الجهاز السري لحركة النهضة” والتشكيك في مدنيتها والمطالبة بحلّها.

وانتهاء بالجدال المستعر هذه الأيام حول ما يسمّى بالمدارس القرآنية، الذي غذّى مجددا أجواء الاستقطاب المشار إليها. فبدل أن يتوحّد الجميع على دعم مجهود القضاء وانتظار حكمه في قضية الرقاب، والتشنيع بشبهات الجرائم في حق الأطفال خاصة، والتوقّف عند التقصير الحاصل من مختلف المسؤولين، والانتباه إلى المخاطر الجمّة التي تتهدّد الأمن القومي والمجتمع التونسي، من خلال ما تمّ كشفه بهذا الفضاء أو ما قد يكتشف بفضاءات مماثلة، والتجنّد للتصدّي لها قبل غرق المركب الوطني، فإنّه بدل ذلك، سرعان ما خرج الموضوع عن سباقه، لنقع في مقاربات المناكفات والمزايدات، ويتمّ الاحتماء بالدفاع عن المقدسات والنزوع إلى تصفية الحسابات، وتضيع البوصلة في مثل هذه الملفات. فتصبح المعركة الخطأ ضدّ “الاستئصاليين ممّن يستهدفون هوية الشعب المسلم ويحاربون القرآن” من جهة، وضدّ “حزب حركة النهضة الذي يرعى التطرف الديني ويحمي محاضن الإرهاب” من الجهة المقابلة.

وفي كل هذه المعارك على أهميتها، وكما نتبيّن في المحصّلة، يحضر الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي، وتغيب مشاغل المواطنين الحيوية، وكأنّ المنخرطين في هذه الصراعات يتعمّدون الهروب من مواجهة الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماية المتأكدة في برامجهم الانتخابية المفترضة.

 

وقفت الزنقة بالهارب

لن يكون مسموحا ولا مُجديا في انتخابات 2019، تكرار سيناريو الاستقطاب مهما كانت العناوين. ومهما كانت المناورات والمراوغات، ومهما حصل من توظيف للمستجدات، فإنّه باقتراب الانتخابات ستقف الزنقة بالهارب، ليُواجَه المترشحين من الأحزاب والمستقلين، بأسئلة الناخبين، على غرار ما هي حلولكم لمشكلة المديونية المتفاقمة؟ كيف ستجلبون الاستثمار وتخلقون الثروة؟ ما الحلّ لخفض ملحوظ لنسبة البطالة؟ وكيف السبيل للتعاطي مع حوالي المليون من المعطّلين؟ ما هي رؤيتكم للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتأكدة؟ كيف تعيدون التوازن للمالية العمومية؟ كيف تخفّضون كتلة الأجور بالميزانية ونسبتها في مختلف الوزارات؟ كيف ستتعاطون مع المؤسسات العمومية ذات الصبغة الانتاجية التي تعاني من الخسائر والديون؟ ما هي برامجكم المقترحة لتحسين البنية التحتية والنهوض بالصحة والتعليم والنقل؟ وما هي مصادر تمويل الإصلاحات؟ ما معنى الحوكمة الرشيدة؟ وكيف تقيسون نجاحها؟ ما هي خططكم المرحلية للقضاء على الفساد؟ ما ذا ستفعلون مع الاقتصاد الموازي؟ كيف تدمجونه؟ ما هي الحوافز وآليات الردع؟ ماهي مقترحاتكم العملية للعدالة الجبائية؟ وكيف ستجعلون المهن االحرة تخضع لما تقرّرون؟ ما هي مشاريعكم للجهات المهمشة ولتفعيل التمييز الإيجابي؟ هل أنتم مع منحة للبطالة ودفتر علاج لكل مواطن؟ من أين ستمولون ذلك؟ كيف ستتعاملون مع توقيف الإنتاج في مصالح حيوية؟ كيف ستضعون حدّا للجريمة التي صارت تهدّد أمن المواطنين؟ …

 

خاتمة

 

إنّ الاستفادة من دروس الماضي المرير تجعلنا حريصين على تجاوز الاستقطاب، والخروج من التِيه الذي أوقعتنا فيه ثنائيّات عديدة، كانت “العلمنة” و”الأسلمة” أبرزها. فهموم الوطن الذي يجمعنا ومشاكل الواقع وتحدياته المشتركة، التي نجتهد في اجتراح حلول لها، عناصر توحّدنا أكثر من عناصر أخرى أيديولوجية أو أجندات خارجية تشتّتنا. والقضايا الثقافية الخلافية تكون الانتخابات فرصة لتبيّن موقف الرأي العام منها، وليست أداة لإرباك الانتخابات بها.
––-–

 

* مقال منشور بجريدة الرأي العام، العدد 94، تونس في 07 فيفري 2019.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *