هشام جعيّط: خطاب سعيّد ليس مهيكلا وبلا سياسة واضحة..الدستور رديء ويجب تنقيحه والنهضة حزب بإيديولوجيا مائعة

Image processed by CodeCarvings Piczard ### FREE Community Edition ### on 2019-03-01 16:04:15Z | |

الجلوس أمام المفكر هشام جعيّط داخل مكتبه الزاخر بنفائس الفكر والتاريخ والادب وبعصارة مسيرة بأكملها يضفي في حد ذاته هيبة من نوع خاص… هو مؤرخ وعالم حقيقي أطّر وكوّن جيلا من المؤرّخين والمفكّرين التونسيين حتى صار الحديث عمّا يمكن أن نسمّيه بـ«بالمدرسة التونسية» التي صار لها الصيت الأعلى في المنطقة العربية بعد خفوت نور «الشمعة العراقية» التي طبع خمسينات وستينات القرن الماضي “الشارع المغاربي” التقت بالمفكّر والمؤرّخ الدكتور هشام جعيّط للحديث عن جزء من منجزه الفكري والتاريخي وعن مسيرته الثريّة، وعن أزمة الدولة الوطنية وعن الراهن السياسي والفكري وكذلك عن جديده الذي سيصدر قريبا.

ينتبه المتتبع لمسيرتكم الكتابية التي انطلقت قبل 66 عاما الى اهتمامكم المبكّر بقضايا المجتمع الاسلامي الاول وبقراءة نقدية للكتابات الاستشراقية التي كانت تصدر في تلك الفترة… هل كانت لديكم قناعة حقيقية لاصلاح ما يمكن ان يكون عوجا علق بالاستشراق (1860 .1960) وزمن كان العالم العربي عاجزا عن معرفة نفسه ؟ وهل كان هذا عاملا ولو بنسبة ضئيلة من عوامل العودة الى المشروع المحمدي الذي كشفتم عنه في مقالكم الوليد اكتوبر 1964؟

لمساري الفكري والعلمي اتجاهان ومساران مسار تاريخي وهو الاهم فقد لعبت دوري كمؤرخ متكون بالغرب لكن له معرفة دقيقة باللغة العربية وبالتراث العربي والاسلامي وومن ناحية اخرى كانت لي اهتمامات بالواقع المعاصر ولهذا كتبت كتبا عديدة في ما يخص النقد السياسي والديني في العالم العربي المعاصر.. صحيح انني كمؤرخ تكوّنت بفرنسا لكني لا ارى الامور التاريخية والاسلامية العربية القديمة خارج هويتي او كما يراها المستشرقون.. اعتبر نفسي مؤرخا عربيا اسلاميا لكني قمت بحفريات ودراسات عميقة حسب المناهج الغربية وعندما نقول مناهج غربية فإن ذلك لا يعني أنها استشرافية فحسب وإنما هي مناهج تاريخية بالاساس.. الاستشراق الاسلاموي يمثل جزءا ضعيفا من الانتاج الغربي لان علم التاريخ مترسخ عند الغرب الذي اهتم بتاريخ العالم بصفة عامة كتاريخ اليونان والرومان وببلدانهم الخاصة .. اذن  لم اتعلّم هذه الاتجاهات المنهجية من المستشرقين كما لم احصل على شهادة التبريز في الادب العربي مثلما فعل زملائي وانما شهادتي كانت في التاريخ.. تسلّحت بهذا التكوين ولا يمكن ان اسمى بتلميذ المستشرقين.. انا تلميذ كبار المؤرخين الفرنسيين تعلمت التاريخ من قراءة  مارك بلوك ومن قراءة فيرنان بروديل وغيرهما انما عندما يهتم الانسان بالتاريخ الاسلامي لابد ان تكون لديه معرفة بما كتب المستشرقون والحق يقال ان المستشرقين قاموا بعمل مهم في ما يتعلق بالنصوص القديمة وبعض الدراسات المهمة وفيها الغث والسمين.. مثلا في ما يخص تعلم نقد الروايات العربية القديمة والتعمق في التاريخ انا اعتبر نفسي تلميذ الالماني يوليوس ڤلهاوزن Julius Wellhausen وهو مؤرخ مستشرق من اخر القرن التاسع عشر وليس كل المستشرقين متحيلين على التاريخ.. هناك قسم منهم  ولكن ايضا هناك اخرون قاموا باعمال مهمة ولا يمكن لمؤرخ حقيقي ان يتجاهل ما قال هؤلاء.. فعندما كتبت كتابي «الفتنة» لم اكن لأتجاهل مثلا ما كتب  ڤلهاوزن او ما كتبت المستشرقة الايطالية لورا فيشيا فاغليري… لابد من معرفة ما قال الغير ولكن يمكن نقد ما قالوا.. فمثلا نقدت تصور المستشرقين للمدينة الاسلامية ليس حبا في نقد المستشرقين مثلما يحدث في البلدان العربية أين حدثت وقعت موجة كبيرة ضد الاستشراق .. بما ان هؤلاء كتبوا عن المدينة الاسلامية في العصور القديمة ولابد ان اتعرف على ما كتبوا واذا كان غير مطابق للحقيقة التاريخية فإني انتقدهم ليس من وجهة ايديولوجية او اني ضد الاستشراق.. مثلا لا اشاطر ادوارد سعيد في كتابه… رغم ان الكتاب لامع جدا وذكي لكنه لا يهتم بالناحية العلمية في نقده للاستشراق وانما يهتم بتصورات الشرق والغرب بصفة عامة عن طريق الانقليز الذين كانوا مهيمنين على العالم الاسلامي أكثر بكثير من فرنسا مثلا…ليس لدي نظرة قبلية على أن الاستشراق امر او شيء فاسد… هناك من قام باعمال كما قلت خاصة والعالم العربي لم يقم باستشراف علمي لماضيه باستثناء بعض الشخصيات والتي تتكون في الغرب.. لكن المؤرخ العربي المتكون في الغرب من الناحية المنهجية وبين المستشرق ليس لديه افكار قبلية ضد الاسلام او ضد العروبة وفي الاستشراق توجد تيارات او اشخاص لهم افكار قبلية فعلا لأنهم اجانب عن هذا التاريخ ولذلك نجد لدى بعض المفكرين غير المستشرقين نظرة ايجابية عن الاسلام على عكس المستشرقين الذين كونوا نوعا من الكتلة المتعصّبة لنفسها..  انا لا اعتبر نفسي مستشرقا ولكنني ايضا لست من اصحاب النقد الاعتباطي الايديولوجي للاستشراق..

هذه النظرة للاخر التي هي نتاج معاشرة الفكر والتراث الاستشراقي كانت ترافقها للانا ايضا اذ بين هزيمة 1967 وهزيمة اخرى 1973 .. اصدرتم الشخصية العربية الاسلامية .. كانت في اشادة بالحلول التنظيرية الشمولية للبعث قبل الانظمة و كما تصوره ميشال عفلق والايمان المثالي الروحاني كما تمثله اقبال … كيف ترون بعد مرور نصف قرن مكانة هذه الافكار بعد الانحطاط الرهيب الذي وصل اليه العالم العربي؟

هي افكار تمثل نوعا من الشهادة من طرف مفكر شاب عربي انذاك وهي بالتالي تدخل في اعماق ما يخالج تلك الفترة من مشاكل كبيرة وهذا لا يدخل في التاريخ التقني بأصول الاسلام وجانب اخر من اعمالي وانما تدخل في التنظير والمشاركة في حركية كانت موجودة لدى المثقفين والمفكرين العرب في تلك الفترة لأنه منذ الخمسينات والى حدود السبعينات كان هناك منظرون من القومية وحتى من الاسلام.. مثل ميشال عفلق وكل في ناحية من النواحي وفي ما بعد من معاصريّ كانت هناك حركية فكرية.. كنت مهتما ولا ننسى ان فترة الستينات هي فترة غليان سواء المشرق العروبي او حتى الاسلامي.. من جهة اخرى هناك تساؤل انذاك حول العلمانية من عدمها في تونس مثلا وحول الدولة الوطنية والتخلف وسبل الخروج منه.. مشاكل عشتها خلال الستينات في تونس وفي فرنسا من خلال اتصالي بمفكرين عرب  ..لم انخرط بها من باب اني موجود بل لأن عشتها بضميري وفي تلك الفترة تخليت عن ابحاثي التاريخية حول الفترة الاسلامية الاولى وخضت المعمعة الفكرية… كان هناك عدد من المفكرين لا يوجد مثيل لهم اليوم.. حركية اتت من عالم ثالث والعالم العربي الذي هو جزء منه.. كان هناك غيلان في كوبا والجزائر التي صارت في ما بعد مربط كل الثوريين في العالم الثالث والقاهرة ايضا التي كانت محل اهتمام العروبيين.. ما حدث بالستينات هو تغير جذري بين الغرب من جهة والعالم الثالث والعالم الشيوعي من جهة اخرى.. كان هناك ما يحفز المفكر العربي لاعطاء اراء خاصة في كل هذه المشاكل… كان هناك غليان لا نجده اليوم.

ثم اتت عشرية 1989 – 1999 … انها عشرية ساخنة في حياتكم كمثقف جرىء وصريح وصدامي ايضا.. اذ واجهتم نظام بن علي… وتصديتم لمشروع الهيمنة الامبريالية على العراق… واشرفتم على مناقشة طلبتكم لاول اطروحات الاسلام الاموي.. ومنهم من تقاعد اليوم .. قبل تفرغكم للمشروع المحمدي؟

صحيح كان لي اهتمام بالسياسة كمفكر اعتبرت نفسي ملتزما بمشاكل بلدي والعالم العربي دون الانخراط في أي حزب سياسي ولذلك خضت معامع متعددة .. انتقدت النظام البورقيبي وما بعده.. يمكن تسميتي بالمثقف الملتزم الذي يدخل في مشاكل عصره بصفة مفكر لا بصفته سياسيا محترفا.. وهذا خلافا لعدد من زملائي من اساتذة الجامعة الذين انصهروا في النظام بصفة عامة.. كنت من المفكرين القلائل الذين لهم مشاركة في العالم العربي في المشاكل المطروحة وشاركت في الكثير من الندوات وزرت كل بلدان العالم العربي مثلا عن طريق مركز دراسات خير الدين حسيب وفي عمان والقاهرة… على عكس زملائي بالجامعة الذي قال لي عنهم الراحل محمود المسعدي إنهم تقنيين اكثر منهم اساتذة..

يبدو ان الجزء الثالث من تلك الاطروحة لم ينشر وهو المتعلق بالاضطرابات والفتن والصخب والايديولوجيا ويبدو انه كان مدعاة لصدور الفتنة اواخر تلك العشرية من الثمانينات… بقيت ثغرة بين وفاة النبي المؤسس وقيام الفتنة.. وهي فترة النهوض الامبراطوري للفتوحات… مازالت تحتاج الى مقدمات منهجية من لدنكم ولو في كتيب صغير… كيف يمكن دراسة النبي كرجل سياسي وكرجل دولة بعيدا عن التشنج الايديولوجي… هذه المعاناة كمؤرخ عربي مسلم خرج عن القراءة الكلاسيكية للتاريخ؟

كتاب تاريخ الرسول الذي كتبته في 3 اجزاء وصدر مؤخرا في جزء واحد باللغة الفرنسية يدخل في مضمار تاريخ الاديان بصفة عامة وفي ما يخص موضوعي كتبت عن تاريخ نشأة الدين الاسلامي الذي صار دينا كبيرا منتشرا في العالم  وكيف نشأ وكيف ترسّخ في فترة حياة الرسول نفسه…كنت سمّيته في كتابي «السيرة النبوية» كيف نشأ الاسلام؟ ودرستها من وجهة نظر المؤرخ الذي لديه اهتمام بموضوع درسه وتعاطف معه.. لأن المؤرخ الحقيقي لا يدخل في ترهات الجدل ضد او مع  انما يحاول ان يصوّر الحقيقة التاريخية.. قضيت قرابة 20 سنة وانا اشتغل على هذ الكتاب.. واردت ان اتوسّع في الموضوع لاعطائه صورة واضحة ومعمّقة فكان الجزء الاول من الكتاب “التاريخ المقارن” والجزء الثاني “دخول في الانتروبولوجيا التاريخية” والجزء الثالث طرح مشاكل الفترة المكية والاعتماد بالاساس على القرآن وفيه نقد للمصادر بخصوص السيرة رغم اني اعتمدت السير بالتاريخ ولكن بالنقد كما يجب للمؤرخ الحقيقي… اذا كان هناك كتاب علمي كبير كتبته فهو «تاريخ محمد» رغم ان كتاب «الفتنة» هو كتاب لامع لا محالة وانما التعمق في الموضوع.. كتاب “السيرة النبوية” هو كتاب علمي حقيقي ولكنه لم يجد صدى كبيرا لأن هناك من لا يعطي اية قيمة لشخصية محمد سواء من الغربيين او من المسلمين العلمانيين ولا يهتمون بهذا الموضوع… من جهة اخرى هناك اسلاميون متشددون او حتى غير الاسلاميين.. ولكن انا لم اكتبه لكل هؤلاء وانما كتبته للمسلم وغير المسلم الذي له اهتمام بدراسة تاريخ الاديان… اعتمدت على بعض المستشرقين الذين  ليس لديهم سعة نظر ولا انفتاح الفكر لدراسة مشروع مثل المشروع المحمد.. اعتقد انني تجاوزتهم بكثير..

ولكن غوتفريد لايبنتس اشاد بفكر النبي؟

لايبنتس رجل عظيم ولكن المستشرق المتوسط ليس كذلك.. لا محالة كتاب «الفتنة» اخذ صدى لاننا نعيش صراعات ولكن في تأسيس الاديان الذي اوليه اهتماما كبيرا في مسار التاريخ العالمي لاني اعتبر ان الاديان المقارنة لعبت ادوارا مهمة جدا في تكوين الانسانية المتحضرة كيفما كانت هذه الاديان.. وسوف يصدر لي قريبا عن دار “سيراس” كتاب بالفرنسية اعرض فيه افكاري عن تاريخ الاديان في علاقتها بالتاريخ الانساني حول كل الاديان عن الاسلام واليهودية والمسيحية وقد يكون عنوانه «بين التاريخ والاديان» لم اقرر بعد..

كنتم وجهتم في ما سبق سجالكم الفكري مع المفكرين العرب انتقادا كبيرا ولم تروا المشاريع الفكرية التي قام بها نظرائكم في تلك الفترة .. وانصفتم بصفة استثنائية عبد الله العروي رغم الطريقة المنهجية… ما مردّ هذا الإنصاف؟

لأني اعتبر ان للعروي ثقافة واسعة وتعمّقا في التفكير ونوعا من الدقة في تأويلاته عكس الكثيرين رغم اختلافي معه في بعض الامور .. ليس لديه نزعة ايديولوجية قوية مثل محمد عابد الجابري الذي يعتقد ان الفلسفة المشرقية هي غير حقيقية وان فيلسوف الحقيقة هو ابن رشد… هذا مدخل علماني ولا يوجد هذا الكلام الفضفاض لدى العروي الذي افضله على الجابري لانه اكثر دقة وهو ايضا رجل مستحكم في ثقافته العربية والغربية الواسعة رغم انني اليوم وفي اخر حياتي لا اوافقه في مساره البيداغوجي واعتبر ان في كتاباته عن مفهوم الدولة والعقل كثيرا من العقلانية وان هوسه كبير بأن العرب متخلفون.. لكن اعتقد انه متعمّقا اكثر وافضل من غيره من المفكرين..

هل لازلنا نأمل في ان يكتب لنا د. جعيط  عن تلك الثغرة بين وفاة النبي واندلاع الفتنة ؟

في كتابي الجديد الذي سيصدر قريبا خصصت فصلا تقريبا عن تكوين الامبراطورية الاسلامية والتي هي امر عجيب في التاريخ الاسلامي… هو شيء لم ينتهجه الرسول وانما انتهجه الخلفاء بسبب الردة واعتبروا ان الردة تعبر عن ان العرب غير متهيئين لتقبّل الاسلام بسبب اتساع المسافة وعاداتهم القديمة في الغزو والضعف الاقتصادي على تلك الرقعة من الارض واعتبروا ان احسن شيء يمكن ان يدخل الاسلام في ضمائر العرب كونهم مغادرة الجزيرة العربية ليعيشوا جميعا اسلامهم ويتدربوا على الدين الجديد.. وجعلوهم في امصار وقبائل متباعدة لتعلم الاسلام… اذن الخروج من الجزيرة العربية ناتج عن ارادة الخليفتين الاول والثاني ضرورة استبطان العرب للاسلام وليس للتوسع في حد ذاته…

هل نشهد اليوم اعادة نظر في مسألة العلمانية ام اننا باتجاه علمانية منفتحة ومتسامحة؟

لو نظرنا الى حالة العالم العربي لوجدنا ان العديد من الدول القائمة اليوم سواء كانت قوية او ضعيفة منذ فترة الاستعمار متجهة الى العلمانية وأقصد هنا الدول لا الجماهير ولا التيارات الفكرية الاسلامية.. منذ فترة الاستعمار الذي حصل في مصر وتونس والمغرب وسوريا والعراق عوض المستعمرون في ما يتعلق بالتشريعات في كثير من الاحيان الشريعة الاسلامية بقوانين وضعية، فمثلا لا نجد في مصر ولا في تونس تطبيق حد قطع يد السارق ولا تطبق احكام قوية رادعة في قضايا الشذوذ الجنسي والمثلية.. وفي ما يخص عديد الامور التي طالب بها الاسلاميون في السودان وفي بلدان اخرى -والتي يبدو انها تطبق في السعودية -أي تطبيق الشريعة- خاصة الجانب الردعي في الفترة الاستعمارية ازاحت هذه العقوبات وبالتالي فهذه الدول الى حد كبير علمانية ..

وبالنسبة الى تونس فقد غيرت فرنسا زمن الحماية كل هذه التشريعات والعقوبات بعقوبات تماثل ما يوجد لديها .. الاسلاميون طالبوا منذ السبعينات بتطبيق الشريعة وحتى الاخوان المسلمين.. ماذا يقصدون؟  على غرار السيد قطب لماذا لم يطالبوا بها في القرن الثامن عشر والسابع عشر مثلا؟ لان الشريعة من هذه الوجهة الرادعة ازيحت من قبل المستعمر الذي نصب الحماية على بعض البلدان العربية وبالتالي تمثل الاتجاه العلماني الذي فرضه الاستعمار في فرض قوانين تُماثل قوانين موجودة عنده… في تلك الفترة يمكن ان نقول ان هذه البلدان من وجهة التشريعات قد تكون غير مهمة في حد ذاتها انما يطالب بها المسلمون في ما بعد وانما طالبوا بالرجوع الى فترة ما قبل الاستعمار  أي تطبيق الشريعة … في ايران مثلا نرى ابقاء على التشريعات القديمة رغم المطالبات بتطبيق القوانين..

هذا يجرنا الى القول بأن العلمانية مهمة من هذا القبيل موجودة منذ الاستعمار وان اوروبا هي التي فرضت نوعا من العلمانية  وليس المقصود هنا بالعلمانية الدولة كما هو موجود في فرنسا التي لا تتعامل مع الدين وذلك بفصل الدين عن الدولة ..بينما الفصل في العالم العربي بين الاثنين ليس واضح وغير موجود وانما في ما يخص التشريعات التي اهتم بها الاسلاميون فإن العلمانية لا تزال قائمة وان كان بورقيبة اضاف بعض الامور  كمجلة الاحوال الشخصية والزواج ولكن التغييرات حدثت في الاصل خلال فترة الاستعمار.

كيف سيكون مستقبل العلمانية اذن؟

اذا اردت القول ان المقصود بالعلمانية هي الفصل التام بين الدولة والدين لا اعتقد انها ستوجد كما في فرنسا واوروبا بصفة عامة لكن فرنسا بصفة خاصة لانها اوغلت في العلمانية اكثر من البلدان الغربية الاخرى واذا اردت القول بهذا لا ارى ان الظروف الحالية تسمح بان تنفصل الدولة تماما عن المجتمع بعاداته وتقاليده.. الدولة ترعى الدين لعدة اسباب لانه ليس لدينا كنيسة مهيكلة مثل الكاثوليك لذلك هي التي تقوم بالمصاريف اللازمة للطقوس الدينية وللمساجد .. من ناحية اخرى لا ننسى ان تطور العالم الاسلامي من الناحية الحضارية من القرن 16 الى 19 لم يحدث مثلما حدث في العالم الغربي.. بالتالي العلمانية ستطبق في العالم العربي في السنوات القادمة سواء من وجهة الدولة او حتى من وجهة نظر الممارسات الاجتماعية للاسباب التي ذكرت وايضا هناك الضغط الاسلامي اذ يصعب على البلدان العربية ان تقوم بعمليات علمانية وبتحويرات شديدة ولو انه امر محبّذ بعيدا عن منطق الدولة لاننا نرى اليوم الشعوب العربية اكثر تمسّكا بالشعائر الدينية وحتى من طرف المواطن العادي وليس فقط المواطن الاسلامي.. العالم العربي مازال متشددا وملتزما بالدين ويعتبر ان الدين امر اساسي لهويته التاريخية على عكس العالم الغربي وباستثناء فرنسا لان لائيكيتها العلمانية متشددة جدا ووصلت الى درجة نبذ كل ما هو ديني يتمسك الامريكيون بالولايات المتحدة  بالدين  وفي بريطانيا الملكة هي رئيسة الكنيسة المسيحية وفي المانيا الدولة هي التي تؤمّن رواتب رجال الدين بحيث وضعية فرنسا وضعية خاصة املاها التاريخ منذ الثورة الفرنسية ومنذ القرن 18 عصر التنوير. بينما في العالم الغربي حيث الدين مرتكز بقوة لدى الناس يمكن ان نقول ان هناك خروجا عن الصبغة الدينية والمقصود بذلك ان ميادين السياسة والاقتصاد والتشريعات التي تؤسس للعالم الحديث منفصلة عن الدين بما في ذلك الولايات المتحدة. الدين هو ميدان شخصي في المجتمع.. بينما لم يفصل العالم العربي بينه وبين الدين ولو انه وقع شيئا من هذا القبيل بين الدائرة السياسية والدائرة الاقتصادية والدائرة الاجتماعية كما يمكن ان نلحظ في مجال الاقتصاد باستثناء البنوك الاسلامية – وفي الواقع هذا الاقتصاد الاسلامي ضعيف- هو اقتصاد عادي مثلما يوجد بالعالم الغربي من بنوك وفائض مالي  واستثمار وارتباط بالعالم الخارجي.. الامور معقدة بصفة خاصة وما يجري حول الاهتمام بالعلمانية خاصة في بلدان المغرب العربي المتأثرة كثيرا بما يجري في اوروبا وبصفة خاصة فرنسا المشكلة مطروحة لان هناك انفصاما في المجتمع بين المتأثرين بالحضارة الغربية وبسلوكاتها وارائها وبين الاسلاميين بصفة عامة سواء الراديكاليين والمتشددين وحتى ارهابيين واسلاميين معتدلين هناك انفصام وشاهدناه في تونس بصفة خاصة بعد الثورة ولكن موجود بصفة عامة في سوريا وفي كثير من البلدان العربية..

على ذكر تونس هل من مستقبل للاسلام السياسي امام ما تشهد حركة النهضة من صراعات داخلية؟

اعتقد ان التونسيين اليوم مهووسون كثيرا بمشكلة النهضة… ما نلاحظه بصفة موضوعية ان الحركة الاسلامية سياسية.. وان الاسلام السياسي الذي تتقمصه النهضة دائما في تقهقر مقارنة ببداية الثورة وهي تلعب دورا لا محالة لان هذا التيار اكثر تماسكا من الفئات السياسية غير الاسلامية الاخرى.. اعتقد ان مشكلة النهضة والغنوشي هي هوس من طرف التونسيين لأنها من الاول لم تتحصل على اغلبية ولم يحصل في هذه البلاد منذ 2011 نظام يمكن ان يسمى نظام اسلامي..لان النهضة  تتشارك مع قوى وان كانت اقليات مجتمعة وغير اسلامية بحيث لم نر شيئا في تونس من بعيد او من قريب يماثل ما حدث في ايران او غيرها… اعتقد انه هوس كبير لأن النهضة حزب سياسي له ايديولوجيا مائعة وليست صلبة.. حزب سياسي يصبو الى الحكم او المشاركة فيه لا اكثر ولا اقل ويمكن ان نمثّله بحزب الديمقراطيين المسيحيين في اورويا في الماضي.. وبصفة عامة لم نر ان هذا التيار الاسلامي طبق أي شيء من التشريعات الاسلامية.. لان الدستور التونسي ليس اسلاميا هو علماني يفصل الدين عن الدولة..

كيف ترى صعود الشعبويات الجديدة في العالم وفي تونس ؟

موجودة لكنها ليست هي الماسكة بالحكم بصفة مستقرة يمكن ان نصنف مثلا شخصا مثل ترامب بالشعبوي لأنه  يتوجه الى فئات شعبية وليس الى النخب لكنه رحل عن السياسة وستعود الامور الى ما كانت عليه قبله .. لا ارى مكان لمثل هذه التيارات الشعبوية في بلدان مثل فرنسا .. تيار لوبان موجود ولكنه اقلية مهمشة من قبل النخب.

وماذا عن الشعبوية في تونس؟

لا ارى شعبوية في تونس.. ربما في الخطاب..ولكن لا يمكن تصنيف خطاب قيس سعيد ضمن الشعبوية لانه لا يستقيم على امور واضحة… مثلا  حزب لوبان في فرنسا يستقيم على مسألة الهجرة  وهي مسألة مهمة بالنسبة للمجتمع الفرنسي  وكذلك لترامب فئات شعبية من البيض الفقراء والمتوسطين ولديهم مشاكل اعراق متعددة.. في ما يخص قيس سعيد ليس لديه قسط وافر من الحكم.. انه خطاب فقط.. كلام.. يصنّفونه بالشعبوية ولكن ليس لديه خطاب مهيكل ولا سياسة واضحة.. لا يوجد حكم قام على الشعبوية في تونس.. كوّن قيس سعيد حكومة تكنوقراط ولا يمكن تصنيف اعضائها بالشعبويين… لم يكوّن حكومة من الفئات الضعيفة او من البدويين او من الفئات الفقيرة.. كلمة الشعب هي التي موجودة بكثرة رغم ان بورقيبة كان يتكلم كثيرا عن الشعب ولكن حكمه لم يكن شعبويا لانه كان يعتمد على نخب تكوّنت في فرنسا.. المشكلة الاهم في تونس هي ان الدستور الذي وضع من وجهة عامة هو جيد ولكن من وجهة  نظر المؤسسات التي تحكم هو رديء ويجب تنقيحه.. ثم ان التونسيين في السنوات الاخيرة برهنوا عن عدم استعدادهم  للديمقراطية.. يجب تحوير المؤسسات ويجب ان تتحكم في البلاد نخب حقيقية لها معرفة بالسياسة  مثلما كانت الحال زمني بورقيبة وبن علي. اغلبية اعضاء البرلمان اليوم هم اناس بلا تكوين سياسي…

هذا يعني ان الدولة الوطنية اليوم تعيش مآزق؟

فعلا .. ولا سبيل للخروج الا بنوع من النضج يأتي به الزمان ولا يمكن الرجوع الى الماضي ..

ما هي اسباب تفتت العالم العربي… هل هي هزيمة نخبة مثلما يقول برهان غليون؟

الى حد كبير هي هزيمة نخبة .. كانت النخب الفكرية والسياسية وغيرها في زمن الدكتاتوريات افضل بكثير من اليوم رغم ان حكم هذه الدكتاتوريات سلطوي حسب البلدان الا انه كانت في الواقع هناك نخب مقتدرة تدير الامور بشكل افضل وكانت هناك حركية فكرية موجودة .. تفكير في الديمقراطية وفي الاقتصاد وفي عدة امور ..  بينما نرى اليوم ارتباكا كبيرا سواء لدى النخب السياسية او حتى النخب الفكرية… لم يعد هناك فكر في العالم العربي لعدة اسباب منها وسائل التواصل الاجتماعي  بمعنى ان كل شخص اصبحت له نظرية وفكر.. كما ذابت ايضا كل النظريات القائمة خلال فترة القومية رغم انها شهدت حركية  منذ جمال عبد الناصر والى حدود الالفية الثانية .. الحركات الاسلامية اليوم وايضا ما حدث من تدخل العالم الاجنبي كحرب العراق اكد ان العالم العربي اليوم يعيش ازمة شديدة جدا لم يرها في زمن الاستعمار ولا بعده .. العالم العربي اليوم غير مهيكل ومضطرب..

شهــــــــادات

دكتورة حياة عمامو: د.جعيط علامة فارقة

أريد أن أبدأ هذه الشهادة بالتَأكيد على العلامة الفارقة والمهمَة التي تركها الأستاذ هشام جعيط في تكويني باعتباري مدرَسة وباحثة، ويمكنني الجزم بأنَ هذه العلامة لم يتركها في تلامذته الذين أطرهم وحدهم، بل طالت كلَ الذين حضروا دروسه الموجّهة إلى الدّراسات العليا من جميع الاختصاصات. وأنا لا أبالغ إن قلتُ أنَ دروس جعيط هذه قد أثّرت في جيل كامل من الذين تابعوا دروسه، ورسخت في ذاكرته.

يمثل الأستاذ جعيط أحد أبرز الأساتذة الذين أثروا المكتبة التّونسيّة بكتب فكريّة وتاريخيّة قيّمة، يعتمدها حاليا الكثير من المدرّسين لتدريس الطلبة في مختلف المستويات وعديد الاختصاصات، ولذلك فهو من بين القلائل في الجامعة التّونسيّة الذين ما زال ذكرهم حاضرا في قاعات الدّروس رغم مرور أكثر من عشرين سنة على إحالته على شرف المهنة.

وأنا لا زلْتُ أذكر إلى اليوم عديد اللّقاءات التي جمعتني بسي هشام في منزله لمناقشة ما ورد في الرّسالتين اللتين أعددتهما تحت إشرافه، أو لنقاش مسائل أخرى حول التاريخ والمناهج وقضايا الشّأن العامّ. وقد بدّدت هذه اللّقاءات مع طول الوقت، نوعا من تقليص المسافات بين الأستاذ العالم والطالب أو المدرّس الذي ما زال في بداية الطريق. يتمتّع الأستاذ جعيط بكاريزما تجعلك غير قادر على القطع كليّا مع المسافات الفاصلة بين الأستاذ وتلميذه، ومع ذلك لا أذكر أنّه فرض يوما رأيه على من يخالفه وجهة النظر.

مع فائق عبارات الاحترام والتقدير لأستاذي القدير سي هشام.

بثينة بن حسين- هشام جعيّط والفكر التّجديدي

يعتبر هشام جعيّط من أهمّ المجدّدين في التّاريخ الوسيط الإسلامي وبالتّحديد في القرن الأوّل. ويتمثّل هذا التجديد في إعتماد منهج المؤرّخ الصّارم في مجال يطغى عليه الطّابع القدسي.

فقد أولى أهميّة للمصادر الأوليّة كالقرآن لدراسة السّيرة النبويّة.وتوصّل إلى تفكيك المصادر ذات الصّبغة الأدبيّة والأسطوريّة كسيرة إبن هشام التّي كتبت في الفترة العبّاسيّة. ودرس دراسة نقديّة سيرة إبن إسحاق التّي إعتمد عليها إبن هشام. كما أعاد قراءة المصادر القريبة من الفترة المدروسة (القرن الأوّل) كالطّبري والبلاذري. وانتهج في دراسته لجذور الإسلام علم الدّيانات المقارن حيث اعتمد المراجع المختصّة في اليهوديّة والمسيحيّة. وهومن المؤرّخين العرب القلائل الذّي نجح في الإعتماد على العلوم الحديثة لدراسة التّاريخ كالأنتروبولوجيا التّاريخيّة وعلم النّفس التّحليلي في دراسته لمفهوم الوحي.

وأخيرا طوّر هشام جعيّط الكتابة التّاريخيّة بربطه بين تطوّر تاريخ الشّعوب وتاريخ الأديان.

محمد أبو هاشم محجوب هشام جعيط : التاريخ المفكّر

هشام جعيط مفكر ذو مسار نادر: فهو أولا مؤرخ. ولكنه جمع إلى ذلك، ومنذ بدايته في سبعينات الماضي، صفة المفكر، حيث يعود كتابه الأول حول الشخصية والصيرورة العربية الإسلامية، وقد كتب أولا بالفرنسية،إلى سنة 1974. وما تزال الدراسات تصنفه بنوع من الحرج بين المفكيرن تارة وبين المؤرخين طورا، وآخرها كتاب عبد الرحمان اليعقوبي حول الحداثة في التأليف الفلسفي العربي المعاصر (2014). وفي الحقيقة لا أعتقد أنه يوجد حرج في تصنيف هشام جعيط. فهو، إلى جانب عبد الله العروي يؤرخ ويفكر. ولكن موضوع تفكيرة ليس فقط مسألة منهج الكتابة التاريخية، وإنما هو أيضا وبالخصوص معنى الحدث التاريخي وقصدية مساره.

إن الحدس الجوهري لهشام جعيطمنذ كتابه الأول، وهو الحدس الذي تواصل من حيث رؤيتُه الأساسية، رغم التغير التفصيلي الذي لا يمكن جحده، هو، باختصار شديد، حدسٌ مركب من عنصرين : عنصر تحديد شبكة الإحالات التي ترجع إليها الأحداث التاريخية [وهو العنصر الذي سيمثل أغلب جزء من أعماله التاريخية من أولها إلى آخرها]  ، وعنصر ثان هو أفق هذه الأحداث التي أعطت كياننا التاريخي وفتحت في آن على الحداثة بما هي الإمكان الكوني لكياننا التاريخي تماهيا بين هذا الكيان وذلك المصير.  ذلك هو معنى الجملة الأخيرة التي أسيئت ترجمتها أيما إساءة: «لن يخلف الكوني التاريخ إلا حين يمتص المصير الكائنات التاريخية، وعندئذ لن يوجد تركيب بل ذوبان. سيكون عندئذ كياننا بتمامه مصيرنا، كما أن مصيرنا سيكون كياننا».

إن هشام جعيط ممثل عن إشكالية تخبط في أثنائها الفكر التاريخي العربي المعاصر على وجوه وبمقاربات لئن هي اختلفت فإنها لا تبرر مع ذلك وجود غيرها. إن الوعي التاريخي العربي المعاصر قد تصدى في كل محاولاته إلى إشكالية الحداثة باعتبارها الصيرورة الممكنة أو المستبعدة، وباعتبارها مصيرا ضروريا للكيان، أو للتاريخ، أو للشخصية، أو للهوية إلخ.

الشارع المغاربي-بقلم عواطف البلدي ولطفي بن ميلاد: 

نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 8 ديسمبر 2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *