ميزانية الدولة التونسية لسنة 2022: دعه يُفلس دعه يقترض .. بقلم محمد العياري


سنة مالية أخرى تتأبط أزمات اقتصادية خانقة، يبدو أنها لن تكون أفضل من سابقاتها، وربما ستكون حاسمة فيما يتعلق بملفات النفقات العمومية والتصرف ومسائل الدين العمومي الخارجي والداخلي. سنة تفتح على المجهول باستشاراتها الالكترونية واستفتاءها وانتخاباتها التشريعية المبكرة، وكذلك بحجم الديون والضرائب التي سوف تُحوّل “وعى التسول الرسمي للدولة” الى برنامج عمل اقتصادي.
في سياق استعراض الأرقام، أعلنت رئيسة الحكومة المُكلفة في ندوة صحفية صباح 28 ديسمبر 2021 عن تفاصيل ميزانية الدولة لسنة 2022، حيث أٌقفل الرقم على 38 مليار دينار، تتأتى 92% منها من المداخيل الجبائية التي تُريد الدولة تحصيلها. أما عن نفقات الدولة، فقد وقع ضبطها في حدود 47 مليار دينار تونسي مما يعني تسجيل عجز في حدود 8 مليار دينار ونصف.
يُفصّل الفصل السابع من قانون الميزانية كيفية تغطية تكاليف الخزينة، بعبارة أوضح، الموارد التي سوف يقع توظيفها للإنفاق، حيث تبلغ موارد الاقتراض الخارجي 12 652 000 000 بالدينار التونسي. في حين تُناهز موارد الاقتراض الداخلي ما قيمته 7 331 000 000 بالدينار التونسي. أما عن مبلغ تسديد الدين الخارجي، فقد لامس زهاء 5،5 مليار دينار، هذا زيادة على 4،5 مليار دينار لتسديد الدين الخارجي.
بعجز يستنزف ثلث الميزانية، تدخل تونس مجددا في دوامة الاقتراض “الاستثنائي” لتمويل عجز ميزانية “الاستثناء”، اذ لا حلول جذرية ولا رؤية تساهم ولو بالحد الأدنى في إيقاف نزيف جُرح يبدو بأنه لم يعد من أمل في التئامه. وحدها الأرقام صادقة في زمن “الاستثناء” السياسي. فهذه المعطيات التي أوردناها باقتضاب شديد، تُبرز بصورة واضحة أن العقل السياسي في تونس لازال بعيدا على فهم معادلات الربح والخسارة، والتنمية والاقتراض، وأن ما يُحصّله السياسي ينسفه الاقتصادي بإضافة أو حذف صفر على اليمين. بهكذا ميزانية، يزداد اليقين بأننا أمام صورة سريالية يغلب على تفاصيلها اللون الأحمر القاني الذي يُؤشر بوضوح على انهيار شبه تام للآلة الاقتصادية للدولة في مستوى خلق الثروة وتحقيق العائدات المالية الضرورية لتمويل قاطرات الانفاق والاستثمار. من الطبيعي أن يُناهز عجز الميزانية بمواردها الحالية مبلغ الثمانية مليار دينار أمام تعطل محركات النمو (الاستثمار، التجارة الخارجية، الاستهلاك) حيث لا يمكن الاطمئنان ولو نسبيا للوعود التي يُقدمها رئيس الدولة ورئيسة الحكومة في علاقة بمسألة سد العجز وإمكانية تدارك ما فُقد من موارد.
أما عن باقي الإجراءات الواردة في ميزانية 2022 والتي صُنّفت كأبواب –ربما تخلعها رياح الاهتزازات الاجتماعية القادمة- فلم تتعدى ما هو متعارف عليه ومألوف منذ عشرية الانتقال الديمقراطي. حيث تُكثّف كل الإجراءات في باب واحد عنوانه: زيادة الضريبة المباشرة وغير المباشرة وتدويرها على كل القطاعات الإنتاجية والاستهلاك الفردي والاقتطاعات الاستثنائية وغيرها، دون إشارة ولو مقتضبة لوضعية الشركات الغير مقيمة والمصدرة كليا التي بلغ عددها قرابة 14 ألف شركة والتي تتمتع بامتيازات ضريبية فوق خيالية، أو وضعية الاقتصاد الموازي الذي يتجاوز رقم عائداته السنوية ما يفوق نصف ميزانية الدولة. أما عن وضعية المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي يعاني رقم عائداتها من ضيق في الدخل منذ سنة ونصف بسبب وباء الكوفيد، فإنها تحصلت على جُرعة من الإجراءات من المؤكد بأنها لن تقيها من عدوى وباء الإفلاس.
بهذا الشكل، يُعيد راسمي السياسة الاقتصادية تدوير الفشل وزيادة الإهمال والهروب من تحمل المسؤولية التي تفرض القيام بإصلاحات ضرورية وهيكلية لمناشط الاقتصاد التونسي. اقتصاد يُعاني من فائض سلبي في استهلاك الوقت والفرص، وفائض قيمة في اهدار ممكنات الإصلاح الجذري والاستفادة من ثروات يمكن بل يجب توظيفها في عملية الإنتاج وزيادة الرأسمال الوطني لتحصيل ربح قد يسد جزء من العجز.
لم تكفي تحذيرات وكالات التصنيفات الدولية (وكالة موديز) التي صنفت الاقتصاد التونسي في أكتوبر الجاري في خانة CAA1 مع آفاق سلبية ولم تتفطن أدمغة الاقتصاد التونسي إلى نسبة الانكماش الاقتصادي التي بلغت حدود 8.8 % مع نمو سلبي ناهز 2 % في الثلاثي الأول من سنة 2021، مع ارتفاع غير مسبوق لنسبة الدين الخارجي إلى حدود 110 % من الناتج الداخلي الإجمالي، وملامسة نسبة البطالة حدود 17.8 % في الثلاثي الثاني من 2021.
مع هذا الحاصل المُخجل قياسا بما كان يمكن تحصيله من ممكنات الإنعاش الاقتصادي، تدور عجلة الاقتصاد عكس محورها لتُلامس جدار العجز وربما شبح الإفلاس مع انسداد آفاق الحل السياسي. نفتتح 2022 سنة “النمر المائي” بالتقويم الصيني للأبراج دون مخالب تسمح لنا باصطياد نصف فرصة لإنعاش المالية العمومية، ولا نعلم كيف ستواجه الحكومة الحالية ملف الاتفاقيات المُوقعة مع الشريك الاجتماعي أو القطاعات المهنية التي لازالت تُطالب بالمزيد من المكاسب ذات الصبغة المالية والإدارية.
في اليوم الذي تعقد فيه رئيسة الحكومة ندوة صحفية لعرض تفاصيل الميزانية، يُصرح الناطق الرسمي للحكومة بأن المفاوضات مع الاتحاد العام التونسي للشغل سوف تُيسّر مثيلها مع صندوق النقد الدولي والجهات المانحة، هذا في الوقت الذي أنهى فيه رئيس الدولة كل أمل في التفاوض السياسي مع شركاء الداخل بعد إجراءات 13 ديسمبر 2021.
تُعرض أبواب ميزانية الدولة للعموم، في نفس اليوم الذي تتحدث فيه نتائج لسبر أراء عن تصدُّر رئيس الدولة لنوايا التصويت، ومن ثمة يُصدر مرسوما من 74 فصلا؛ 73 منه تُسمّى: قانون المالية لسنة 2022 ليأمر في الفصل 74 بنشره بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية. بقراءة هذه الفصول، لن يكون لمُخرجاتها من معنى سوى: دعة يُفلس دعه يقترض.

محمد العربي العياري
وحدة البحث والدراسات والنشر/ مركز الدراسات المتوسطية والدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *