لماذا رفضت إندونيسيا فكرة الدولة الإسلامية و كيف صارت نموذجاً للتسامح و التعددية ؟

بعد زيارته لها في صيف العام 2010، أشاد الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، بالتجربة الديمقراطية في إندونيسيا، واعتبرها نموذجاً لقيم التسامح والتعددية. أما وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون فاعتبرتها نموذجاً للديمقراطية في العالم الإسلامي. فما سبب هذا الاعجاب. وكيف تشكلّ هذا النموذج ؟ وباعتبارها البلد المسلم الأكبر، ما الدور الذي لعبته الحركات الإسلامية في هذا النموذج، وما هو موقعها منه، عبر مختلف مراحل تشكيله ؟

في مواجهة المستعمر

تعود نشأة الأشكال الأولى للتنظيمات السياسية الإسلامية في إندونيسيا إلى بداية القرن العشرين، عندما كانت إندونيسيا تحت سيطرة الاستعمار الهولندي، وكانت هذه النشأة مرتبطة بتشكّل الهوية والوطنية والنضال ضد المستعمر. وفي عام 1912 تشكّلت “الرابطة الإسلامية”، أول حزب سياسي وطني، والتي تعتبر الجذر لكل الحركات والجماعات الإسلامية التي ظهرت في إندونيسيا لاحقاً.

كانت الرابطة تتألف من الجمعيات الإسلامية وتجمعات المقاومة ومدارس التعليم الديني، وكان البعد الإسلامي فيها متداخلاً مع الأبعاد القومية والوطنية والتحررية، ورغم ظهور عدد من الجمعيات التي ركزّت على الجوانب العلمية والخيرية، كالجمعية المحمدية (1912)، وجمعية الإصلاح والإرشاد (1914) ونهضة العلماء (1926)، إلا أنّ الرابطة بقيت الأكثر ارتباطاً بالجانب السياسي. وفي الحرب العالمية الثانية، شاركت الرابطة في النضال ضد الاستعمار الياباني للبلاد، حتى نهاية الحرب عام 1945.

طلاب يدرسون في كُتّاب بجزيرة جاوا.. زمن الاستعمار الهولندي

 

“دار الإسلام”.. حيث يسود حكم الشريعة

وبعد استقلال البلاد عام 1945، وصل الرئيس سوكارنو إلى الحكم، وهو الزعيم القومي الذي انخرط في حركة التحرر وأصبح أبرز قادتها، وكان مع رفاقه يمثل التيار العلماني داخل الرابطة الإسلامية، في حين كان القيادي الإسلامي “سيكارماجي كارتوسويرجو” (Sekarmadji Kartosoewirjo) قائد التيار الديني، الذي كان يسعى لتطبيق الشريعة. ورغم الخلافات، إلّا أنّ التيارين كانا في توافق قبل الاستقلال؛ توحيداً للصفوف في مواجهة المستعمر. وهو ما انقلب بعد الاستقلال.

التيار الإصلاحي الإندونيسي يمتثل في ثلاث منظمات هي: منظمة نهضة العلماء والجمعية المحمدية إضافة إلى رابطة الطلاب الإسلاميين

أصبح سوكارنو رئيساً للبلاد، وقامت اللجنة التحضيرية للاستقلال والمُكلّفة بكتابة الدستور بشطب النصّ على الحكم بالشريعة، مراعاةً لمطالب الأقليات غير المسلمة (حوالي 12% من السكان). وأعلن سوكارنو عن المبادئ الخمسة لحكم البلاد، والشهيرة بـ “البانتشاسيلا”، دون ذكر الحكم بالشريعة بينها، وهي: الإيمان بإله واحد، وإنسانية عادلة ومتحضرة، ووحدة إندونيسيا، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية.

وعلى إثر ذلك، قرر كارتوسويرجو الإعلان عن قيام دولة إسلامية إندونيسية في جزيرة “آتشيه”، وكانت المناطق التي تخضع لحكمه تسمى باسم “دار الإسلام”، باعتبار أنّ حكم الإسلام و الشريعة هو المطبّق فيها، ومن هنا جاء اسم حركته “حركة دار الإسلام”.

تصاعد الصراع بين الحركة المتمردة وسوكارنو وتحوّل إلى صراع مسلح خلال الخمسينيات، إلى أن تم إخماده مع اعتقال كارتوسويرجو عام 1962، ومن ثم تنفيذ حكم الإعدام بحقّه، لتنتهي بذلك المرحلة الأولى من التجربة الإسلامية في إندونيسيا المعاصرة.

كارتوسويرجو.. لحظة تنفيذ حكم الإعدام عام 1962

 

 

دولة إندونيسيا الإسلامية.. إعادة البعث من جديد

تزايدت الاضطرابات في عهد سوكارنو مع المحاولة الانقلابية الشيوعية، وما تبعها من انتهاكات وحملات قتل وسجن وتعذيب. وفي عام 1967 انتهت الأمور إلى تعيين سوهارتو رئيساً بسبب تدهور حالة سوكارنو الصحية.

اتجه سوهارتو لفتح الباب أمام مظاهر الأسلمة المتزايدة في سبعينيات القرن الماضي، وذلك في إطار مساعي مواجهة الشيوعية واليسار، خاصّة بعد سقوط “سايغون” عاصمة فيتنام الجنوبي، وانتشار الثورات الشيوعية إلى دول الجوار، ككمبوديا ولاوس.

منظرو تيار الإسلام الإصلاحي يشتركون في رفض فكرة الدولة الإسلامية و الدعوة لـ “إسلام ليبرالي” يتبنى قيم الحرية والتسامح والتعددية

في مرحلة السبعينيات، شهدت الحركات الإسلامية الإندونيسية تطوّرات مهمّة، تمثّلت في صعود تيار إسلامي متطرّف، بدايةً من ظهور حركة “كوماندو جهاد”، التي أعلنت الحكومة منتصف عام 1977 اعتقال (185) عنصراً منها، ووجهت لهم تُهَم الانتماء إلى تنظيم إرهابي. وكان تنظيم “كوماندو جهاد” يسعى لإحياء جهود كارتوسويرجو لتأسيس “دولة إندونيسيا الإسلامية”، وبالتالي فإن هذا التنظيم اعتبر بمثابة استمرار لحركة “دار الإسلام”.

وتبع ذلك ظهور التنظيم الذي عُرف باسم “ارهاب ورمان” بقيادة “موسى ورمان”، وانصبّ تركيز هذا التنظيم على استهداف المخبرين؛ انتقاماً لاعتقالات واسعة طالت قياديين إسلاميين نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات.

إعدام أحد عناصر تنظيم "كوماندو جهاد"

إعدام أحد عناصر تنظيم “كوماندو جهاد”

 

 

“الثورة الإسلامية” و”القاعدة”.. في إندونيسيا

و بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، طلب موسى ورمان الدعم من الخميني، في حين أعلن “عمران بن زين” عن تشكيل “المجلس الثوري الإسلامي الإندونيسي” بقيادته، مستوحياً فكرة المجلس من الثورة الإيرانية.

 

وفي هذه المرحلة، برز اسم “أبو بكر باعشير”، الذي أسس رفقة “عبدالله سونغكار”، وبعد خروجهما من السجن وانتقالهم إلى ماليزيا عام 1982، “الجماعة الإسلامية”، قبل سنوات من الإعلان عن إطلاقها رسمياً عام 1993. وتزامن انطلاق عمل الجماعة مع انطلاقة الحرب في أفغانستان ضد السوفييت، فنسّقت مع “مكتب الخدمات” (على الحدود الباكستانية-الأفغانية)، والذي كان مسؤولاً عن تجنيد “المجاهدين”، فكانت الجماعة تتولى مهمة إرسال المقاتلين من إندونيسيا وعموم جنوب شرق آسيا. وقد وصل عدد المقاتلين الإندونيسيين في أفغانستان إلى نحو ثلاثة آلاف.

رغم الضربات القوية التي تلقاها، فإنّ التيار الجهادي الإندونيسي عاد للحياة من جديد مؤخراً

وفي عام 1998 وبعد نهاية حكم سوهارتو، عاد باعشير وسونغكار إلى إندونيسيا، ووفق تقرير نشرته المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات (ICG) عام 2003، فإنّ الجماعة قامت بالتواصل مع أسامة لادن زعيم تنظيم القاعدة، و تلقت منه الدعم، للتحول بذلك إلى فرع محلي للتنظيم العالمي.

ومع مطلع الألفية الجديدة تلقت الجماعة ضربة قاصمة بعد توجيه الاتهام لها بالوقوف وراء تفجير بالي عام 2002، وتفجير السفارة الأسترالية في جاكرتا عام 2004، وما تبع ذلك من موجة اعتقالات وإعدامات طالت قياديي الجماعة وعناصرها، وانتهت باعتقال باعشير عام 2005.

ورغم الضربات القوية التي تلقاها، فإنّ التيار الجهادي الإندونيسي عاد للحياة من جديد مؤخراً، مع انخراط أعداد من الاندونيسيين في الصراع السوري، وانضمام نسبة منهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية، وهو ما جاءت ارتداداته مع هجوم جاكرتا في كانون الثاني (يناير) عام 2016، الذي أثار المخاوف من هذه العودة.

تم اعتقال أبو بكر باعشير عام 2005

 

 

عودة الديمقراطية.. و حضور إسلامي متواضع

بلغت الأزمة الاقتصادية ذروتها عام 1997، وكانت إندونيسيا أشدّ الاقتصادات تضرراً من الأزمة الآسيوية ذلك العام. وفي يوم 12 أيار (مايو)، وعلى إثر ضغوطات وحراك شارع قادته حركات طلابية، أعلن سوهارتو استقالته وتنحّيه عن السلطة لتبدأ بذلك مرحلة جديدة في المشهد السياسي الإندونيسي وليبدأ بذلك فصل جديدة من قصّة الإسلاميين في إندونيسيا.

 

استلم يوسف حبيبي السلطة لمدة عام، وضع خلاله الأسس لحقبة ما بعد سوهارتو، وقاد عملية التحوّل الديمقراطي. وفي عام 1999 جاءت أول انتخابات ديمقراطية، ورغم هذا التحوّل، إلا أنّ الأحزاب الإسلامية لم تتمكن من تحقيق الانتصار منذ ذلك الحين.

بلغت الأزمة الاقتصادية ذروتها عام 1997، وكانت إندونيسيا أشدّ الاقتصادات تضرراً من الأزمة الآسيوية ذلك العام

ففي عام 1999 كانت الغلبة لحزب “النضال من أجل الديمقراطية”، في حين لم تحقق الأحزاب الإسلامية مجتمعةً أكثر مما نسبته 20% من المقاعد في مجلس الشعب. وفي عام 2004، فاز حزب “جولكار”، وفي عام 2009 عاد حزب النضال من أجل الديمقراطية للصدارة من جديد، وهكذا استمرت سيطرة الأحزاب العلمانية، في حين لم تتجاوز الأحزاب الإسلامية مجتمعة نسبة الثلث من مجموع الأصوات.

وبعد انتخابات عام 1999، ووصول الأحزاب الإسلامية إلى مجلس الشعب، ورغم عدم سيطرتها وتشكيلها أغلبية، إلاّ أنّ المسعى الأول على جدول أعمالها كان المطالبة بإعادة استدخال النصّ الخاص بحكم الشريعة في الدستور، وفي عام 2001 جاءت محاولة اقتراح هذا المطلب، إلا أنّ مجلس الشعب رفض الاقتراح بأغلبية 81%.

“العدالة والرفاهية”.. تحولات أيديولوجية

شاركت أربعة أحزاب إسلامية التوجّه في الحكومات المتعاقبة، وكان “العدالة والرفاهية” أبرزها حضوراً. و يعود تأسيس الحزب إلى العام 1998، وقد نشأ من رحم “حركة التربية”، التي نشطت منذ الثمانينيات، وتألفت بالأساس من طلبة الجامعات، وتركزّت جهودها على الدعوة.

كانت مشاركة الحزب الأولى في انتخابات العام 1999، وحصل فيها على نحو (1.44) مليون صوت و(7) مقاعد، ثم في عام 2004، حصل على (8.325) مليون صوت و(45) مقعداً، وفي 2009 حصل على (8.2) مليون صوت و(57) مقعداً، وفي عام 2014، حصل على (8.48) مليون صوت و(40) مقعداً. وقد عرف الحزب تحولات أيديولوجية كبيرة؛ ففي مرحلة التأسيس كان أقرب لحركات الإخوان المسلمين التقليدية وكان ينادي بحكم الشريعة، أما اليوم فقد تحوّل إلى حزب وطني يتبنّى مبادئ “البانتشاسيلا”.

أنيس متى القيادي بحزب العدالة والرفاهية في مهرجان انتخابي للحزب

 

التيار الإصلاحي: لا نريد دولة إسلامية!

ويعود السبب في ضعف حضور الإسلام السياسي في إندونيسيا إلى وجود اتجاه إسلامي بديل، وهو عبارة عن تيار من التجمعّات الإصلاحية التي تتبنى رؤية ليبرالية وعلمانية ولا تدعو إلى تحكيم الشريعة. و يتمثّل هذا التيار في ثلاث منظمات بالأساس، وهي: منظمة نهضة العلماء، والجمعية المحمدية، إضافة إلى رابطة الطلاب الإسلاميين.

الجمعية المحمدية هي الأقدم بينها، يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1912، على يد المفكّر والمجدد الإسلامي “أحمد دحلان” الذي كان متأثراً بفكر محمد عبده الإصلاحي، وبحسب ما تعلن عنه الجمعية، فإنّ عدد أعضائها اليوم يقدّر بـ (50) مليون، وهي تمتلك وتدير نحو (500) مستشفى و(171) جامعة و(9277) مدرسة.

أما منظمة “نهضة العلماء” فتأسست عام 1926، على يد الفقيه الشافعي “محمد حسيم”، وقد وصل عدد الأعضاء المنتسبين لها عام 2003 إلى (40) مليون إندونيسي، وقد اعتبرها معجم أكسفورد عن “الإسلام و السياسة” الصادر عام 2013، أكبر منظمة إسلامية مستقلة في العالم. تشرف المنظمة على سلسلة من المدارس العلمية التي تتبع المذهب الشافعي، وعلى عدد كبير من المستشفيات والجمعيات الخيرية.

أما رابطة الطلاب الإسلاميين، فتأسست عام 1947 بمبادرة من الأستاذ الجامعي “لافران بان”، و يقدّر عدد أعضائها اليوم بعشرة ملايين عضو، وهي لا تقتصر على الطلبة المنتظمين بالدراسة، وإنما تضمّ الخريجين أيضاً.

علم جمعية “نهضة العلماء” مرفوعاً في أحد محافلها

وتشترك هذه التكتلات الثلاثة في رفض إقامة دولة إسلامية بإندونيسيا، واعتبار ذلك غير مناسب للبلاد، وأن شكل الدولة الإندونيسية الحالي هو الأنسب للدولة الإندونيسية المترامية الأطراف وذات العدد السكاني الذي يفوق الربع مليار نسمة.

و قد خرجت أسماء سياسية بارزة من رحم هذه المنظمات، أهمها الرئيس الإندونيسي الأسبق “عبد الرحمن وحيد”، الذي تولّى رئاسة منظمة نهضة العلماء مدة 15 عاماً، قبل أن يصل إلى رئاسة البلاد عام 1999 خلفاً ليوسف حبيبي. كما وصل “أمين ريس”، الرئيس الأسبق للجمعية المحمدية (1995-2000) إلى منصب رئاسة الجمعية الاستشارية الشعبية (مجلس الشعب الإندونيسي) في الفترة  1999 وحتى 2004.

أحمد شافعي معاريف من أبرز وجوه الفكر الإسلامي الليبرالي في إندونيسيا

ويعتبر عبد الرحمن وحيد، إلى جانب “أحمد شافعي معاريف” (من الجمعية المحمدية)، والبروفسور “نورشوليش مجيد” (من رابطة الطلاب)، أبرز منظري تيار الإسلام الإصلاحي، وقد اشتركوا في رفض فكرة الدولة الإسلامية والدعوة لـ “إسلام ليبرالي” يتبنّى قيم الحرية والتسامح والتعددية، وساهموا معاً في نشر هذه الأفكار والقيم في المجتمع الإندونيسي، وتبديد الاعتقاد الذي كان سائداً منذ الاستقلال وحتى الثمانينيات بأن “البانتشاسيلا” (مبادئ الحكم الخمسة) تضعف العقيدة الإسلامية.

ولازال المخاض مستمراً في هذه الدولة الأكبر في العالم الإسلامي، وهو مترافق مع تراجع لمطالب ودعاوى “الدولة الإسلامية”، مقابل اتجاه متزايد نحو تقبل مبادئ الحرية والتعددية والعمل الوطني.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *