” قصّتي” مع إلياس الفخفاخ .. بقلم الاستاذ فتحي اليسير

لم أقابل إلياس الفخفاخ يوما في حياتي و الظاهر أنّني لن أقابله أبدا . و مع ذلك فان لي معه “قصّة” غير عارية عن الطرافة. و الحق أنّني قد فكّرت في كتابة ما أصبحت أُسميه قصّة بُعيد تكليف الفخفاخ بتشكيل الحكومة الجديدة خلفا للحبيب الجملي و لكنّني سرعان ما عدلت عن الفكرة لئلا يؤوّل كلامي على أنه انخراط في” أجندة ما” (و ما أكثر الأجندات هذه الأيام و ما أبأسها ) .
أما اليوم و قد غادر الياس الفخفاخ و رجاله و نساؤه ، بقضّهم و قضيضهم ،القصبة و معابرها و مجسّاتها فان الوقت بات ( لاحظوا أنّني لم أكتب أصبح ) مناسبا لرواية “قصّتي”.فإليكُمُوها دون مزيد إطالة و تمطيط..
كنت في مطلع الأسبوع الأول ( لم أعد أتذكّر اليوم على وجه التحديد) من شهر ديسمبر 2017 على موعد مع المؤرخ الكبير الأستاذ عبد الجليل التميمي في مكتبه في مؤسسته العامرة المعروفة. و قد جاء لقائي به هذا في إطار دعوة تلقيتها من لدنه لإلقاء محاضرة ضمن سلسلة السمينيرات التي دأب على تنظيمها كل يوم سبت و ذلك منذ سنوات. كان لقاء مفعما بالود استحضرنا فيه عديد الذكريات خاصّة و انه قد مرّ دهر لم ألتق أستاذي بالجامعة خلال سبعينيات القرن الماضي رغم أنّنا كنا نتواصل و نتراسل ، و ان بشكل متقطع و غير منتظم ، و الحق يقال..شرّقنا و غرّبنا ، و تشعّب بنا الحديث و طال كل مطال ، و طارت بنا الأفكار كل مطار، فلم نشعر بمرور الوقت . حدثني عن مشاريعه .و فاتحني في مشروع لي وضع على “مقاسي” و على انضمامي إلى هيئة تحرير” المجلة التاريخية المغاربية “، ثم عرض علي خطاطة عمل ،و لسانه لا يكلّ عن إطراء شخصي المتواضع حتى أنه قال : “لقد اقتنيت كتابك “دولة الهواة” و جعلته كتاب مخدّتي..”Livre de chevet. ثم أردف قائلا :” ولكن كبار السياسيين عندنا منقسمون بشأن كتابك الأخير انقساما حدّا بين مادح و قادح.. “. و قد شقّ لي كلامه هذا طريقا كي أتحدث عن حساسية السياسيين المفرطة في ديارنا لما يكتب عنهم. و عبّرت له عن رأيي في الطبقة السياسية بكل صراحة .وأذكر أنّني قلت في هذا الخصوص : ” أنا ( مثلي مثل عموم التونسيين)لا أنتظر منهم إجتراح العجائب لكن على الأقل سميغ SMIG من الكفاءة و الوطنية، و لكنهم محدودون ضيّقو الأفق . يهرفون بما لا يعرفون . إنهم يشتكون من” أنيميا” حادّة في تكوينهم السياسي و في الثقافة العامة و ثقافة الدولة و هم يجهلون اللغات ..” قبل أن أختم بالقول :” أبمثل هذه الرؤوس البُور يمكن للحياة السياسية أن تنهض في بلادنا ؟”
و فجأة أرسل الأستاذ التميمي ، و هو يضع راحة يده اليمنى على جبهته يااااها ممطوطة و هو يقول :”كدت أنسى إلياس الفخفاخ..لقد تردّد علي هنا ثلاث أو أربع مرات..” ثم سكت كأنه يستحضر شيئا في دماغه أو كأنه راح يرتب أفكاره ثم قال :” الحق أن ما جاء في كتابك قد أرمضه و أثّر فيه و خاصة ذلك المبحث المعنون : قانون المالية لسنة 2014 أو “إتاوات الفخفاخ” التي فجّرت الإنتفاضة ..” . ثم عاد يكرر – في ما يشبه اللازمة – أن كلامي في الفصل المعقود للانتفاضة المذكورة قد أثر فيه بحيث وقر في صدره و رأسه و لبد في ضميره ، بل لعلّه تحول الى جرح غائر في كبريائه ما يزال غضا طريا .أحسست أنه كالطير العالق..”قبل أن يضيف : “كلّمني في شأنك بلهجة متوترة شممت منها غضبا أو عتبا عليك و هو ما يزال تحت تأثير ذلك الكلام.. و بالمناسبة فأنني فهمت من كلامه أن لديه ملاحظات و خواطر، من وحي ما ورد في كتابك ، قد يسكبها يوما من الأيام على الورق على هيئة مذكرات أو شيئا من هذا القبيل..”.
و فجأة أنشأ التميمي يّطري خصال الفخفاخ كمن يُزكّي عروسا ( و بدا لي أنه كان صادقا في ثنائه عليه ) . و من بين ما قاله أنه شاب مثقف محب للتاريخ و أن ذوقه مدرب على شتى أنواع الفنون ، وهو أيضا صاحب طموح لا حدّ له . و ختم الدكتور التميمي “خطبته” أم “تيرادته” Tiradeعن الرجل قائلا :”أريد أن أعقد لقاء بينك و بينه هنا في مكتبي هذا مع العلم أنه هو الذي أوعز لي بذلك إذ من الظاهر أن له رغبة قوية في “الفضفضة” ، و هذا ما لمسته شخصيا..” .قلت لأستاذي عبد الجليل التميمي، بعد أن دلق كلّ ما جعبته عن الفخفاخ : “كتابي لا يخلو من المآخذ و لا يبرأ من السقاط ، و لكن ما كتبته عن انتفاضة الإتاوات هو عين الحقيقة و سيعيد المؤرخون في قادم الأيام و الأعوام “إعادة زيارة الانتفاضة علميا و سينصفونني لا محالة و لا سيما جهدي في تعيين المعالم و الاحتفاظ بالمواضعات الأولية لما جرى..فضلا عن ما قدّمته عن السّمات العامّة للانتفاضة من استنتاجات و استخلاصات أوليّة . أما بخصوص موضوع نسبة الإتاوات إلى شخصه فهذا أمر معروف في كل بلدان الدنيا ذلك أن المشاريع المبادرات و الإصلاحات و نحوها إنما تنسب أبوتها إلى من خطّطوا لها أو أنفذوها أو أوحوا بها أو أشاروا بها، الى أصحاب القرار، وهو ما يدخل في نافلة القول..
و الحق أنني لا أريد أن أثقل على القراء بالعودة الى سياق خريف2013 – جانفي 2014 كي أتحدث عن قانون المالية لعام 2014 و عن” إتاوات الفخفاخ ” التي شكل الفاعلان عنها قادح ثورة فلاحية هائلة (6 – 9 جانفي 201) تقدّم صفوفها فلاّحون و بحّارة و استمرت أربعة أيام شلّت فيها البلاد التونسية بالكامل و حوصرت خلالها القباضات المالية بسيارات و عربات و شاحنات الغاضبين و المتضررين من ذلك الإجراء غير المدروس ( إقرار زيادات كبيرة في المعاليم الموظفة على عربات النقل التي تضاعفت ما بين مرّتين و أربع مرّات ،و فرض المعرّف الجبائي (الباتيندة) على الفلاّحين..الخ
لقد أقرّت إتاوات الفخفاخ الشهيرة نوعا من الجباقراطيّة fiscocratie( و هو نظام لا يضع في أفقه المبادئ التي تعهد المجلس التأسيسي بتطبيقها و عنينا مبادئ الثورة في العدالة و الكرامة )بإقرارها إتاوات و ضرائب جديدة طالت الطبقة المتوسطة التي طحنها التضخّم ، واكتوت بسُعار الأسعار..
لقد انتهت تلك الهبة الكبيرة ،Great Rise و فق تعبير المؤرخ البريطاني الكبير إيريك هوبزباوم Eric Hobsbawm ، برضوخ رئيس الحكومة علي العريض إلى مطالب المنتفضين و تعليق العمل بالإتاوات (في سيناريو ذكّر “بثورة الخبز” في 3 جانفي 1984 ) بل و بتعجيل تقديم استقالته (و من ثمّ استقالة الحكومة التي كان يرأسها) . هكذا يجوز القول أن الترويكا التي جاءت الى الحكم إثر ثورة قد غادرته إثر إنتفاضة .
أعود بعد هذا القوس الذي فتحته للحديث عن انتفاضة 6/9 جانفي 2014( و قد وجدت صعوبة في وضع شقيقه المقلوب إيذانا بانتهاء الاستطراد) الى الحديث عن إقتراح الدكتور عبد الجليل التميمي ، كي أربط ما سبق بما سيأتي . قلتُ للأستاذ التميمي لا مانع لدي للجلوس إلى السيد إلياس الفخفاخ و لكنك تعلم أنني أزاول الترحال بين صفاقس و جربة و أنني لا أنزل بالعاصمة إلا خطفا لأنّني أكره فوضاها و ضجيجها و مزدحم الحياة فيها وبإمكانك ترتيب أمر لقاء ثلاثي بيننا حين أكون متواجدا بالعاصمة . أما أن آتي من صفاقس خصّيصا لمقابلة الرجل فهذا ما لا أستطيع أن أعدك به. و هكذا تقوّضت الجلسة بيني و بين الدكتور عبد الجليل التميمي دون التوصل إلى اتفاق بهذا الخصوص. و لم يعاود هو الاتصال بي في الموضوع و نسيت أنا ،في خضم مشاغلي و التزاماتي، المسالة أو هكذا خيّل إلي..
حاشية :
نسيتُ أن أكتب أنّني قلت للدكتور التميمي : قل للسيد الفخفاخ ما يلي: لتعلم معالي الوزير أن قدر مؤرخ تاريخ الزمن الراهن ( شأني أنا)هو الاشتغال على حقول إستريوغرافية جدّ حسّاسة. حقولٌ تقع في ملتقى السلطة و المجتمع و العلم. و أن قوله :” الأستاذ حكم علي..(كذا)..” يحيل على الخلط في الأدوار بين القاضي و المؤرخ ، أنني من بين الذين يتبنون مقولة الفيلسوف بول ريكور :” القاضي هو الذي يحكم و يُعاقب ، و المواطن هو الذي يُناضل ضد النسيان و من أجل إنصاف الذاكرة ،أمّا المؤرخ فمهمّته تكمُن في الفهم دون إتّهام أو تبرئة…”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *