فيما هددت أمننا القومي .. احصائيات المعهد الوطني للإحصاء تضبط بوصلة الإنقاذ . بقلم جنات بن عبد الله

زعزعت الاحصائيات الأخيرة الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء في منتصف شهر أوت 2020 بخصوص نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي للثلاثي الثاني من السنة الجارية، وبنتائج المسح الوطني حول السكان والتشغيل لنفس الفترة، زعزعت كل مقومات استقرار الدولة الوطنية ودفعت للتساؤل عن طبيعة اليات إيقاف هذا التدهور السريع للمؤشرات الاقتصادية والمالية والنقدية.

ولئن تحاول الأطراف السياسية وخاصة تلك المتواجدة في السلطة تنسيب هذا التدهور وربطه بأزمة صحية عالمية تجولت الى أزمة اقتصادية عالمية، فذلك لا يبرر حالة الشلل المسجل في مستوى السلطات التونسية التنفيذية منها والتشريعية والنقدية. هذا المنحى التنازلي لكل المؤشرات الذي اختزلته نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي للثلاثي الثاني من السنة ب .612 بالمائة سلبية مقارنة بالثلاثي الثاني من سنة 2019، وبتراجع بنسبة 11.9 بالمائة سلبية لكامل السداسي الأول من سنة 2020 هو غير مسبوق بل هو رقم من الصعب ضبط دلالاته وانعكاساته على حياة المواطن. وهو رقم لم يدرس في الجامعات حتى من باب الفرضيات المرتبطة بحالة حرب عالمية ثالثة، أو من باب التداخل والتشابك بين الاقتصاديات في ظل العولمة الاقتصادية والمالية ليجد العالم نفسه اليوم أمام حالة غير مسبوقة… تتطلب تعاطي غير مسبوق… باليات غير مسبوقة… وتقطع مع الاليات التقليدية والنمطية الجاهزة لكل زمان ومكان على غرار وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

هذه الأزمة الصحية العالمية التي تحولت الى أزمة اقتصادية ومالية عالمية ضربت أيضا ثوابت النظام التجاري متعدد الأطراف الذي يعتبر تحرير المبادلات التجارية قاطرة للنمو الاقتصادي لتجد الاقتصاديات الوطنية نفسها مدعوة الى ترتيب بيتها الداخلي وإعادة خلط الأولويات من أجل توفير قوت المواطن وجمايته من مجاعة تقرع حدوده المفتوحة.
ولعل مصطلح التدمير أخذ المقود أو المشعل من مصطلح الخلق والبناء بما يفرض اليوم على السياسيين المولعين بالخطب الوردية وبالتلاعب على المواطن زمن الازمات، البحث عن مصطلحات جديدة في عائلة التدمير بما ينقذ عبقريتهم من العقم الذي كلس عقولهم بوصفات صندوق النقد الدولي ودراسات البنك العالمي وقواعد ومبادئ اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة.

تفاصيل هذا التدمير ترويها لنا نتائج المسح الوطني حول السكان والتشغيل الذي أنجزه المعهد الوطني للإحصاء والذي يقوم على مقارنة عدد المشغلين حسب الأنشطة الاقتصادية فيما بين الثلاثي الأول والثلاثي الثاني من سنة 2020 وتطور القيمة المضافة للأنشطة الاقتصادية خلال الثلاثي الثاني من سنة 2020 مقارنة بالثلاثي الثاني من سنة 2019.

فحسب المعهد الوطني للإحصاء فقد كان قطاع الخدمات المسوقة (النقل والاتصالات، النزل والمطاعم والمقاهي، البنوك والتأمين، التجارة، خدمات التصليح وخدمات عقارية وخدمات أخرى للمؤسسات) من أكبر القطاعات تأثرا بجائحة كورونا وبتدابير الحجر الصحي التي أوقفت وعطلت جميع أنشطة القطاع ليسجل انكماشا حادا بنسبة 4.30 في المائة خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية وقد تسبب هذا الانكماش في فقدان القطاع الذي يشغل مليون و777 ألف شخص حوالي 52.7 ألف موطن شغل في ظرف قصير جدا فيما بين الثلاثي الأول والثلاثي الثاني من السنة الجارية. ويعتبر قطاع النزل والمطاعم والمقاهي، الذي يوفر 131 ألف موطن شغل، من أكبر القطاعات تضررا بتسجيله انكماشا قدر في حدود 77.5 في المائة فقد بسببه 16.9 ألف شخص موطن شغله، ويأتي في المرتبة الثانية فطاع النقل والاتصالات، الذي يشغل 178 ألف شخص، حيث سجل انكماشا بنسبة 51 في المائة ليفقد هو أيضا 16.7 ألف موطن شغل. ويعتبر قطاع البنوك والتأمين من القطاعات التي شهدت شبه استقرار في عدد المشتغلين حيث فقد حوالي 500 موطن شغل.

قطاع الصناعات المعملية (الصناعات الغذائية، مواد البناء والخزف والبلور، الصناعات الميكانيكية والكهربائية، الصناعات الكيميائية، صناعات النسيج والملابس والاحذية، صناعات معملية أخرى) سجل هو أيضا انكماشا حادا خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية بنسبة 27 في المائة ليفقد القطاع الذي يشغل 615 ألف شخص قرابة 52 ألف موطن شغل في ظرف وجيز بين الثلاثي الأول والثلاثي الثاني من السنة الجارية.

ويعتبر قطاع الصناعات الميكانيكية والكهربائية، الذي يوفر 142 ألف موطن شغل، من أكثر القطاعات التي عرفت تدمير مواطن الشغل في ظرف وجيز بين الثلاثي الأول والثلاثي الثاني من السنة الجارية بفقدان 24 ألف موطن شغل حيث سجل انكماشا على أساس سنوي بنسية 35.9 في المائة خلال الثلاثي الثاني من السنة.

قطاع الصناعات الغذائية، الذي يوفر 92 ألف موطن شغل، من القطاعات التي عرفت فقدان عدد هام من مواطن الشغل في ظرف وجيز بين الثلاثي الأول والثلاثي الثاني من السنة الجارية بلغ أكثر منأضعف انكماش في تطوره بنسبة 3.9 في المائة مقارنة ببقية أنشطة قطاع الصناعات المعملية خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية مقارنة بالثلاثي الثاني من السنة الماضية.

أما قطاع صناعات النسيج والملابس والاحذية، الذي يشغل أكثر من 228 ألف شخص، فقد كان من أكثر القطاعات التي سجلت انكماشا بنسبة 42 في المائة خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية بسبب تراجع الطلب في السوق الأوروبية، الا أنه لم يعرف أكبر تدمير لمواطن الشغل في بلادنا مقارنة مع قطاع الصناعات الميكانيكية والكهربائية المرتبط بقطاع السيارات الذي عرف تدهورا كبيرا في السوق الأوروبية بسبب جائحة كورونا. فقد خسر قطاع النسيج أكثر من 6 الاف موطن شغل فيما بين الثلاثي الأول والثلاثي الثاني من السنة الجارية.

قطاع الصناعات غير المعملية (المناجم، استخراج النفط والغاز الطبيعي، البناء والأشغال العامة) الذي يشغل أكثر من 493 ألف موطن شغل، تضرر هو أيضا بجائحة كورونا وتدابير الحجر الصحي ليسجل انكماشا بنسبة 20.8 في المائة خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية ليفقد بذلك حوالي 46 ألف موطن شغل فيما بين الثلاثي الأول والثلاثي الثاني من السنة الجارية. وفيما حافظ قطاع المناجم والطاقة على عدد المشتغلين الذين يناهز عددهم 37 ألف شخص باعتبار تطور القيمة المضافة لقطاع استخراج النفط والغاز الطبيعي بنسبة 4 في المائة خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية فقد خسر قطاع البناء والأشغال العامة أكثر من 46 ألف موطن شغل في ظرف وجيز حيث انكمش نشاطه ب .524 في المائة خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية.

القطاع الوحيد الذي انفلت من كماشة الانكماش في بلادنا، على الأقل الى حد الثلاثي الثاني من السنة الجارية، هو القطاع الفلاحي الذي سجل تطورا بنسبة 3.6 في المائة خلال الثلاثي الثاني من السنة الجارية مقارنة بنفس الفترة من السنة

الماضية بعد أن سجل خلال الثلاثي الأول من هذه السنة تطورا بنسية 7.1 في المائة. هذا القطاع، الذي يشغل 494 ألف شخص، خسر أقل مواطن شغل مقارنة مع بقية القطاعات في حدود 12 ألف موطن شغل.

قطاع الخدمات غير المسوقة، المقصود به الخدمات المسداة من قبل الإدارة ويشمل التربية والصحة وخدمات إدارية، والذي يشغل 664 ألف شخص فقد عرف هو أيضا تراجعا في القيمة المضافة بنسبة 15.8 في المائة خلال الثلاثي الثاني من السنة مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية ليخسر 1700موطن شغل فيما بين الثلاثي الثاني والثلاثي الأول من السنة الجارية.

لقد كشف المعهد الوطني للإحصاء هذه المرة عن خارطة فقدان مواطن الشغل حسب النشاط الاقتصادي بفضل المسح الوطني للسكان والتشغيل للثلاثي الثاني من السنة الجارية وذلك بالتوازي مع نشر تطور القيمة المضافة لمختلف القطاعات الاقتصادية التي تأثرت بتطبيق تدابير الحجر الصحي لمواجهة جائحة كورونا لنقف عند حقائق صارخة تفرض على السلط الثلاثة التنفيذية والتشريعية والنقدية مراجعة السياسات القطاعية والنقدية والتوقف عن التنفيذ الالي لوصفات صندوق النقد الدولي ودراسات وبرامج البنك العالمي والقوانين المرتبطة بتطبيق اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي والسعي نحو بلورة وصفة وطنية مرجعيتها الاحصائيات الأخيرة للمعهد الوطني للإحصاء وبعض الدراسات الموضوعية التي قامت بها هياكل عمومية بعيدا عن التوظيف السياسي واجترار تحاليل المؤسسات المالية الدولية التي كشفت جائحة كورونا عن حجم الدمار الذي غذته منذ سبعينات القرن الماضي الى اليوم وترجم الى تدمير مواطن الشغل لندخل اليوم وبصفة رسمية وعلنية مرحلة التدمير بامتياز مقابل خطاب سياسي لا يزال يتحدث عن الإنجاز والبناء والإنقاذ.

اننا نستغرب، بعد نشر المعهد الوطني للإحصاء لهذه المعطيات، من حكومة لا تزال تتحدث عن إصلاحات كبرى وعن وزارة تعنى بهذه الإصلاحات، وتتحدث عن الضغط على النفقات في إطار سياسة التقشف والترفيع في الضرائب والحال أن كورونا أتت على الأخضر واليابس في اقتصاد دخل مرحلة التآكل الذاتي وفقد كل مقومات المناعة التي تسمح له بالتفكير في التعافي.

كما نستغرب، وبعد نشر هذه المعطيات، من بنك مركزي لا يزال يصر على تنفيذ املاءات صندوق النقد الدولي بخصوص السياسة النقدية المتشددة في مرحلة انكماش اقتصادي بامتياز ترجم الى تدمير مواطن الشغل وافلاس واغلاق المؤسسات الاقتصادية وتدمير المقدرة الشرائية للمواطن وتعطل الاستثمار وتوقف التصدير، لنتساءل عن جدوى سياسة نقدية ترمي الى احتواء التضخم عبر الترفيع في نسبة الفائدة المديرية للضغط على استهلاك أصبح عاجزا عن توفير حاجيات أساسية، واستثمار غادر عقول فئة اندثرت، وتصدير دمرت كل منظومات انتاجه.

لقد كان يسيرا على فيروس كورونا تدمير خمس ناتجنا المحلي الإجمالي (21.6 في المائة سلبي) باعتبار ضعف مناعة اقتصادنا الوطني، وفي غياب القطع مع التعاطي التقليدي.

ان ومواصلة الحديث عن حزمة إجراءات كتلك التي أعلن عنها وزير المالية في حكومة تصريف أعمال مؤخرا لإنقاذ الاقتصاد يبقى من باب تعميق الهوة بين الواقع والسياسي بما ينبئ بانفلات الوضع ويهدد فعلا أمننا القومي.

ان المشاورات الجارية لتشكيل حكومة جديدة تكشف عن هوة عميقة بين الواقع الذي رسمته احصائيات المعهد الوطني للإحصاء والتجاذبات السياسية التي تحرك هذه المشاورات البعيدة عن الادراك المسؤول بحجم الكارثة وعمق الازمة التي تهدد كيان الدولة الوطنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *