فشل ” الموجة الرابعة” وزيْف ربيع الخراب .. د. إبراهيم جدلة


في سنة 1991، أصدر صامويل هانتينقتن كتابه ” الموجة الثالثة ” ( Samuel P. Huntington, The Third Wave, Democratization in the late Twentieth Century, University of Oklahoma Press )
وكما يعرف الجميع هانتينقتون هو صاحب كتاب ” صراع الحضارات ” المثير للجدل، لكن في هذا الكتاب ( الموجة الثالثة ) تحدّث في البداية عن مفهوم الديموقراطيّة وتطوّره، وكيف استعملته مختلف المدارس الفكريّة والسياسيّة، ثمّ استعرض موجات دمقرطة العالم والتي قسمها إلى ثلاث موجات: الأولى : الأولى من 1828 إلى 1926، والثانية من 1943 إلى 1962، والثالثة من 1975 إلى 1990،والموجة الثالثة ، انطلقت مع ثورة القرنفل في البرتغال وامتدت إلى سقوط جدار برلين ودمقرطة جزء من أوروبا الشرقيّة. اعتبر البعض ان هانتنقتون هو ماكيافال ديموقراطي، وأنه يقترح في كتابه هذا للفاعلين السياسيين، استراتيجيات لقلب الأنظمة التسلّطيّة ولدعم الأنظمة الديموقراطيّة….
جاء الربيع العربي عشرون سنة بعد صدور كتاب هانتنقتون، لذلك بشّر البعض ب ” موجة رابعة”، ستشمل، حسب تكهناتهم، أساسا منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أي العالم العربي. واليوم وبعد عشر سنوات من انطلاق ما سمّي بالربيع العربي، يحق لنا أن نقيّم هذا الحراك وأن نتحدّث عن نجاحاته أو فشله، وأن نحكم على وجود هذه الموجة الرابعة بالنجاح أو الفشل، و لو أنّ البعض يرى أنّها لم تفشل فقط بل إنّها لم تر النور قطّ.
لكي نجيب على هذه الأسئلة يتعيّن علينا البحث في خصوصيّات المنطقة العربيّة. والخوض في مسألة ” الديموقراطيّة ” في المجال العربي-الإسلامي. قبل كل شيء لابدّ من الملاحظة انّ ما يفرّق بين هذه الدول أكثر ممّا يجمّعها: اختلاف التضاريس ( من مناطق صحراويّة وأخرى حضارات نهريّة، وكذلك مناطق جبليّة…) والمناخ ، والثروات ( دول بترولية غنيّة وأخرى فقيرة ) والتاريخ ( دول بدأت تتحسّس الحداثة، وأخرى مازالت تحت حكم العشيرة، مشاريع دول ) والمجتمع ( الدول النفطيّة هي متمثلة في الدولة / الطبقة في حين أن الدول الأخرى عرفت الاستقطاب الطبقي )…في نهاية الأمر هناك مناطق أصبحت فيها الديناميكيات الاجتماعيّة متطوّرة وأخرى مازالت محافظة على توازناتها التقليديّة وفكرها التقليدي ونخبها التقليديّة. لذلك انطلقت شرارة الاحتجاجات في البلدان التي عرفت ديناميكية اجتماعية متطوّرة وراكمت فكرا إصلاحيّا عميقا، وعرفت أجيلا من النخب الفكرية والثقافية والسياسيّة النبّرة. وهنا نعني أساسا: تونس ومصر…فقط، لأنّ ما وقع في ليبيا وسوريا واليمن، يخضع إلى منطق آخر وكان العنصر الأول في ما وقع فيها من حراك كان العامل الخارجي محدّدا في مجراه. ففي هذه البلدان تدخّلت فيه قوى أجنبيّة وصهيونيّة ( دور برنار-هنري ليفي في ليبيا، ثم تدخل الناتو عسكريّا لاغتيال معمر القذافي ) لمحاولة تغيير الأنظمة الموجودة. كما تعرّضت سوريا إلى حرب عالميّة شاركت فيها عشرات الدول والجنسيات التي لا علاقة لها بالربيع او بالنور، هدفها الوحيد تركيع الشعب السوري للعصابات الإرهابية وللوهابية التكفيريّة ولبني صهيون.
كانت تونس الحلقة الأضعف، وحاول الغرب تسويق انتفاضة شبابها كمثال يُحتذى به، لكن يبدو أن الربيع العبري لم يتجاوز حدود تونس. فقد فشل في مصر وفي سوريا، نظرا لوجود الدولة القويّة والجيش الوطني. واندحر في اليمن بسبب طبيعة المجتمع والاختلافات المذهبيّة، ومازال يتخبّط في ليبيا تحت رعاية عثمانيّة-إخوانيّة.
نعم اندحر ما يُعرف بالربيع العربي / العبري، وتلاشت أحلام المنادين ب ” الموجة الرابعة ” على خطى وهدْي صامويل هانتنقتون، تبخّرت هذه الموجة ولم تترك أزهارا وربيعا بل خلّفت الدمار في سوريا واليمن وليبيا، وحطّمت مكتسبات الدولة الوطنيّة في تونس، أمّا مصر فقد تمّ إنقاذها من طرف المؤسسة العسكرية الوطنيّة.
كانت منظمة ” فريدم هاوس ” ( دار الحرّية ) كعبة لكل المرتزقة بمختلف ألوانهم وتلوّناتهم، ينهلون لعدّة سنوات ممّا يجود عليهم اليمين المتطرف الصهيو-أمريكي ( صامويل هاتنقتن وفوكوياما وغيرهما ) من أحلام زائفة تباع بأبخس الأثمان والقصد منها تخريب الأوطان. ..واليوم وبعد عشر سنوات من هذا الحلم الزائف الذي ظل سجين قرطاج، علينا ان نعيد تقييم ما عشناه من كذب ونفاق وتذمير للذات، وان نعيد البوصلة إلى مكانها الطبيعي: الوطن فوق الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *