شهادة معبرة من الصحفية ريم بوقرة عن تجربتها الناجحة ووالدتها مع كوفيد في مستشفيات عمومية…

28 أكتوبر 2020 بدأت أنفاسي تتقلص و اشتد السعال حتى بت انتفض.حينها قرر الأطباء ارسالي الى مستشفى الطوارئ بالمنزه.


كل ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظات الحالكة هو صحة أمي،هل تتنفس بسهولة ، هل تم انقاذها، كيف تتم العناية بها بدوني…. هلوسات حمى سقطت في بحر من القلق و الخوف على ما تبقى لي في هذا العالم.
في خظم هذا التوتر حان الوقت للذهاب الى المنزه.استجمعت اخر ما تبقى من الجهد و جلست للمرة الاولى في حياتي على كرسي متحرك لأنني لم أعد قادرة على المشي خطوتين.
وضعوني على سرير داخل سيارة الاسعاف و سمعتهم يسارعون بجلب قارورة الاكسجين حتى لا اختنق.
بعد بضع دقائق انطلقت سيارة الاسعاف و صوت الطوارئ فيها يصم الآذان.
أحقا هذه السيارة تنقلني أنا؟
هل أنا المريضة التي يسارعون لانقاذها؟
هل ……
كل أسئلة الحياة تداخلو في ذهني و انهمكت أفكر في كل ما مر بحياتي،فجأة توقفت السيارة و فتح الباب.
وصلنا الى مستشفى الطوارئ بالمنزه.
نزلت من السيارة و نظرت الى باب كبير ظننته سيبتلعني لشدة قتامة الالوان التي لمحتها.
كان في استقبالي امرأة و رجل من الفريق المشرف على المستشفى ،لم المح منهما سوى عيون ضاحكة و كلمات مشجعة ترحب بضحية جديدة للفيروس التاجي.
لحظات وتم ايصالي الى سريري الجديد اين اعادوا حقني بالمضادات و تزويدي بجرعة كبيرة من الاكسجين.
سألت عن أمي و قيل لي انها بخير و أمرت بالبقاء في سريري حتى لا أبتعد عن الاكسجين.
يومان مرا على اقامتي المستشفى بدأت بعدهما في استرجاع انفاسي تدريجيا و بدأت بوادر الاستجابة للعلاج تظهر على جسدي المنهك.
بات بإمكاني التنقل للأطمئنان على امي.
وصلت الى سرير شروفتي، وجدتها في حالة ضياع تام، تعرفت علي بصعوبة، لا تستطيع النوم و رافضة لكل نصيحة او محاولة لوضعها في سريرها.كانت في حالة صدمة و ذهول.
كيف لها ان تستوعب وجودها في مستشفى مختص في علاج فيروس قاتل،كيف لها ان تتقبل فكرة انها ستنجو و قد شاهدت امرأة توفاها الله أمام أعينها.
أمي “الدلولة” التي لا تعرف من الدنيا سوى منزلها و ابنائها و نادرا ما تخرج من داىرة جيرانها و اهلها تجد نفسها محاطة بالألم و الموت و الأنين و أصوات آلات الانعاش و صوت سيارات الاسعاف و الادوية و الاكسجين ..
لم تتقبل شروفة كل ذلك الضجيج و ازدحم عقلها وبات عاجزا عن التمييز.
ساءت حالتها و استسلمت لشبه غيبوبة احتار معها الاطباء.
هنا لا بد من الحديث عن الفريق الطبي العامل في مستشفى الطوارئ بالمنزه تحت اشراف الدكتور مستيري.
فريق شاب تتراوح أعمارهم بين 23 سنة و 40سنة.تراهم يتنقلون دون كلل او ملل بين المرضى و الابتسامة لا تغادر عيونهم.لا تسمع منهم سوى كلمات التشجيع و المواساة و التطمين.
15 يوما بينهم لم ارى منهم سوى الاهتمام بكل المرضى و الحرص الشديد على رفع معنوياتهم،
بت اعرفهم من اصواتهم و عيونهم ، ليث،اسلام ، كريمة،هدى،عزيز،منى،…….الفتهم و احببتهم حب اخوة احتضنوا ضعف جسدي امام الكورونا.
رغم انهم فريق متعاقد لمدة ثلاثة اشهر فقط و رغم انهم لا يعرفون مصيرهم و رغم الخطر الذي يعملون فيه ،قبلوا المهمة و لم يتوانوا لحظة في القيام بها.
انا شاهدة على تفانيهم في خدمة المرضى و حرصهم على نظافتهم و تزويدهم بكل ما يحتاجونه،كنت شاهدة على بكائهم على كل روح تختطفها الكورونا،كنت شاهدة على العناية الفائقة بي و بأمي.
لم يدخروا جهدا لمساعدتي في العناية بأمي.سهلوا لي و لغيري كل ما من شانه ان يساعدني على انتشال أمي من موت كان قريبا لولا ألطاف الله.
لن انسى امانة الممرض الذي رافق امي الى مستشفى عبد الرحمان مامي لاجراء صورة “سكانار” و “irm”،حين سلمني أقراط امي.
بمساعدتهم استطعت الرجوع الى التنفس طبيعيا و بدات رحلت جديدة لاخراج شروفة مما هي فيه.
ايام و ليالي مرت عليا كالدهر، انتظر استفاقة شروفتي.قلق من حرارة ترتفع فجاة و اضطراب في ضغط الدم ونسبة السكر في الدم….. شكوك في امكانية حصول جلطة او اي مكروه آخر….
كل هذا و القلق و الخوف يخترقان قلبي و عقلي على أم بمثابة الابنة لا احتمل فقدانها و انا التي فقدت أبا منذ زمن قريب كان يمثل كل الدنيا.
مرت الايام و الليالي و انا حبيسة كرسي قبالة سرير امي اركض اليها كلما تحركت و احاول اطعامها و اشرابها حتى و لو عنوة.
سهرت تحت قدميها اتفقد نبضها خوفا من غدر المجهول.مزقت ملابسي و جعلتها كمادات لانزال حرارتها و فتحت فمها بالقوة لسكب الماء فيه بعد ان ايقن الاطباء انها جسدها تيبس من نفص الماء فيه…..
ايام و ليال مرت سوداء حالكة رحمني الله بعدها ببشرى زفها الي اصدقائي الاطباء و الممرضين حيث اكدوا استبعاد فرضية الجلطة و ان ما تعانيه امي صدمة شديدة و نقص كبير في السوائل اضافة الى تأثيرات الكوفيد.
تنفست الصعداء و عاد الامل من جديد و أيقنت ان الله لن يتركني وحيدة و لن يرضى بحرماني من امي.
و يوما بعد يوم بدات شروفتي بالتحسن و بات خروجنا من المستشفى رهين استقرار ضغط الدم و نسبة السكر في الدم.
اصبحنا نستنشق الاكسجين طبيعيا و تجاوزنا الخطر.
لكن سعادتي باستفاقة امي كانت منقوصة او بمعنى ادق مريرة،
كيف افرح و أنا اشاهد شابا يرحل فجأة لان قلبه خذله، كيف افرح و انا أشاهد الخالة فريحة تموت وهي التي واستني قبلها بليلة و غنت لي حتى لا ابكي، كيف ابتسم و انا اسمع انين النساء و الرجال و صوت خطوات الفريق الطبي يركض بين الاسرة لمحاولة انقاذ المرضى.
كنت أشتم رائحة الموت في كل لحظة، كانوا يتساقطون امام هذا اللعين دون رحمة.لم تميز الكورونا بين شاب و شيخ او بين شابة و عجوز.كانت تحصد دون هوادة او تمييز.
مررت بجانب الجثث وبكيت على شباب رحل و عجائز لم تجد القوة لتصمد.
تصدعت أذني من صوت انذار آلات التنفس و قيس نبضات القلب….كنت أفرح فقط عندما ارى احدهم او احداهن تغادر منتصرة او بمجرد الحديث من الفريق الطبي و فريق التنظيف في المستشفى.كانوا بمثابة البلسم لروح مرتعبة.
مر 15 يوما و جاء يوم الفرج،يوم 12 نوفمبر 2020 اعلمنا و امي اننا سنرجع الى منزلنا اخيرا و أننا سنكمل علاجنا هناك و ان الخطر أفل.
ودعت اناسا معدنهم ذهبا و خرجت من باب خلت انني لن اعتبة مرة اخرى.
و اليوم مازلت اواصل رحلة العلاج مع امي و نتمنى من الله ان يتمم شفاءنا.
اود اخيرا ان اطلب من المسؤولين في قطاع الصحة ان لا يفرطوا في الفرق الصحية و فرق النظافة المتعاقد معها في هذه المحنة.هم قبلوا العمل و خاطروا بحياتهم من اجل انقاذ الناس.يستحقون الانتداب .بل انهم يستحقون التكريم بحفظ مورد رزقهم و جعلهم يعملون دون خوف من التخلي عنهم في اية لحظة.
لا تتخلوا عن فرق جعلت المستحيل ممكنا و حسنت صورة و مستوى الخدمات الصحية في البلاد.انهم نواة جديدة و صالحة لجيل جديد مكافح في مجال الصحة.
لا تخذلوهم.
و لا انسى ان اشكر كل اعضاء اللجنة العلمية لمجابهة فيروس كورونا خصوصا الدكتور سمير عبد المؤمن و الدكتور محمد والشاهد و الدكتور مستيري و المدير الجهوي للصحة باريانة وكل الاصدقاء و الصديقات و الزملاء الصحفيين و الاعلاميين و كل من اهتم لشاني و امي.
شكرا لكم جميعا لكل كلمة كتبتموها و كل دعاء تضرعتم به الى الله لأجلنا.دمتم سندي و عزي.الله يحميكم من كل شر.و آسفة ان كنت نسيت احدا في خضم فوضى مازالت تلف عقلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *