بين التهديدات السياسية والاجتماعية والقانونية حرية الصحافة في تونس أمام منعرج صعب

تساءل كثير من التونسيين ومن المهتمين بالشأن التونسي عن مستقبل حرية الصحافة في البلاد بعد الاعتداءات والمضايقات التي طالت صحافيين في الأشهر الأخيرة، وكذلك بعد إعلان شبكة «مراسلون بلا حدود» الدولية، عن تراجع تونس في التصنيف العالمي لحرية الصحافة. فقد حافظت الخضراء على تصدرها للبلدان المغاربية في هذا المجال رغم تراجعها بـ21 نقطة لتحتل المرتبة 94 عالميا بعد أن احتلت السنة الماضية المركز 73 وكان الأمل في أن تتقدم أكثر لتقترب من البلدان المتقدمة في هذا المجال لكن ذلك لم يحصل.

لقد أمل كثير من أهل القطاع في تونس في أن يحمل اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي صدر فيه التقرير السنوي لـ«مراسلون بلا حدود» لهذا العام، أخبارا جيدة في مجال حرية الصحافة، لكنه جاء مخيبا للآمال بشكل كبير ولافت. فرغم تحرر الصحافة التونسية من القيود منذ سنة 2011 بعد أن زال حاجز الخوف نهائيا، وبات بإمكان الصحافيين الخوض في كل القضايا ومن دون محاذير وخطوط حمراء، وبات بإمكانهم أيضا انتقاد الجميع، بما في ذلك أعلى سلطة في الدولة، أي رئيس الجمهورية، بدون أن يخشوا في الحق لومة لائم، إلا أن تونس لم تتقدم كثيرا في التصنيف السنوي لحرية الصحافة خلال العشرية السابقة، وازداد الأمر سوءا خلال الأشهر الأخيرة مع هذا التراجع المخيف في التصنيف العالمي.
لذلك فإن هناك أسئلة عديدة تطرح لعل أهمها ذلك المتعلق بأسباب هذا التراجع في التصنيف الذي أصاب التونسيين بالإحباط وبخيبة أمل كبرى وهم المنفتحون على العالم الحر والتواقون منذ الأزل إلى الرقي والتطور والحداثة. وكذلك برزت خشية حقيقية من خسارة المكسب الوحيد الذي خرج به التونسيون من ثورتهم وهو حرية التعبير والذي انعكس إيجابيا على الصحافة والإعلام خلال العشرية الأخيرة التي تعددت فيها المنابر، والتي مكنت جميع الأطياف من التعبير عن آرائها وتوجهاتها بكل حرية في مناخ كفل حرية التعبير.

أسباب عديدة

إن ما هو أكيد أن هناك أسبابا عديدة اجتمعت لتجعل تونس تتراجع في مجال حرية الصحافة، من دون أن تفقد الصدارة المغاربية، لعل أهمها ما يعيشه البلد اليوم من وضع استثنائي أثر ما في ذلك من شك على وضع الحريات ومن ذلك حرية الصحافة. فالمحاكمات التي تطال الصحافيين لدى القضاء العسكري ألقت بظلالها على التصنيف الأخير على ما يبدو ناهيك عن إيقاف بث بعض القنوات أو بعض البرامج السياسية في هذه القنوات التلفزيونية على غرار قناة «نسمة» التي عادت إلى البث بدون عودة لبرامجها السياسية، وتحولت إلى قناة تعرض المسلسلات والأغاني والومضات الإشهارية المتعلقة بأدوات المطابخ، بعد أن كانت من الفاعلين في المشهد الإعلامي بمنابرها السياسية والاجتماعية والثقافية.

ومن الأسباب أيضا، الاعتداءات والمضايقات التي يتعرض إليها الصحافيون أثناء تغطية المظاهرات سواء من قبل المتظاهرين أنفسهم والمنتمين إلى تيارات سياسية بعينها، ترى أن بعض المؤسسات الإعلامية تفتقد إلى الحياد، أو من قبل رجال الأمن. وقد ذكرت هذه الاعتداءات من قبل جهات حقوقية عديدة ونددت بها مرارا وتكرارا النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، لكن لا من مجيب، سواء تعلق الأمر بكثير من السياسيين والمواطنين الذين يعادون الإعلام ويرددون باستمرار عبارة «إعلام العار» كلما رغبوا في شتم الإعلام، أو من قبل الأمن الذي يحضر ممثلون عنه في المنابر الإعلامية ويؤكدون على احترامهم لحرية الصحافة وتعهدهم بفتح التحقيقات لتتبع المعتدين، لكن لا شيء من ذلك يحصل لتتكرر الاعتداءات في كل مرة. لذلك يرى البعض أن هذه الانتهاكات يجب أن تتوقف فورا وأن يوضع لها حد حتى تستعيد تونس تقدمها في ترتيب حرية الصحافة باعتباره معيارا من معايير التحضر والمدنية، وبه وبمؤشرات أخرى مثل جودة التعليم تقاس نهضة الأمم. فبدون القيام بذلك ستواصل تونس تراجعها في ترتيب حرية الصحافة وسيصبح هذا المكسب الذي تحقق بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011 شيئا من الماضي مثلما كانت السنوات الأولى من حكم بن علي، حيث شهدت تونس ربيعا حقيقيا في ذلك الوقت سرعان ما تحول بعد سنوات معدودة إلى شتاء مليء بالعواصف الهوجاء بعد أن تراجعت السلطة في قرطاج عن وعودها، وعلى ما تم تحقيقة في مجال الحقوق والحريات، ولم تجد ما يكفي من الردع المجتمعي حتى تحيد عن مسارها الاستبدادي وتعود إلى الجادة.

مسؤولية الإعلاميين

ويرى الإعلامي والأكاديمي التونسي، رئيس مؤسسة «ابن رشد للدراسات الإستراتيجية» كمال بن يونس، في حديثه لـ«القدس العربي» أن الإعلاميين يتحملون بدورهم جزءا من المسؤولية في هذا التراجع الذي تشهده تونس في مجال حرية الصحافة، وهي التي كانت تسير باتجاه الاقتراب التدريجي من الدول المتقدمة في هذا المجال. فالخلط بين المهنية والنضال عند كثير من الإعلاميين، هو برأي محدثنا، أكبر تهديد يواجه ليس فقط الإعلام التونسي بل حتى الإعلام العربي الذي ما زال يحتل مراتب متأخرة جدا في مجال حرية الصحافة رغم الامكانيات الهائلة المتاحة للكثير منه.
ويضيف الإعلامي التونسي قائلا: «بعض الإعلاميين يحصل لديهم الخلط بين المهنية والتوظيف، أي بين احترام قواعد المهنة الصحافية والانخراط في أجندات سياسية أو حزبية أو نضالية تجعلهم يضيعون البوصلة ويبتعدون عن المهنية وهو ما يؤثر سلبا على التصنيف في مجال حرية الصحافة، التي لا يكفي فيها أن تكون حرا تقول ما تشاء وتنتقد من تشاء، بل لا بد من احترام قواعد المهنة أيضا وعدم الإنخراط في الأجندات. ويؤدي عدم احترام قواعد المهنة الصحافية إلى النيل من مصداقية الأخبار التي يتم تقديمها والتعليقات الصادرة ووجهات النظر المقدمة والتي تروج عبر وسائل الإعلام بمختلف مكوناتها مثلما هو حاصل اليوم في تونس وفي بلدان أخرى».
لقد «تورط قطاع كبير من الإعلاميين في تونس منذ منعرج كانون الثاني/يناير 2011 في توظيف وسائل الإعلام خدمة لأجندات السياسيين ولوبيات المال السياسي، وما زال الأمر متواصلا إلى اليوم في هذه المرحلة الاستثنائية التي تعيشها البلاد ويخشى معها على استهداف الحريات ومن ذلك حرية الصحافة. فوقع التفويت خلال العشرية الماضية وبعد 25 تموز/يوليو 2021 في فرصة تحرير الإعلام التونسي وتحسين هامش الحريات العامة في البلاد لتصل تونس إلى تحقيق مراتب متقدمة ضمن الأمم الأكثر تطورا في هذا المجال».
وأكد بن يونس أن الحريات التي عرفتها تونس في العشرية الأخيرة لم تؤد غالبا إلى تحسين المستوى المهني للمادة الإعلامية المقدمة سواء من ناحية الشكل أو المضمون بل إلى ترويج الأخبار الزائفة والإشاعات المغرضة خدمة لبعض اللوبيات المحلية والدولية. وإذ تراجع اليوم هامش الحريات الصحافية في تونس، حسب محدثنا، فإن «المخاطر تتضاعف أكثر، خاصة فيما يخص احترام النزاهة المهنية وقاعدة الخبر مقدس والتعليق حر التي تعتبر جوهر العمل الصحافي وهناك خشية حقيقية من فقدانها».
فالحفاظ على مكتسبات حرية الصحافة يبدو برأي محدثنا بيد أهل القطاع أنفسهم الذين بإمكانهم صيانة ما تحقق والدفع باتجاه حصول إصلاحات تجعل تونس تتقدم أكثر في مجال حرية الصحافة ولا تكتفي بالمرتبة الأولى مغاربيا والتي دأبت عليها منذ سنوات. فالتراجع إلى الوراء، حتى في ظل هذا المناخ الاستثنائي، وفي ظل الحوادث المتكررة الهادفة إلى تكميم الأفواه، يبدو مستحيل التحقق بعد أن تحرر الصحافيون التونسيون من قدماء المهنة من حاجز الخوف، ونشأ جيل جديد من الصحافيين في بيئة حرة ومستقلة، تربى على نمط معين بعيدا عن مقص الرقيب ومقصلة السلطة التنفيذية، لن يقبل بأي حال من الأحوال أن يقع تدجينه خدمة لأي حاكم كان مهما علا شأنه.

مجتمع مدني محصن

يرى رجل القانون والحقوقي التونسي صبري الثابتي في حديثه لـ«القدس العربي» أن الصحافيين في تونس لم يعد يرضيهم أن تحتل البلاد المرتبة الأولى في المنطقة المغاربية في مجال حرية التعبير والصحافة، بل بات أملهم، بحسب محدثنا، مقارعة الكبار في هذا المجال والنهوض بقطاع الإعلام الحيوي والهام في عملية البناء الديمقراطي السليم. وبالتالي فإن ما يحصل اليوم في تونس من تغييب للمنابر التلفزيونية السياسية في عديد القنوات ومن محاكمات لبعض الصحافيين من قبل القضاء العسكري، ومن اعتداءات على الإعلاميين من قبل الأمن والمتظاهرين على حد سواء، أثناء المظاهرات، لا يمكن، بحسب الثابتي أن يقبله التونسيون وسيلفظه المجتمع تلقائيا سواء بمنظماته أو بأفراده المتنورين الذين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقبلوا بالتراجع إلى ما قبل 14 كانون الثاني/يناير 2011.
ويضيف الثابتي قائلا: «لقد ورد في تقرير شبكة مراسلون بلا حدود الدولية بأن ترهيب الصحافيين أصبح أمرا شائعا في الساحة التونسية باعتبار تعرض فاعلين إعلاميين لأعمال العنف على أيدي متظاهرين، وبأنه تم تسجيل حصيلة قياسية جديدة للاعتداء على الصحافيين طالت مراسلا لعديد القنوات الأجنبية بالإضافة لعشرات الصحافيين وذلك على أيدي أمنيين أثناء تغطيتهم لمظاهرات احتجاجية. وإنكار ما ورد بهذا التقرير من قبل البعض هو عملية هروب إلى الأمام، وتشجيع للمعتدين على مواصلة سلوكهم المشين والتمادي في استهداف الحريات، لأن هذه الانتهاكات حصلت بالفعل في تونس ووجب التشهير بها لردع المخالفين وللحفاظ على مكسب حرية الصحافة والإعلام الذي ناضلت من أجله القوى الحية في تونس لعقود».
إن ما ورد من مخاوف في تقرير شبكة مراسلون بلا حدود الدولية بشأن تراجع حرية الصحافة في تونس وجب التفاعل معه بإيجابية، وأخذه على محمل الجد، وعدم التعامل معه بعدائية، والعمل من أجل عدم حصول ما يخشاه هذا التقرير، وذلك بتظافر جهود الجميع. لأننا لا نريد باختصار في تونس أن نكون مثل غيرنا، من تلك الدول التي اعتاد إعلامها التطبيل لحكامه وإبراز المحاسن دون سواها والتغطية على المساوئ وذلك لتلميع صورة الحاكم وإنجازاته.
وأضاف الثابتي «باختصار، توجد انتهاكات كثيرة لحرية الصحافة في تونس، حصلت في الأشهر الثمانية الأخيرة، على غرار ما كان سائدا خلال العشرية السابقة، لكن المجتمع المدني، وعقلية التونسي عموما، ستحولان دون العودة إلى الديكتاتورية ودون القبول بمحاولات القضاء على حرية الصحافة إن وجدت. ولعل هذا ما تؤكده التحركات الاحتجاجية التي تحصل في كل مرة يتم فيها المساس بحرية الصحافة، حتى أن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أكدت مرارا وتكرارا أنها لن تقبل بدستور تونسي جديد يتم فيه التراجع عن الحقوق والحريات التي نص عليها دستور سنة 2014. والرابطة التي خاضت سابقا نضالات ضد نظام بن علي، ولم تخش يوما صاحب السلطة، هي قوة ضغط يسعى حكام اليوم لكسب ودها في مسارهم للخروج من الوضع الاستثنائي الذي تمر به تونس».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *