“انتصرت الجزائر على” العهدة الخامسة”

عزيزة بن عمر

رضخ الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة إلى ضغط الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة في تاريخ الجزائر المستقلة، ليعلن اليوم في خطاب مكتوب للجزائريين، عدم ترشحه لعهدة خامسة و تأجيل الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في 18 أفريل.

و عاشت الجزائر منذ 22 فيفري مسيرات شعبية تندد بترشح بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، ما دفع بالرئيس إلى الرضوخ لمطالب الشعب، مباشرة بعد عودته من المستشفى في سويسرا أمس الأحد.

ما الذي تغيّر اليوم حتى ينتفض الجزائريون بالآلاف من أجل التغيير؟

منذ أن اندلعت ثورات ما يعرف بـ”الربيع العربي”، تعفّف الجزائريون عن النهل من تلك الانتفاضات و النماذج، نظرا لإرثهم المثقل بالمعاناة و الدم في التسعينات. فما الذي تغيّر اليوم حتى ينتفض الجزائريون بالآلاف من أجل التغيير؟

لم تكن استجابة الجزائريين في العام 2011، عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه قادحا لشرارة ما بات يعرف بـ”الربيع العربي”، بذات الحماسة التي بدا عليها المصريون و الليبيون و اليمنيون، و بدرجة أقل المغاربة مع حركة 20 فبراير الشبابية.

فزاعة “العشرية”

و مردّ تلك الاستجابة الفاترة حسب محللين، هو شبح “العشرية السوداء” و الصدام الدامي بين الاسلاميين و الجيش الجزائري عقب انتخابات لم ترق نتيجتها للجيش النافذ.

و على مدار سنين طويلة، يتخذ الخطاب الرسمي الجزائري من “العشرية السوداء” ما بات يشبه الفزاعة لمنع اي احتجاج طلابي أو سياسي أو نقابي أو عمّالي، و عادة ما توصم التحركات المطلبية بأنها “دعوة للفوضى” و”حنين للعشرية السوداء”.

و في الحقيقة، كان المزاج العام في الجزائر متقبلا لفكرة “الاصلاح رويدا رويدا”، عوضا عن “ثورة طفروية” تطيح بالنظام و تفسح المجال أمام الفوضى و تعيد سنوات الرصاص و الدم إلى البلد الغني بالطاقة.

و يوم الجمعة، خرج الآلاف إلى شوارع العاصمة و مدن أخرى لدعوة بوتفليقة البالغ من العمر 81 عاما لعدم خوض الانتخابات الرئاسية المقررة في 18 أفريل المقبل، و لا يبدو من الشعارات التي رُفعت يومها أنّ الشباب الجزائري مازال معنيا بـ”الهدوء” و الاصلاح على طريقة “الري قطرة قطرة” والذي لم يؤتِ أكله طوال سنين ولم يغيّر أوضاع الجزائر الاقتصادية والسياسية نحو الفضل، إذ بدت كدولة تغرد خارج سرب المُتغيرات التي تجتاح العالم والمنطقة العربية على وجه التحديد.

ولم يشاهد بوتفليقة، الذي يشغل منصب الرئيس منذ عام 1999، علانية إلا مرات قليلة منذ أن أصيب بجلطة دماغية عام 2013، .

تحدّي الخطاب الرسمي

هتف المحتجون خلال المظاهرة “الشعب لا يريد بوتفليقة”، و منذ أن اختار حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم بوتفليقة مرشحا له، أعلنت عدة أحزاب سياسية ونقابات عمالية ومنظمات أعمال أنها ستدعمه ومن المتوقع أن يفوز بسهولة إذ أن المعارضة ضعيفة ومنقسمة.

والإضرابات والاحتجاجات على المظالم الاجتماعية والاقتصادية متكررة في الجزائر لكنها عادة ما تكون محدودة ولا تتناول الشأن السياسي، فالجميع يستذكر سنوات دامية عاشتها الجزائر في التسعينات بسبب المطالبة بالديمقراطية والحريات واحترام الصندوق.

وأكثر من ربع الجزائريين دون سن الثلاثين عاطلون عن العمل وفقا للأرقام الرسمية. ويشعر كثيرون بأن النخبة الحاكمة المكونة من مقاتلين مخضرمين من حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1962) مع فرنسا، منفصلة عنهم بشكل تام، ولا تستجيب لمطالبهم.

سنوات الدمّ

تفجرت أحداث دامية في جانفي من عام 1992 عقب إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 1991 والتي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ (الفيس) فوزا واضحا، مما حدا بالجيش الجزائري التدخل لإلغاء الانتخابات البرلمانية في البلاد مخافة من فوز الإسلاميين فيها، وهو ما اعتبره كثيرون “اجهاضا” للمسار الديمقراطي في البلاد.

وقام صراع مسلح دامٍ بين النظام الجزائري وفصائل متعددة تتبنى أفكارا موالية لـ”الجبهة الإسلامية للإنقاذ” والإسلام السياسي الذي ذاع صيته يومئذ.

بدأت المواجهة فعليا عندما استطاعت الجبهة الإسلامية للإنقاذ هزيمة الحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني) في الانتخابات البرلمانية الوطنية. ألغيت الانتخابات بعد الجولة الأولى وتدخل الجيش للسيطرة على البلاد، وتم حظر الجبهة الإسلامية للإنقاذ واعتقل الآلاف من أعضائها، وشنت الجماعات الإسلامية حملة مسلحة ضد الحكومة ومؤيديها، وقامت بإنشاء جماعات مسلحة اتخذت من الجبال قاعدة لها، وأعلنت الحرب على الجبهة الإسلامية للإنقاذ في عام 1994.

بعد انهيار المحادثات أجريت الانتخابات و فاز بها مرشح الجيش الجنرال الأمين زروال. بدأت الجماعة الإسلامية المسلحة بسلسلة من مذابح تستهدف الأحياء و قرى بأكملها بلغ العنف ذروته في عام 1997، وتسببت المجازر وارتفاع عدد الضحايا في إجبار كلا الجانبين إلى وقف إطلاق النار، وفي هذه الأثناء فاز الطرف المؤيد للجيش بالانتخابات البرلمانية في ذات العام.

في عام 1999 تم انتخاب بوتفليقة، وبدأ عدد كبير من المقاتلين الإنسحاب والاستفادة من قانون العفو الجديد، وبدأت الجماعات تنحل وتختفي جزئيا بحلول عام 2002 وتوقفت عمليات القتال، باستثناء مجموعة منشقة تسمى الجماعة السلفية للدعوة والقتال والتي انضمت لاحقاً إلى تنظيم القاعدة في أكتوبر 2003.

الجزائر تتغيّر

يحاول إسلاميو الجزائر منذ سنوات تسويق خطاب معتدل لاستقطاب الناخبين و طمأنة الجزائريين بعد الأحداث الدامية في تسعينات القرن الماضي وإظهار قدرة على الاندماج ضمن النسيج الوطني بعيدا عن التخندق الأيديولوجي الذي كلف الجزائر غاليا بعد مشاركة جبهة الإنقاذ الوطني الإسلامية (الفيس) وما تلا تلك المشاركة من حمام دم مرعب.

وشاركت حركة مجتمع السلم التي تأسست في 1990 والتي تمثل الفرع الجزائري لجماعة الإخوان المسلمين في كل الاستحقاقات الانتخابية منذ 2004 حتى العام 2012، في الوقت الذي واجهت فيه انشقاقات أضعفت حضورها في المشهد الجزائري وكان آخرها في 2008 حين انبثقت عنها حركتا البناء الوطني وجبهة التغيير.

وثمة خلافات بين الأحزاب الإسلامية في الجزائر حالت دون تكتلهم في جبهة واحدة في مواجهة مرشح السلطة في كل استحقاق انتخابي، على الرغم من توقيع عدد منها وثيقة اندماج، أما الجماعات التكفيرية المسلحة، فقد تقلص نفوذها للغاية بعد ضربات مؤلمة من الجيش، و لو أنها مازلت قادرة على تنفيذ بعض الضربات بين الفينة و الأخرى.

جيل جديد مختلف

و مع توالي الدعوات للتصدي لـ”العهدة الخامسة”، يعتمد الخطاب الموالي في الجزائر كثيرا على شبح العشرية السوداء لاقناع المنتفضين ضدّ بوتفليقة بأن البلاد ليست في مأمن عن سيناريو مشابه لما جرى في التسعينات.

لكنّ المتابعين يرون أنّ الجزائريين بمسيراتهم السلمية و المنظمة والراقبة، الرافضة للعهدة الخامسة، قدمت دروسًا لكل السياسيين المتخوفين من “حمام دم جديد”، فوعي شباب الجزائر اليوم يختلف كثيرا عن وعي التسعينات، فالبلاد أمام جيل مختلف ومتعلم ومتعطش للحرية، ويضع نصب عينيه ما جرى في دول مجاورة من عثرات وربما استفاد من أخطاء جيرانه، في حين أن دور ووزن الاسلاميين في التحركات الحالية لا يبدو معلوما بعد، خاصة وأن مواقف الاسلاميين ليست موحدة تجاه النظام الجزائري الذي يريد تغيير قشرته بشكل سلسل و بلا صخب.

يذكر أن بوتفليقة وصل إلى الحكم في أعقاب الحرب الأهلية الفظيعة التي أعقبت إلغاء الجيش الانتخابات العامة عام 1990 خوفا من فوز الإسلاميين، و هي الحرب التي مات فيها حوالي 200.000 شخص. و نجح الرئيس بجلب السلام و الاستقرار و تحسين الأوضاع بسبب استقرار أسعار النفط. وهو نفس السبب الذي جعل الجزائر محصنة في عام 2011 من انتفاضات الربيع العربي. وعندما انهارت أسعار النفط وتراجعت الاحتياطات من العملة الصعبة لم تعد الحكومة قادرة على استرضاء الرأي العام بزيادة الرواتب وتوفير الخدمات وزادت البطالة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *