الصراع الروسي – الأطلسي في أوكرانيا : الانعكاسات الأمنية والسياسية والاقتصادية قد تكون كارثية في المنطقة .. بقلم كمال بن يونس

تطور الصراع في أوكرانيا وأروبا بين روسيا وحلفائها من جهة وعدد من دول الحلف الأطلسي من جهة ثانية بنسق سريع ، ووقع تدويله بما تسبب في متغيرات إقليمية عالمية وتعقيدات ذات صبغة استراتيجية تنذر بتعفن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الدول النامية غير النفطية بينها تونس.

وأصبحت كل السيناريوهات واردة إقليميا ودوليا وسط تحذيرات من ” حرب عالمية ثالثة ” .

كما زادت التخوفات من المضاعفات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية الخطيرة ومن المتغيرات الجيو استراتيجية المعقدة ، بسبب هذه الحرب التي دخلت فيها موسكو وواشنطن وحلفاؤهما في مواجهة شاملة مباشرة هي الأخطر منذ انهيار جدار برلين ثم الاتحاد السوفياتي قبل أكثر من 30 عاما.

فما هي الأبعاد الاستراتيجية والتاريخية الثقافية السياسية العميقة للأزمة الدولية التي تسبب فيها تفجير حرب أوكرانيا ؟

وماهي سيناريوهات ما بعد الحرب بالنسبة لبلدان مثل تونس والدول العربية والإسلامية والافريقية ؟

وكيف يمكن احتواء المضاعفات السلبية الحرب والأزمات التي تتسبب فيها ؟

I. أبعاد تاريخية واستراتيجية للصراع بين الدول العظمى في أوكرانيا وشرق أوربا :

يحق للباحثين في متغيرات السياسة الدولية وفي الدراسات الاستراتيجية أن يتساءلوا اليوم مع صناع القرار السياسي الوطني والدولي إن كانت مراكز الدراسات الاستراتيجية المحلية والإقليمية والعالمية توقعت السيناريو الحالي المعقد للحرب في أوكرانيا والتطورات التي سجلت بعده وبينها التعبئة العسكرية الدولية غير المسبوقة شرقي أوربا في ظرف أعلنت فيه واشنطن وعشرات الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي والإتحاد الأوربي حربا اقتصادية مالية شاملة على روسيا وحلفائها .

وإذا كان الأكاديميون والخبراء في المتغيرات الاقليمية والجيو الاستراتيجية نشروا دراسات لم تستبعد سيناريو الأزمة الحالية فهل أخذ صناع القرار بعين الاعتبار ما ورد في تلك الدراسات ؟

أم اتخذوا قرارات التصعيد العسكري والسياسي والحظر الاقتصادي بناء على أجندات خاصة ببعض الدول واللوبيات دون مراعاة تحذيرات الخبراء ؟

في كل الحالات لابد من التوقف عند رمزية الصراع الحالي بين روسيا والحلف الأطلسي في أوكرانيا ومحيطهما الإقليمي :

1. أبعاد تاريخية رمزية للصراع :

الصراع الحالي يعيد بالنسبة لروسيا و أوربا والولايات المتحدة والدول العظمى الأسباب المباشرة لتفجير الحربين العالميتين الأولى والثانية ، وبينها الصراع للسيطرة على بلدان شرق أوربا ضمن محورين تزعمت إحداهما ألمانيا والثاني بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة .

ويعيد الصراع الحالي لذاكرة الشعوب والسلطات في أوربا مرحلة تحالف ألمانيا النازية واليابان مع الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين واحتلالهما لبولونيا ودول مجاورة لها .

وقد احتلت قوات ستالين شرق بولونيا ومناطق أخرى اعتمادا على قوات أوكرانيا وبلاروسيا وروسيا .

ثم تصدع التحالف بين ستالين وهتلر وتدخلت قوات الولايات المتحدة لتحسم الحرب لصالح فرنسا وبريطانيا وحلفائهما .

2. “الثأر” من نتائج الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي :

في نفس الوقت كشفت الحرب الحالية في أوكرانيا وجود إرادة لدى موسكو وحلفائها لإعادة تغيير خارطة المنطقة ” للثأر” من نتائج الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي و” تغول ” الحلف الأطلسي مقابل انهيار ” حلف وارسو “.

اعتبرت القيادة الروسية أن الوقت حان لتوقف ” زحف قوات الحلف الأطلسي شرقا ” بعد أن أصبحت بولونيا ودول كانت في ” المعسكر الشرقي” مقرا لمؤسسات وقواعد عسكرية أمريكية تضم تمركزت بها أسلحة أمريكية متطورة جدا بينها صواريخ بعيدة المدى وأسلحة غير تقليدية بينها رؤوس نووية ومضادات للأسلحة ” غير التقليدية “.

2. حرب تفجر خلافات ثقافية حضارية وسياسية قديمة جديدة :

ولهذه الحرب بين للرأي العام وصناع القرار في أوربا وروسيا والعالم أبعاد ثقافية حضارية وسياسية عميقة من بينها بالخصوص : الصراع بين ثقافات الغرب الليبيرالي والثقافات الشرقية الآسيوية الروسية والصينية ، وهو محور من محاور الصراع الذي يتوقف عنده ” المحافظون الجدد” و” أقصى اليمين” في أوربا وأمريكا منذ صمويل هنتغتون ورفاقه منذ كتاباتهم عن صراع الحضارات والخطر الصيني القادم وضرورة ” تحييد ” روسيا ودول أخرى لكسب المعركة مع العملاق الصيني – الآسيوي الصاعد ..

واستحضرت في هذا السياق أبعاد للصراعات الثقافية والدينية والأيديولوجية السابقة بين روسيا وشرق اوربا من جهة وغربها من جهة ثانية ، من بينها الحروب الدينية والصراعات بين الاورتودوكس والكاثوليك والبروتستان من جهة وبين الشيوعيين والرأسماليين من جهة ثانية ..

كما يعيد هذا الصراع الى الواجهة صراعات ثقافية سياسية دينية عرقية فجرت في عقد التسعينات في يوغسلافيا السابقة و كوسوفو و أرمينيا و اذريبجان وداخل الاتحاد الروسي..الخ

3. تضخم ملفات الهجرة مجددا :

في نفس الوقت تسبب هذا الصراع في أوكرانيا تسبب في تعميق أزمات أوربا بسبب أخطر ملف أمني سياسي استراتيجي في أوربا : الهجرات الجماعية وتغيير التوازنات الديمغرافية والعرقية والثقافية والدينية .

ولا يخفي قادة أوربا والحلف الأطلسي أن ” أكبر خطر” يهدد بلدانهم بعد تفجير حرب أوكرانيا “تسلل” ملايين المهاجرين إلى بلدان الاتحاد الأوربي ، فضلا عن ملايين الفارين من بؤر التوتر في روسيا و بلدان شرق أوريا ممن وقع قبولهم ” مؤقتا ” بقرار أوربي رسمي .

II. الانعكاسات المرتقبة للحرب في أوكرانيا :

تؤكد أكثر المؤشرات أن الصراع بين موسكو والحلف الأطلسي ، منذ غزو قوات روسيا لأوكرانيا في فيفري الماضي ، سوف يؤثر في العالم أجمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا كما سيعجل مسار إعادة رسم الخارطة الدولية والنظام الدولي .

وقد تتعقد الأوضاع وتخرج جزئيا عن السيطرة في صورة تصعيد النزاع في بعديه العسكري والاقتصادي و تمديد مرحلة الحرب .

وفي كل الحالات سوف تتسب الحرب الحالية في المتغيرات الجيو استراتيجية الدولية من بينها :

1. إعادة تشكيل النظام الدولي ، وتغيير معطيات ميدانية وسياسية أفرزتها حروب ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، بينها حروب أفغانستان و الخليج (1980-1988 و1991 و 2003) وحروب ما بعد “ثورات الربيع العربي” 2011 خاصة في ليبيا وسوريا واليمن ..

ويرجح أن تتسبب هذه الحرب في تفعيل الدور السياسي والعسكري والاقتصادي الدولي لبلدان مثل الصين وألمانيا واليابان والبلدان الصاعدة مثل دول الهند والبرازيل” وتركيا وايران وإسرائيل وبلدان شرق اسيا..

كما ستتسبب الحرب الحالية في مزيد تهميش منطقة البحر الأبيض المتوسط وقضايا ” الشرق الأوسط “، وعلى رأسها قضية فلسطين ، مقابل تزايد اهتمام واشنطن وحلفائها بالعملاق الصيني وبالقوى الصاعدة في شرق ووسط آسيا وبينها مجموعة ” شنغهاي” التي تتزعمها بيكين وموسكو وانضمت إليها طهران رسميا في سبتمبر 2021.

2. تشكل أنظمة إقليمية جديدة وإعادة النظر في موازين القوى والادوار في بعض الأقاليم بما في ذلك داخل الإتحاد الأوربي المهدد بمزيد التصدع وتصاعد التيارات الوطنية واليمينية المتطرفة .

وفي الدول النامية عموما والعالم الإسلامي والبلدان الافريقية الفقيرة خاصة ستتسبب الازمات الاقتصادية والسياسية والأمنية في انهيار أنظمة و منظومات جهوية ووطنية بروز اضطرابات وصراعات جديدة قد تؤدي الى سقوط حكومات وانهيار كثير من التحالفات وبروز محاور و تحالفات جديدة ..

3. الانتخابات الأمريكية ومستقبل موسكو:

ومهما كانت سيناريوهات ما بعد الحرب الحالية في أوكرانيا ، سوف تؤثر نتائجها على مستقبل مؤسسات الحكم في عدد من دول العالم وخاصة في واشنطن وموسكو .

وإذا كانت بعض الدراسات والتقارير أوردت أن الأجندا الانتخابية للرئيس الأمريكي بايدن وحزبه في انتخابات نوفمبر القادم كانت من بين أسباب فرضها حظرا اقتصاديا الواسع وتصعيد سياسيا ضد روسيا ، فإن نتائج الانتخابات سوف تتأثر في كل الحالات بحرب أوكرانيا ومدتها وكلفتها وحصيلتها .

في نفس الوقت فإن المستقبل السياسي للقيادة الروسية وحلفائها الدوليين والاقليميين ، بما في ذلك في بلدان مثل ايران وسوريا والجزائر، سوف يكون رهين نتائج هذه الحرب في أوكرانيا ومحيطها الإقليمي .

III. كيف يمكن لتونس والبلدان العربية والنامية احتواء مضاعفات حرب أوكرانيا ؟

رغم التعقيدات والمضاعفات السلبية الكثيرة للحرب الحالية في أوكرانيا على المدة القصير وعلى المدى المتوسط والبعيد ، يمكن للدول النامية غير النفطية ، بينها تونس وعدد من الدول العربية ، احتواء الازمة وإيقاف النزيف وتجنب سيناريوهات الانهيار والفوضى ومزيد تفكك مؤسسات الدولة والمجتمع .

في هذا السياق يمكن التوقف خاصة عند الأولويات التالية :

1. القطع مع سياسات الارتجال واعتماد استراتيجيات واضحة وسياسات قابلة للتنفيذ يشرف عليها سياسيون لديهم رؤيا ومشروع تنمية شاملة يحترمون شروط الحوكمة الرشيدة .

2. استبدال الديبلوماسية التقليدية بديبلوماسية براغماتية جديدة تحسن التفاوض مع كبار الممولين والشركاء الدوليين ماليا ، بما في ذلك عبر توظيف ” تقاطع المصالح ” الأمنية والعسكرية بين تونس ودول الجنوب مع دول الحلف الأطلسي للحصول على دعم مالي كبير مقابل ” الخدمات” و” التسهيلات ” التي تقوم بها القوات المسلحة التونسية لتأمين البحر الأبيض المتوسط ودول شمال افريقيا والساحل والصحراء ومراقبة الهجرة غير القانونية وشبكات التهريب والإرهاب ..الخ

3. تنويع الشركاء لتحسين شروط التفاوض وفرص تمويل ميزانية الدولة وترفيع قيمة الاستثمارات الدولية والمبادلات التجارية الخارجية .

4. اصلاح الوضع الداخلي وتحصين الجبهة الوطنية أولا ، لأن شراكة دول العالم ومؤسساته الاقتصادية والمالية مع أي دولة تأخذ بعين الاعتبار مناخ الاستثمار ومؤشرات الاستقرار والسلم المدني وطنيا .

5. توظيف موقع تونس الإقليمي وثراء تجاربها السياسية والثقافية وانخراطها في نادي الدول التي تبنت القيم الديمقراطية الكونية للحصول على ما تحتاجه من دعم لاقتصادها واستقرارها وتنمية مواردها البشرية والمالية .

الخاتمة :

رغم تشعب أبعاد الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا وشرق أوربا ، يمكن للبلدان النامية وغير النفطية مثل تونس أن توظف هذه الحرب للخروج من أزماتها الهيكلية والظرفية المتراكمة .

ويحكم الصبغة غير التقليدية للأزمة الحالية لابد من اعتماد سياسات وحلول غير تقليدية ، لاسيما عبر تشريك المؤسسات العسكرية والأمنية والقطاع الخاص والنخب الثقافية في التحركات الديبلوماسية الرسمية وشبه الرسمية و” الديبلوماسية الموازية “.

كمال بن يونس

مستشار دولي . باحث في السياسة الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *