الثورة السودانية تستشرف فصلها الرابع .. بقلم جعفر عباس

بدأ الفصل الأول للثورة السودانية، التي ما زال أوارها مستعرا في منتصف كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وانتهى باعتصام آلاف المطالبين برحيل نظام الرئيس عمر البشير أمام ساحة قيادة الجيش السوداني، مما حمل اللجنة الأمنية العليا للنظام على الانقلاب على رأس النظام (البشير)، وتشكيل مجلس عسكري يمثل رئاسة الدولة، يجلس على قمة هرمه نائب البشير الفريق عوض بن عوف. ودخلت الثورة بذلك فصلها الثاني الذي كان قصيرا؛ لأن الإطاحة بابن عوف لم تستغرق أكثر من ثلاثين ساعة.

ومنذ منتصف نيسان/ أبريل من العام الجاري؛ وفقرات وسطور الفصل الثالث من الثورة السودانية تتشابك وتلغي بعضها بعضا، بسبب التناحر والتشاكس بين القوى المدنية التي قادت الثورة، والمجلس العسكري الذي ظل يقترب من تلك القوى تارة ثم يجافيها ويعاديها تارات كثيرة، وشهدت الشهور القليلة الماضية أحداثا دموية راح ضحيتها العشرات من أنصار الثورة، ولم يكن أمام القوى المدنية المطالبة بقيام سلطة مدنية من سلاح للضغط على العسكر، إلا بتصعيد حركة الاحتجاج على ما اعتبرته محاولة من العسكر للاستفراد بالسلطة. وكان أن نجحت في تنظيم مواكب جماهيرية ضخمة؛ جعلت العسكر يدركون أن سلطة الشارع أقوى من صولجانهم.

وهكذا كانت نهاية الفصل الثالث بقبول المجلس العسكري التفاوض الجاد مع قوى الثورة المدنية لتشكيل حكومة مدنية، وقبول الطرفين بوثيقتين سياسية ودستورية تعالجان تفاصيل تشكيل تلك الحكومة؛ التي ستدير شؤون البلاد لتسعة وثلاثين شهرا، تبدأ من تاريخ التوقيع الرسمي على الوثيقتين، بحضور شهود إقليميين ودوليين في السابع من الشهر الجاري أو بعده بأيام قليلة.

شهد الفصلان الأول والثالث من الثورة السودانية أحداثا دموية راح ضحيتها العشرات قتلى والمئات جرحى؛ كانوا مهر الاتفاق في الثاني من آب/ أغسطس الجاري على كافة تفاصيل الحكم المدني الانتقالي. ويستبشر معظم من ظلوا يرابطون في الشوارع والميادين طوال أكثر من سبعة أشهر لحراسة حلم الدولة المدنية؛ بأن يكون الفصل الرابع من ثورتهم خاليا من الدماء، وخطوة أولى في مشوار الألف ميل نحو دولة المواطنة وسيادة القانون.

وقد لا يكون الفصل الرابع للثورة السودانية، الذي كُتِبت سطوره الأولى قبل أيام قلائل دمويا؛ لأن التشاكس والتناحر خلاله سيكون بين القوى المدنية العزلاء، التي أُوكل اليها أمر تشكيل الحكومة الانتقالية، ولكن من المؤكد أنه سيكون تناحرا شرسا قد يعرقل مساعي تشكيل الحكومة، أو يشل قدرات الحكومة بعد تشكيلها.

فقد ركبت قارب الثورة في فصولها المختلفة، كيانات دأب بعض قادتها على التهافت على كراسي السلطة، ولو بشروط مذلة على مدى سنوات حكم البشير، وبعضٌ يرى أنه حمل السلاح في مرحلة ما ضد نظام البشير، وآن له أن ينعم بالسلطان والصولجان خلال الفترة الانتقالية.

ولهذا ستكون الأمور خلال الفصل الرابع من الثورة السودانية شائكة وشائهة، بسبب بعض التنظيمات التي لا تدرك أن التحدي الأكبر أمام الحكومة المرتقبة هو تفكيك دولة البشير العميقة، ومحاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة وتحقيق العدالة بفتح ملفات جرائم نظام البشير، ثم المجازر التي شهدها السودان خلال الأسابيع القليلة الماضية قبل الالتفات الى أمور معاش الناس وتوفير الخدمات الضرورية، مثل التعليم والصحة والكهرباء والماء.

فحتى بعد أن قبل المجلس العسكري بالتفاوض بجدية مع قيادات قوى الثورة حول آليات نقل السلطة إلى المدنيين، تعطلت المفاوضات بينهما شهرا كاملا لأن الحركات حاملة السلاح خلال حكم البشير، والتي شكَّلت ما بات يعرف بالجبهة الثورية، طالبت بأن تتفاوض معها تلك القيادات في أديس أبابا حول قضايا السلام في الأقاليم المضطربة، ثم مقاعدها في هياكل السلطة الانتقالية، خاصة مجلسي السيادة والوزراء.

وبينما أنصار الثورة مبتهجون في الشوارع بما تم في الثاني من آب/ أغسطس الجاري من توافق مدني- عسكري على كافة تفاصيل تشكيل حكومة مدنية، خرج بعض ممثلي الجبهة الثورية للاحتجاج بأنه تم استبعادهم من المفاوضات التي أفضت الى ذلك التوافق، وصاروا يشكون من “الإقصاء”، تماما كما التنظيمات السياسية التي كانت على متن مركب البشير حتى غرقه في 11 نيسان/ أبريل الماضي، وتريد أن تكون جزءا من النظام الجديد الهادف إلى نقض غزل النظام الذي كانوا من أنصاره حتى رمقه الأخير.

ولو جاز للقوى التي حملت السلاح حينا من الدهر ضد حكم البشير أن تطالب بحصة في مقاعد الحكم الجديد، لكان أَوْلى بذلك تنظيم “الحركة الشعبية قطاع الشمال” بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان (الدارفورية) بقيادة عبد الواحد محمد نور، اللتين لم تتخاذلا قط في مواجهة نظام البشير، وما زالتا قابضتين على جمر العمل العسكري، وإن أعلنتا وقف العمليات المسلحة منذ أن تفجرت الثورة، وأعلنتا تأييدهما لقيام حكومة مدنية.

والشاهد هو أن الفصل الرابع من الثورة السودانية، والذي سينتهي خلال شهر حسب الإعلان الدستوري المُجاز من العسكر والمدنيين، سيكون شديد الاضطراب، بسبب تهافت أدعياء الثورية على كراسي السلطة الانتقالية، ويبقى الأمل في أن حكومة مدنية ستتولى مقاليد الأمور في السودان في، أو قبل الأول من أيلول/ سبتمبر بقليل، وتشرع في كتابة الأسطر الأولى في الفصل الأول من عمر سودان جديد معافى من الانقلابات العسكرية والاحتراب الأهلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *