الانتقال الديمقراطي في تونس وواقع الأحزاب ، السلطة والشعب .. بقلم محمد العياري

في واقع الانتفاضات الشعبية والتغيرات السياسية الكبرى، لا يمكن الاحتكام الى نمط واحد من التحليل والوصف لما حصل من حيث أسبابه ونتائجه ’ بل نلاحظ اختلافا وتعددا للنصوص المفككة لشيفرات الاحداث والوقائع. هذا التعدد يعبر عن عمق التأثير وخصوصية ما حدث قياسا على نتائجه على المستوى السياسي والاقتصادي والمجتمعي ككل ’ ولكنه قد يحجب في جانب معين السؤال المتعلق بطبيعة هذا الحدث ليس بما يعنيه ان كان ثورة أو انتفاضة أو غيرها ’ بل يتعلق الامر بالعنوان المؤطر للحدث . فلحظة 17ديسمبر2010/14جانفي 2011 هي بلا ريب نقطة التغيير الجدري في علاقة بالسياسة والتشكيلات السياسية والاجتماعية ’ وهي لحظة التدشين لمسار لازال يلقي بضلاله على واقع وحال البلاد ونحن على مشارف تدشين العقد الأول لما سمى بالانتقال الديمقراطي.

Image preview
هذه التسمية هي العنوان المرجعي لأحداث ما بعد 140جانفي 2011 ويتجاوز كونه توصيفا لمسار سياسي ليتمظهر كمقياس بل كمرجعية للممارسة السياسية بأبعاد المشاركة والتنظم والحكم والمعارضة .فما لذي يفرضه هذا المرجع؟ وما هى المساحة السياسية لهذا المربع المسمى بالانتقال الديمقراطي؟
الإجابة على هذه التساؤلات سوف تستند على خصائص الفعل السياسي في تونس منذ لحظة 14جانفي 2011 استنادا على الكل دون الجزء حتى لا نغوص في النقد المباشر للفاعل السياسي والذي لا نعفيه من مسؤوليته لكن موضوع النص يجعلنا نبحث فيما قلنا أنه كليات .
هذا العمل يعيد قراءة العلاقة بين الانتقال الديمقراطي بوصفه عنوانا ’ الأحزاب بوصفها وسيلة ’ السلطة بوصفها غاية والشعب بوصفه مرجع محدد في عملية التشكل الحزبي وممارسة السلطة .
أولا : الانتقال الديمقراطي والأحزاب
بالعودة الى انتخابات 2011 ’ نلاحظ الطفرة على مستوى عدد الأحزاب والتي تشكلت بمقتضى المرسوم عدد88 لسنة 2011 المنظم لعمل الأحزاب السياسية. هذا على مستوى الشكل . على مستوى المضمون ’ تتجلى المشكلة الرئيسية التي أعاقت التطور النظري والممارسة العملية ومن ثم حكمت على الحياة السياسية في تونس بالجمود, أن هذه الكيانات السياسية ’ وهنا نشير الى العائلات السياسية الكبرى من حيث عمقها التاريخي بمعنى تاريخ تأسيسها . هذه الأحزاب احتكرت عنوانا رئيسيا موجها ومحددا لتحركاتها وتكتيكاتها ولازال الى اليوم يفعل فعله في واقع الممارسة والتنظير ’ ألا وهو معطى الهوية بتفرعاتها السياسية والأيديولوجية والتي لازالت محددة الى اليوم وان اتخدت أشكالا أخرى على مستوى العناوين . الهوية ليس بمعنى هوية الحزب ’ بل بمعنى المشترك الاجتماعي والجمعي .
هذه الإشكالية الجوهرية تمثل العائق وجدار الصد في وجه القراءة الموضوعية والعلمية للمجتمع . فبين تصور ماضوي يستعيد منجزات تاريخية يعاد تصورها كحلول للحاضر ’ يظهر أصحاب هذا الطرح كجماعة عقائدية مغلقة وترتهن الى منطق الزعامة الكاريزماتية بمعناها الديني .على الجانب الاخر تتشكل تكتلات سياسية ترفض أو تقوم بعملية انتقاء لما تعتبره من ممكنات التوظيف لغاية الاستقطاب من الإرث الحضاري والتاريخي والسياسي المشترك.
استنادا الى ذلك’ تصبح هذه الأحزاب مرتهنة الى رؤية أيديولوجية ضيقة ترتكز على الانشغال بإزاحة المختلف دون الاهتمام بالقضايا الحقيقية ’ بل تعتبر ان حل المشكلات والتناقضات مرهون بتطبيق رؤيتها ولا أقول برنامجها لأنها في النهاية لا تحتكم على رؤية استراتيجية للحكم أو المعارضة ’ فالبرنامج ليس طريقا للحكم بل الحكم يصبح هو الطريق نحو صياغة البرنامج. لذلك يصبح التعامل مع الانتخابات كفرصة للتموقع وممارسة السلطة بمقتضى قانون انتخابي لا يرفع الى البرلمان فائزا بالأغلبية
’ بل يتشكل مشهد فسيفسائي يتطلب تحالفات وتوافقات لا يجمع بينها الحد الأدنى الفكري ’ بل تغدو كجراحة تجميلية وترقيعية أو كأنها دورة ثانية من الانتخابات يحكمها شرط المشاورات وقرار القيادات .هذا المعطى يجعل من الأحزاب قائمة على الشخص الواحد والقرار الممركز ومجرد اختفاء هذه الشخصية القيادية يكون سببا في تشظي الحزب وفي أحسن الحالات تآكل رصيده الانتخابي وتقهقر دوره كلاعب في مباريات التوافقات والتحالفات.
ثانيا: الانتقال الديمقراطي والسلطة
لا ريب أن غاية التنظم الحزبي هي ممارسة السلطة ’ ذلك أن تطبيق البرنامج والتصورات التي يتبناها حزب ما في علاقة بما يعتبره حلولا للواقع ’ يتطلب التواجد في مركز القرار وذلك للاقتراح والمشاركة (دون أن نغفل الوسائل الأخرى للاقتراح ) .وفي تونس واستنادا على التوصيف الذي قدمناه في علاقة بالاحزاب السياسية من حيث هيكلتها ’ تكتيكاتها واليات اشتغالها ’ مضافا اليه طبيعة القوانين المنظمة لعمل السلط التشريعية والتنفيدية من جانب أخد القرار والتنفيد والتكامل بين وحدات التشريع والتنفيد ’ نلاحظ أولا تشتت السلطة وتفرعها ’ ثانيا صعوبة العمل برؤية موحدة بسبب اختلاف المصالح الحزبية وحسابات الربح والخسارة أثناء صياغة القوانين ولحظة التصويت على تمريرها واعتمادها .عامل اخر مهم في علاقة بممارسة السلطة وهو المعارضة من داخل السلطة ’ اذ لا معنى لوجود حزب معارض داخل السلطة لان الأحزاب متى تحصلت على النصاب القانوني لتمرير قانون ما ’ فلن يكون للحزب أو الكتلة المعارضة أي دور محوري أو مؤثر علاوة على أن تسمية معارضة داخل السلطة تعني فقط أنها خارج التشكيلة الحكومية. أما عن المعارضة من خارج السلطة فهى بمثابة الغير مرئي أو الغائب تماما وتكتفي بالتفاعل من خلال البيانات والاشكال الاحتجاجية والتشبيك مع هياكل المجتمع المدني من جمعيات ونقابات .
الجانب الاخر للسلطة يتمثل في أن اختيار رأس السلطة التنفيدية لا يكون ضرورة من الحزب الفائز بالأغلبية
على اعتبار ما ذكرناه من خصوصية الأحزاب والية الانتخاب ’ تصبح اليات أخرى مثل التوافق والاتفاق هي سيدة الموقف ’ فالكل المتواجد بالبرلمان معني باختيار رئيس الحكومة وعليه يصبح التكليف غير خاضع في أغلب الأحيان الى منطق الاجدر بل الأقرب على مستوى تطبيق تكتيكات الأحزاب ورؤاها للعمل السياسي.
النقطة الموالية في علاقة بالسلطة أو بالاصح تمثل السلطة أو شكلا من أشكالها مع استقلالية مادية ومعنوية ’ هي الهيئات الدستورية .هذه الهيئات اختصت بالاشتغال على مواضيع كانت فيما سبق مرحلة الانتقال الديمقراطي اما غير مطروحة على جدول أعمال السلطة أو أنها توظفها لصالحها .ورغم إيجابية المشهد ’ الا أن هذه الهيئات هي صنيع التصويت البرلماني بمعنى الاتفاقات والمحاصصات الحزبية مما يجعلها في جانب ما رهينة لتلك الأحزاب أو هي الممثل الرسمي لها .

ثالثا: الانتقال الديمقراطي والشعب
أمام التوصيف المذكور أعلاه للأحزاب السياسية والسلطة ’ يصبح الحديث عن الشعب كفاعل غير متجاوز لدور محور الالتقاء بين الكيانين المذكورين بحيث أن الناخب هو المادة الأولية في تشكل الحزب نظرا الى أن الفاعل السياسي يرتكز على جانب التنظيم المتمثل في الحزب ليؤطر عملية المشاركة تنظيميا ’ وعلى الناخب ليحصل على المشروعية لممارسة السلطة .واقع الحال في تونس يعبر بعمق على قطيعة بين الشعب أو جزء كبير منه وبين الأحزاب نظرا الى عاملين : الأول طبيعة اشتغال هذه الأحزاب كما وصفنا سلفا وعزلتها عن الشعب بحيث أنها لا تعبر على تطلعاته ولاتحاول أن تكون رجع الصدى لبرنامج شعبي قديم متجدد يختصره شعار : شغل ’ حرية ’ كرامة وطنية .بل يترك الشعب لتأثيرات الاعلام والتحاليل المكثفة واستطلاعات الرأي لتوجيهه والتحكم في اختياراته.
العامل الثاني هو طبيعة العمل السياسي ذاته والذي لم يمكن الشعب من الانشغال بالسياسة مثل انشغاله ببقية المواضيع ووقع استثناءه تاريخيا من المشاركة الجدية مما يجعل من موضوع السياسة بالنسبة اليه شأنا له خاصته وأمواله وعلاقاته.
هذا ما حاولنا بيانه في هذا النص .ويظهر بصورة جلية أننا لم نتطرق الى الحديث عن الفاعلين السياسيين المصنفين تحت خانة المستقلين كما أننا لم نتحدث على السلطة المحلية ولم نخض في المجتمع المدني كسلطة شريكة للأحزاب في كثير من المواضع .هذا الاقتصار على ما كتبناه أردنا من خلاله أن نشرح واقع العملية السياسية في تونس بشكلها الكلاسيكي المتكون من حزب ’ شعب وسلطة .لان الانتقال الى الحديث على فواعل أخرى مثل المجتمع المدني والمستقلين يعتبر عملية عبثية ونحن لم نقم بعد بإيجاد الحلول لهذه الكيانات الكلاسيكية .هذا دون الخوض في تناقضات المجتمع المدني والمستقلين في الحالة التونسية.
نقطة النهاية لهذا النص وان وقف القارئ على محك النقد أو التفاعل الإيجابي الا أنها فاصلة تتطلب اسهاما بعنوان التطوير أو الإضافة ’ غايتنا من ذلك نحت تصور وطني لممارسة سياسية تعبر عن إرادة جماعية لشعب قدم الكثير وفاعل سياسي ان له أن يقدم ما هو مطلوب منه , وهى مساحة مفتوحة على التقييم لمسار الانتقال الديمقراطي مع المحافظة على حده الأدنى وهو الحرية أولا واخرا.

محمد العربي العياري /تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *