اتفاق الإمارات- إسرائيل.. هل يثبت نظرية “السلام مقابل السلام” أم يدحضها؟

في الثالث عشر من آب الحالي أعلن رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب عن النجاح في التوصل إلى اتفاق سلام بين دولتي الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، لتكون الإمارات ثالث دولة عربية تطبّع علاقاتها وتعقد اتفاق سلام مع إسرائيل، بعد اتفاق كامب ديفيد الذي وقّعه الرئيس المصري أنور السادات مع رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغن في العام 1979، والاتفاق الأردني الإسرائيلي الذي وقعه الملك حسين مع رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين في العام 1994.

US Secretary of State Mike Pompeo (L) and Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu bump elbows ahead of making a joint statement to the press after meeting in Jerusalem, on August 24, 2020. Pompeo arrived in Israel kicking off a five-day visit to the Middle East which will take him to Sudan, the United Arab Emirates, and Bahrain, focusing on Israel’s normalising of ties with the UAE and pushing other Arab states to follow suit. / AFP / POOL / DEBBIE HILL

إن تسمية الرئيس الأميركي لاتفاق تطبيع العلاقات الدبلوماسية الإماراتي الإسرائيلي بأنه اتفاقية سلام (peace agreement) لم تأت عبثا ولا يمكن اعتبارها زلة لسان، بل جاءت لإضفاء هالة ومزيد من الأهمية على الاتفاق الذي يقضي بتطبيع العلاقات بين البلدين اللذين لم يخوضا أي حرب بينهما ولا شهدا نزاعا مسلحا، ولا توجد بينهما حدود مشتركة تتطلب تسويات وتعديلات حدودية.

وبعد ساعات من إعلان الرئيس الأميركي عن الاتفاق الذي حمل اسم “اتفاق أبراهام” خرج رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحافي خاص، كان سبقه بمشهد مسرحي حافل بالإثارة عند خروجه المفاجىء من اجتماع المجلس الوزاري المصغر الخاص بالكورونا، والذي قصد أن يكون خروجا علنيا، وأن يرفقه بكل الإيحاءات الممكنة التي تشير إلى أن الأمر مرتبط بمصلحة وطنية عليا وحدث دراماتيكي لا يستطيع الإفصاح عنه (الآن) ولا حتى إشراك حلفائه به (لأنه لا يريد أن يفسده التسريب الإعلامي)، وهو ما رفع سقف التوقعات والإبهار إلى حده الأقصى وفتح باب التكهنات عاليا، وسلط كل الأضواء صوب الساحر الذي يقف بهدوء تحت هالة الضوء الوحيدة على مسرح الأحداث الافتراضي.

أجواء الإثارة والإبهار، وإثارة فضول الجمهور والإعلام، لم تكن أدوات ثانوية أبدا، بل هدفت إلى إزالة أي شبهة بوجود شركاء محتملين في صناعة المعجزة/ الإنجاز، وتكريس صورة النجم الأحادي الذي يقف على خشبة مسرح التاريخ الذي تكفل بصنعه أمام جمهور يوجه له الطعنات لأسباب تافهة (قضايا الفساد)، وشركاء في الائتلاف لا يتركون له الهامش الكافي لاجتراح المزيد من المعجزات واستكمال مهمته المقدسة التي نذر نفسه لها.

يدرك نتنياهو من خلال تجربته الطويلة في الحكم والتعامل مع الجمهور والإعلام، أن اللحظات الكريمة والمتسامحة التي يهبها التاريخ للسياسي وهو في مرحلة الأفول، هي لحظات نادرة وقد لا تتكرر، لذا لا يجب الاكتفاء بالهالة العابرة التي تترافق معها، بل استغلالها واستنفادها حتى النهاية، من خلال إطالة أمدها وتكريسها على أنها معجزة، والاستمرار في إرسال رسائل مركزة ومكثفة ومتكررة وواضحة تؤكد استحالة وقوعها دون قدراته الفريدة التي يعرف هو فقط كيف يوظفها لاستنفادها حتى الرمق الأخير، ليس فقط دون مساعدة شركائه، بل رغما عن مناكفتهم الصبيانية وحداثة تجربتهم (الأمر الذي قد يبدو بأنه استكمال لحملاته الانتخابية الثلاث ضدهم والتي رفع فيها شعار أنه يلعب في دوري مختلف عنهم).

نظرية نتنياهو

لم يسهب نتنياهو في الحديث عن الاتفاق بحد ذاته، ذلك لأنه لا يحتوي على أية تفاصيل مركّبة ومتشابكة في حل عقد مزمنة، ولأنه لا يضع حدا لأنهار الدماء التي تراق في الشوارع، ولا يتحدث عن حدود وطبيعة، ولا عن أهمية الأراضي التي سوف تسترد، وعن الجنود الذين سيلقون السلاح ويعودون من جبهات القتال التي تأكل شبابهم، بل لكون الاتفاق الذي لا تتجاوز عدد كلماته 450 كلمة هو أقرب إلى إعلان النوايا، والجمل الإنشائية المليئة بالوعود وحسن النوايا والآمال الوردية التي تبشر بالرخاء وفتح باب الاستثمارات المتبادلة.

بدلاً من ذلك تحدث نتنياهو عن نفسه، أو بالأحرى عن نظريته التي استطاع (عبر سنوات من العمل) أن يضع من خلالها حدا لطريقة ونهج سابقيه ممن عقدوا اتفاقيات سلام مع دول عربية عبر تقديم “تنازلات”، والانسحاب من الأراضي التي احتلتها إسرائيل لهذه الدول، أو مقابل التسليم بمبدأ “الأرض مقابل السلام” في حالة الفلسطينيين، معلنا بشكل مفصل أسس نظريته الجديدة، والتي جاء الواقع أخيرا ليثبت صحتها بشكل لا يمكن الاستئناف ضده أو التشكيك به، على حدّ تعبيره.

كانت نظرية نتنياهو مجرد شعار للمناكفة الداخلية والتهرب من استحقاقات عملية السلام والدعاية الانتخابية، ولكن ما بدأ كشعار اعتراضي على اتفاق أوسلو ورفضه في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم، تطور مع الزمن، وطول التهرب من اتفاقيات السلام أصبح نظرية متسقة جاء الاتفاق مع الإمارات ليعطيها زخما و(يثبت) صحتها وواقعيتها وإمكانية تطبيقها بنجاح.

الاتفاق مع الإمارات وفق نتنياهو هو الأول مع دولة عربية منذ 26 عاما والذي يقوم على مبدأين يجعلانه مختلفا عن الاتفاقات السابقة وهما: إنه سلام قائم على أساس “السلام مقابل السلام” (ولا شيء آخر)، والثاني أنه سلام قائم من منطلق القوة، أي أنه سلام لم ينجز وما كان بالإمكان أن ينجز لو كانت إسرائيل ضعيفة أو أضعفت نفسها من خلال الانسحاب إلى حدود 1967.

بدل الانسحاب وتقديم “تنازلات” اعتمد نتنياهو على مبدأ إسرائيل القوية، والتي يكمن مصدر القوة لديها في الدمج الناجح بين اقتصادها المنتعش والقوي مع قوتها العسكرية وتفوقها النوعي، مع عظمتها التكنولوجية، وهي عوامل مكّنتها من تحقيق تأثير دولي ومكانة غير مسبوقة جعلتها دولة مرغوبة ومحطّ إعجاب.

بالنسبة لنتنياهو هناك حقيقة بسيطة هي وحدها القادرة على صنع السلام وهي أن (القوة تقرب البعيد والضعف يبعد القريب)، خاصة في منطقة مثل الشرق الأوسط (التي لا ينجو فيها سوى القوي). أما القوي فهو الذي يستطيع أن يصنع السلام من موقع القوة التي تدمج المركبات الثلاثة السابقة الذكر.

نظرية نتنياهو كما شرحها في مؤتمراته الصحافية ومقابلاته ما بعد توقيع الاتفاق الإماراتي (تدحض كليا النظريات الفاشلة التي ادعت أن أيا من الدول العربية لا يمكن أن تعقد اتفاق سلام مع إسرائيل من دون أن يتم التوصل إلى حل عادل يقبله الفلسطينيون للقضية الأساس وهي القضية الفلسطينية) وهو ما يعني وفق نظريته (الخضوع للفلسطينيين وتمليكهم حق الفيتو على السلام مع العرب، وتحويل إسرائيل إلى رهينة بيد “المتطرفين”).

نتنياهو اقتبس نفسه أكثر من مرة خلال الأسبوعين الأخيرين ليؤكد أن نظرية السلام مقابل الانسحاب والضعف ولّت من العالم دون عودة (استخدم تعبيراً يطلق بالعادة على المحرقة النازية وهو” ليس بعد الآن”) وتم استبدالها بنظرية أخرى تؤسس لسلام حقيقي قائم على مبدأ “السلام مقابل السلام”.

السلام مع الفلسطينيين وفق نظرية نتنياهو يمكن أن يتحقق كثمرة للتعاون العربي الإسرائيلي وإعادة وضع العربة خلف الحصان بديلا عن النظرية السائدة حاليا والتي تضع حل القضية الفلسطينية شرطا للسلام مع الدول العربية.

نتنياهو الآخر

يبدو أن نتنياهو وفي حمّى تبشيره بنظريته الجديدة واحتفائه بها، عندما يتحدث عن الآخرين الذين سبقوه وعقدوا أو حاولوا عقد اتفاقيات سلام قائمة على مبدأ “الأرض مقابل السلام”، إنما يقصد نفسه أيضا.

ففي خطابه الشهير، الذي وصف بالتاريخي، والذي ألقاه في جامعة بار إيلان العام 2009، تحت ضغط إدارة باراك أوباما، قرر نتنياهو أن يوجه حديثه إلى القادة العرب مباشرة قائلا: “إذا ما مُنحنا هذه الضمانة الخاصة بنزع السلاح والتدابير الأمنية اللازمة لإسرائيل، وإذا ما اعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولة الشعب اليهودي، فإننا سنكون مستعدين ضمن تسوية سلمية مستقبلية للتوصل إلى حل يقوم على وجود دولة فلسطينية منزوعة السلاح إلى جانب الدولة اليهودية”، مشددا على أن “قضية الأراضي ستكون مدار بحث في اتفاق الوضع الدائم”.

هذا الخطاب جاء بعد أكثر من عقد على توقيعه شخصيا مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على اتفاق الخليل (بروتوكول الخليل)، الذي أعادت فيه قوات جيش الاحتلال انتشارها في مدينة الخليل التي تعتبر الثانية من حيث قدسيتها لدى المستوطنين، ومشاركته بعدها في مفاوضات (واي بلانتيشين) وبعدها بأقل من سبع سنوات على تصويته لصالح الانسحاب الذي قاده أريئيل شارون من قطاع غزة.

هذه الأمثلة بالإضافة إلى موافقته على الدخول في المحادثات التي رعاها وزير الخارجية الأميركي جون كيري في العام 2013-2014، تحت مبدأ الأرض مقابل السلام، والتي تمخضت عنها الوثيقة التي أطلق عليها وثيقة كيري، والتي رغم أنها لم تنضج لتتحول إلى اتفاق، إلا أنها نصّت، وبموافقة مبعوث نتنياهو الخاص إسحاق مولخو، على أن (الحدود الجديدة والآمنة والمعترف بها دوليا لإسرائيل وفلسطين ستطرح للتفاوض على أساس خطوط العام 1967)، تثبت أن نتنياهو يخاطب نفسه، وأن اكتشافه الجديد لمبدأ “السلام مقابل السلام” فاجأه هو شخصيا قبل أن يفاجئ رابين وبيغن.

حتى خطة ترامب “صفقة القرن”، التي أعلن موافقته عليها واشتق منها خطة الضم، تسلّم بمبدأ (التنازل) عن أراض في الضفة وإقامة كيان فلسطيني.

الاتفاق الإماراتي ومبدأ “السلام مقابل السلام”

وصف رسام الكاريكاتير والمدوّن الإسرائيلي ميشيل كيشكا نظرية “السلام مقابل السلام” التي يروّج لها نتنياهو بأنها مجرد شعار كاذب، الهدف منه خلق تمايز بينه وبين الآخرين والتقليل من أهمية الاتفاقيات السابقة التي عقدت مع دول خاضت حروبا مع إسرائيل لتصويرها على أنها اتفاقيات انطوت على تراجع وجلبت سلام ضعفاء مقابل إعلان نوايا بفتح علاقات دبلوماسية مع الإمارات.

صحيفة “غلوبس” الاقتصادية طرحت سؤالا تشككيا حول حقيقة كون الاتفاق مع الإمارات اختراقا تاريخيا فعلا، معتبرة أن الإجابة على هذا السؤال تكمن في الإجابة على سؤال آخر وهو: هل بالإمكان فعلا تجاوز الفلسطينيين؟

حتى القناة السابعة التي تعتبر إحدى أبواق اليمين الاستيطاني، نقلت عن حاخام البحرين مارك شناير قوله إن الاتفاق مع الإمارات أعاد وضع حل الدولتين على الطاولة بدل أن يلغيه بالإضافة لإلغاء فكرة الضم وإزالتها عن جدول الأعمال. بينما قالت حركة “السلام الآن” على موقعها الرسمي إن نظرية نتنياهو هي محاولة للتهرب من مواجهة الصراع الحقيقي والهام الذي يؤثر على الإسرائيليين، معتبرة أن شعار “السلام مقابل السلام” عبارة عن أخبار كاذبة (fake news) لا أكثر.

وأجرى معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب ندوة موسعة لمناقشة الاتفاق بكافة أبعاده ليخلص إلى أن أحد أهم مؤشرات الاتفاق الأكيدة هو أن القضية الفلسطينية تراجعت ولم يعد لها ذات التأثير لكنها باقية ولم تنته.

لقد توقع نتنياهو أن يحدث اتفاق الإمارات أثر الدومينو وأن تتبع بقية دول الخليج الإمارات لتوقع على اتفاقيات سلام قائمة على نفس المبدأ.

غير أن السعودية، التي تعتبر الدولة الإسلامية والإقليمية الأهم، جددت تأكيدها على أنها لن تطبع علاقاتها مع إسرائيل قبل حل القضية الفلسطينية، وهو ما يشكل انتكاسة حقيقية لنظرية نتنياهو، وتبعتها السودان بإقالة الناطق بلسان الخارجية السودانية بعد إعلانه أن خطوة الإمارات جريئة، وأن بلاده تتطلع لعقد اتفاق سلام مع إسرائيل، وتبع ذلك تأكيد القمة الثلاثية التي جمعت قادة مصر والعراق والأردن مركزية القضية الفلسطينية وتحقيق السلام العادل والشامل الذي يلبي حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وهو ما أكده رئيس الوزراء المغربي سعد الدين العثماني من خلال رفض بلاده كل عمليات التطبيع مع إسرائيل.

هذه المواقف من الدول التي كانت تعوّل إسرائيل عليها، تثبت أن نظرية نتنياهو ليست أكثر من تعبير عن لحظة سياسية خاطفة وغير مستقرة، تقاطعت فيها عوامل داخلية تتمثل في حالة الضعف الفلسطينية والانقسام الداخلي، ودولية أبرزها وجود إدارة معادية في البيت الأبيض تجاهر بعدائها للشرعية الدولية وانحيازها لأيديولوجيا وفكر اليمين الإسرائيلي، وحالة عامة عربية منهارة مكّنت من تحقيق “إنجاز” جزئي لا يؤسس لظاهرة أو اختراق كبير، وأن القضية الفلسطينية باقية إلى أن تحل على أساس حل الدولتين المستند إلى الشرعية الدولية.

كما أن الاختراق الذي يمكن أن يؤكد نظرية نتنياهو، وأن يجعلها قابلة للتحقق، يكمن في القدرة على إحداث اختراق جذري في وعي ومواقف الأحزاب والنقابات والأطر الشعبية والنخب العربية، التي ما زالت تقف كالسد المنيع في وجه الأنظمة التي تراودها نفسها إما تحت الضغط الأميركي، أو الإغراء الإسرائيلي، بعقد اتفاقيات تطبيع علاقات مع إسرائيل بمعزل عن القضية الفلسطينية وحلها حلا عادلا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *